شكلت كتب السيرة الثقافية أو كتب الأجيال الثقافية السيرية ظاهرة مهمة في الأوساط الثقافية العراقية، ولا أعني بها كتب المذكرات الشخصية، إنما الكتب التي كتبت عن جيل ثقافي، أو أجيال متنوعة في الثقافة العراقية، وأحسب أن هذه الكتب انطوت على رصيد معرفي وثقافي مهم، أولاً لأنها أقرب إلى القلب والذائقة، فهي متخففة كثيراً من أعباء الدراسات النقدية، ومشارط المناهج الحادة التي تشرِّح النصوص أو تضع الشعراء في خانات، وتحولهم إلى جثث هامدة دون رفيف، وثانياً تهتم مثل هذه الكتب بالسير الشخصية للشخصيات الثقافية المعروفة، وتمنح القارئ مساحة مهمة للتعرف على أمزجتهم الخاصة، وكذبهم وادعاءاتهم، أو صدقهم وإخلاصهم، كما أن فيها إطلالة واسعة على التاريخ السياسي والاجتماعي وحتى الديني، حيث تبين تلك السير مراحل الاشتباك السياسي وصراعاته وتحولاته، فهي الأقدر على تبيان ندم المثقفين من عدمه في الانتماء للأحزاب السياسية، فالأحاديث الخاصة التي ترويها تلك السير هي الأكثر وثوقاً بالتأكيد.
ورغم المؤاخذات التي يؤاخذ عليها كتاب السير الثقافية بأنهم يروون فقط ما يعزز وجودهم، ويدعم أفكارهم، وأنهم بالنتيجة يصورون أنفسهم أنبياء وسط عالم صاخب بالفوضى، فإنَّها تبقى وثيقة جمالية واجتماعية وسياسية، وحتى وثيقة نقدية مهمة، ومن هذه الكتب «انفرادات الجيل الستيني» لعبد القادر الجنابي وكتاب «الموجة الصاخبة» لسامي مهدي و«الروح الحية» لفاضل العزاوي و«تهافت الستينيين» لفوزي كريم، وكأن مثل هذه الكتب سنة ابتدعها الستينيون في أنْ يكتبوا عن جيلهم بهذه الطريقة الخالية من الضبط، ولكنها القريبة للحقيقة وللتوصيل، وهناك كتب أخرى صدرت فيما بعد مثل كتاب «حطب إبراهيم» لمحمد مظلوم، حيث تحدث عن الجيل الثمانيني، وكتاب «خريف المثقف» لمحمد غازي الأخرس الذي تحدث عن أجيال عديدة من الثقافة العراقية حتى عبر بهم لحظة ما بعد 2003.
إن ما دعاني للحديث عن هذه الظاهرة المهمة هو كتاب «الرحلة الناقصة» للكاتبة «فاطمة المحسن» والذي أرى أنه وثيقة مهمة تصطف مع كتب الجيل الستيني، لأن معظم ما دار من مذكرات كان شخوصها مثقفي الجيل الستيني أنفسهم، سواء في العراق أيام السبعينيات أو في لندن أو بيروت، يأتي هذا الكتاب، الذي طبع قبل فترة قصيرة مختلفاً نوعاً ما عن بقية الكتب التي ذكرت، فلم تكن فاطمة المحسن منافسة لجيل الشعراء، ولم تدخل معهم بكتابة بيانات شعرية، ولم تزحمهم في منصب، أو نشر قصيدة أو دراسة، لذلك فحجم الوقائع التي تسرد لا تتخللها المصالح الشخصية كما موجودة في كتب الستينيين، أو الكتب التي تلتهم، والتي كتبت من منافسين شرسين، وبروح رسولية في معظمها، وبهذا فإننا كقراء نضمن منطقة حيادية ترويها مثقفة عراقية مهمة رافقت أجيالاً من الشعراء والفنانين والصحافيين والسياسيين، واقتربت منهم، ومن تجاربهم، ومن شخصياتهم كما يرويها الكتاب، وبهذا فالرحلة التي أسمتها بالناقصة، فيها الكثير من الاكتمال، لعل أول تمظهراتها أن الكتاب عبارة عن كشكول ثقافي عالي الجودة، يجمع بين روح السرد الشيِّقة والمشوِّقة وبين الانتقال بوصف الأماكن كما نراه حين تصف بيروت وبغداد والناصرية ولندن، فهي تجتهد كثيراً بتأثيث المكان سردياً، كما تصف بيتها في لندن، أو بالأحرى غرفتها في لندن حيث تقول: «هي غرفة صغيرة لا تتجاوز الأمتار القليلة، ولكنها مطلة على الحديقة، بل تكاد تكون وسطها، وعندما يزهر الورد في الصيف والربيع والخريف تصبح مع قليل من الشمس والموسيقى وطناً للغبطة»، أو كما تصف بيروت أيام السبعينيات، حيث تضيف على روح بيروت لمسة حانية من شابة دخنت السجاير بحرية فيها، وجلست على مقاهيها الأنيقة دون حذر أو خوف، بيروت التي تنقلت فيها فاطمة المحسن مع زوجها عالم الاجتماع الراحل الدكتور فالح عبد الجبار.
ومن ثم يمنح هذا الكتاب إطلالة على الحياة الثقافية والاجتماعية أيام السبعينيات في بغداد وبيروت من انفتاح هائل، ومن حرية تعيشها المرأة العربية، خصوصاً في بيروت أيام دراستها هناك.
المهم في هذا الكتاب كما أراه أنه كتاب نقدي من حيث لا تخطط له فاطمة المحسن، فقد امتلأت صفحاته بآراء نقدية مهمة عن تجارب الشعراء العراقيين، من بلند الحيدري إلى سعدي يوسف، ويوسف الصائغ، وفوزي كريم، وسركَون بولص، وفاضل العزاوي، ومؤيد الراوي، وعشرات آخرين، ولو أن فاطمة المحسن خططت لهذا الكتاب أن تدرس نصوصهم الشعرية ضمن منهج نقدي صارم، لما خرجت بالنتائج النقدية التي تلخص تجاربهم بكل وضوح ودقة، فضلاً عن الآراء النقدية فإن في الكتاب أراء بشخوص أولئك المبدعين، وتحليلاً نفسياً بارعاً لشخوصهم، وجنونهم، وكذبهم، ونكاتهم، ووحشتهم، وقلقهم، وهذا كله جاء عفو الخاطر دون أن تقحمه بمدارس التحليل النفسي، وتحليل الشخصيات ضمن منهج فرويد أو غيره من علماء النفس، إنما سرد هذه الشخوص بتلقائية عالية يمنح القارئ إطلالة كبيرة على نفسية أولئك المبدعين الذين تقسمهم فاطمة المحسن تقسيمات مهمة ما بين شفاهيين عظماء لكنهم من دون نتاج كمؤيد الراوي، وتضع مبرراً لعدم النتاج بوصفه موقفاً عدمياً أمام العالم (جيل الستينات المهاجر استهلكوا أنفسهم مبكراً، وقلة منهم نظروا إلى الكتابة كمصير يستحق التضحية. لعل بعضهم أراد أن يعيش الحياة كحالة شعرية، أو يعيش الشعر والكتابة والقراءات كأوراق مبعثرة على طاولات المقاهي، وثرثرات الأزمنة المؤجلة إلى آخر العمر)، وواقعاً هذا رأي نقدي مهم يفحص تجربة ذلك الجيل من خلال أحاديثهم اليومية المستمرة، ومن خلال النزر اليسير الذي ينشرونه، لتخلص فاطمة المحسن إلى هذه النتيجة الصادمة (وعلى ما عشته من سنوات طويلة مع المثقفين، لم ألتق إلا بالقليل ممن نذر نفسه للكتابة)، وهي نتيجة مهمة خرجت بها المحسن عن تجربة الجيل الستيني المهاجر تحديداً لأنها لم تمر على جيل الستينيات في العراق إلا قليلاً، حيث مرَّت بتجربة يوسف الصائغ أيام عملهم في طريق الشعب وحبه لأغنية «يا منية النفس»، لكنها تتحدث عن يوسف بعاطفة حادة وحانية في نفس الوقت (بعد هذا كله أرى يوسف كما أرى نفسي، فهو لا يحتاج إلى تفسير، فقد كان مثل شخصيات روائية يكتبها العراق كل يوم ويمحوها ويبدل زاوية الكاميرا)، وهكذا تستمر المحسن بتقسيم المثقفين العراقيين من شفاهيين كما ذكرت إلى كسولين يكتفون بالأحاديث الجانبية التي تغطيها بعض المبالغات مثل سركون بولص، ونادراً ما تجد عراقياً يهتم بالكتابة كموقف من الحياة ويصر على ذلك.
الرحلة الناقصة فيها الكثير من الرحلات والتحولات، فيها الحديث الشيق عن المدن دمشق بيروت بغداد لندن بودابست والتي تضع فصلاً أسمته بـ«المدن قبض ريح»، ولكنها اجتهدت كثيراً من خلال لغتها السردية العالية أن تصف تلك المدن وأن تتعامل بحميمية عالية مع تفاصيلها، فلا توجد عقدة المدينة في روح فاطمة، إنما تعد كل المدن التي تمر بها مدنها، بل تجتهد بتأثيث ذاكرتها من خلال هذه المدن، وهي تختلف كثيراً عن عموم العراقيين، الذين لا يفضلون أي مدينة على مدينتهم الأم التي عاشوا بداياتهم فيها، وهي تبرر هذه الروح بالربط ما بين الروح الريفية والروح المدينية، فأصحاب الروح الريفية يبقون يحنون لمدنهم وقراهم ولا يفضلون عليها شيئاً لهذا تجد العراقيين ينزعون نحو هذا الاتجاه.
كما أن في هذا الكتاب إطلالة على أسماء عربية مهمة ارتبطت معهم فاطمة المحسن بعلاقات صداقة وثيقة مثل سعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف وغالب هلسا وفيصل دراج وواسيني الأعرج وزينب الأعوج وعبد الله الغذامي وتركي السديري وآخرين مرَّت عليهم وتذكرتهم بنبل كبير، فضلاً عن وقفاتها الطويلة والكثيرة مع فالح عبد الجبار الذي أهدت الكتاب له، رغم أن حديثها عنه لم تتخلله الحميمية العالية مثلما تتحدث عن المدن، فإنها أفردت لفالح الصفحات الأخيرة، حيث تحدثت معه وكأنه يسمعها ويجلس جوارها، وكأن حديثها نعي بصوت امرأة جنوبية تأخر عن موعده.
الرحلة الناقصة كانت ممتلئة بالكثير من الاعترافات التي ليست من عادة العراقيين في أن يكونوا بهذا الوضوح والشفافية في الحديث مثلاً عن علاقتها بأبيها وأنها كانت لا تحبه، أو أنها من عائلة لا يقول بعضهم لبعض صباح الخير، أو أنها تعترف في التعليق على أحداث مرَّت بها، ومتبنيات سياسية وفكرية دفعت الكاتبة ثمنها، لكنها بعد أربعين عاماً تراجعها بالكثير من الأريحية التي انخفض فيها منسوب الشعارات والمانشيتات العريضة التي كانت تؤمن بها، وبهذا فإن هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية تخص فاطمة المحسن فقط، إنما هي سيرة مشتبكة بالشخوص والمدن والسياسة والصحافة، وهي من السير القليلة التي تكتبها النساء المثقفات واللواتي يلجأن في العادة إلى الصمت أو يكتبن سيرهن من خلال ما يبث في الأعمال الروائية أو القصصية بخلاف هذا العمل الذي خرج ليكون سيرة ثقافية لها ولجيلها ولبلدها وللمدن التي بها والشخوص الذين تعرفت عليهم.
«الرحلة الناقصة»... سير الأجيال الثقافية
فاطمة المحسن تستذكر كتاباً ومدناً في العراق والمنفى
«الرحلة الناقصة»... سير الأجيال الثقافية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة