مزحة الرواية

الكتابة حلم جاد يحتاج إلى السخرية ليتحقق

مزحة الرواية
TT

مزحة الرواية

مزحة الرواية

يحلو للنقد أن يمنح بعض الروائيين لقب «الكاتب الساخر»، استناداً إلى ما يبدو في أعمالهم من ملامح سخرية أو مزاح. هذه التسمية تنطوي على مشكلة صغيرة، إذ تتجاهل الخيط الرفيع الفاصل بين السخرية، من حيث هي عمل عالي الأدلجة (تحقيري وانتقادي)، وبين المزاح من حيث هو عمل منخفض الأدلجة (مضحك ومسلٍ ببراءة)، لكن هذه ليست المشكلة المهمة التي يتضمنها لقب «الكاتب الساخر»، بل إزاحته من أغلبية الكُتّاب إلى خانة «الكاتب الجاد»، وهذا وصف يتضمن بداخله مشكلتين جديدتين؛ الأولى تغمط الكاتب الجاد حقه، عندما تنزع منه ملكة المزاح التي تعد من خصائص الإنسان بشكل عام، وعلى العكس، تنزع صفة الجدية من الكاتب الساخر!
ولا يردم تلك الهوة سوى الاستناد إلى طبيعة الكتابة الروائية ذاتها، وأخذ تلك الطبيعة في الاعتبار جنباً إلى جنب مع السمات الظاهرة في النص من ملامح السخرية والمزاح عبر اللغة، وسلوك الشخصيات، ومصادفات الأحداث.
حلم الكتابة من بدايته حلم جاد، من يحلم بها يعرف من البداية أنها عمل صعب، مع ذلك يُقدم عليه لأن وجوده لن يكون كاملاً من دونه.
بعد ذلك يبدأ المتطلع إلى الكتابة في إعداد نفسه بالجدية الواجبة. الساخر وغير الساخر يضع كل دقيقة في حياته من أجل تكوينه الثقافي. يسعى إلى معرفة كل ما يحتاجه ولا يحتاجه الآخرون، من قواعد اللغة إلى تذوق الفنون إلى المعرفة بالنفس والجسد والطقس، وإجراءات التقاضي، وآلية عمل محرك السيارة، ومدة رقود الحمام البري على بيضه. وهو ليس بحاجة إلى احترام الكتب فحسب، بل إلى احترام الواقع وكل ما يجري فيه، واستقبال ذلك بامتنان، حتى الشر الموجه إليه شخصياً، كأن الواقع عرض مسرحي أُعدَّ خصيصاً ليكون في خدمة كتابته.
هذه الاستعدادات الجادة يمكن أن تصنع فيلسوفاً أو مفكراً اجتماعياً، لكنها وحدها لا يمكن أن تصنع روائياً، فذلك يلزمه المزاح مهما كانت جدية أو جهامة ما سيكتبه. المزاح ليس خياراً في الرواية، وليس طبيعة تكوين الروائي نفسه أو اختياره بمفرده، لكنه مفروض من طبيعة اللقاء بين الروائي وقارئه.
قراءة الرواية مزحة ولعبة متفق عليها بين الطرفين، تشبه لعبة الاختفاء. أليست «الاستغماية» في أصلها مزحة؟ نُغمِّي أحدهم ليبحث عنا في الزوايا القريبة بناءً على توقعاته لطريقتنا في التخفي.
القارئ الذي يشتري رواية قرر بكامل إرادته أن يلعب الاستغماية مع الكاتب، أي لديه النية المسبقة للمزاح، ولولا هذه النية ما استمر في قراءة الأكاذيب التي تقوم عليها الروايات، بل إن القارئ الحسَّاس لا يمكن أن يقبل بالروايات التي تخلو من الكذب، أي التي تخلو من المزاح. ومن بين البنود غير المدونة في العقد بين الكاتب والقارئ أن الأخير سيستمتع بالكذب دون أن يأخذه على محمل الجد، فلن يُجرِّب أحدهم أن يطير مع ملاءة مثلما حدث لريميديوس في «مائة عام من العزلة»، ولن ينتظر أحد العالقين صقراً لينتشله من هوة، كما حدث للسندباد في «ألف ليلة».
ولو تأملنا عمارة «ألف ليلة وليلة» السردية سنكتشف أن المزاح أحد أعمدتها الأساسية. وأهم مزاح في الليالي هو مزاحها مع التاريخ، ونلمسه في توجهات النص ونواياه المبدئية، وفي المتحقق داخل الكتابة سواء بسواء. وبوسعنا أن نأخذ مزاح الليالي كإجابة شافية للسؤال الصعب حول علاقة الرواية بالتاريخ.
الشخصية التاريخية الأبرز بلا جدال في الليالي، هي شخصية الخليفة هارون الرشيد الذي يخرج في جنح الليل مع وزيره جعفر البرمكي في تفقد ساخر لأحوال الرعية، يدفعه إليه الأرق والنية المسبقة في التسلية والمزاح، ودائماً ما يعثران على بغيتهما.
وبخلاف الوقائع التاريخية للفتح العربي للأندلس، تفتحها الليالي في مزحة من عدة أسطر (الليلة 271 طبعة القاهرة)، حيث تروي عن قصر مغلق، يُضيف كل ملك جديد من ملوك إسبانيا على أبوابه قفلاً، إلى أن جاء ملك من خارج بيت المملكة، أخذه الفضول لمعرفة ما بداخل القصر، ولم يستمع إلى التحذير، وما إن فتح الباب حتى وجد صوراً للعرب على ظهور الخيل، فكان هتك سر القصر سبباً لتحقيق نبوءة النصر العربي!
وتبدأ قصة اكتشاف «مدينة النحاس - الليالي من 566 إلى 578 طبعة القاهرة» باجتماع للخليفة عبد الملك بن مروان مع خاصته ليناقشوا أمراً خيالياً: أمر الجن العصاة القابعين في قاع المحيط الذين عاقبهم نبي الله سليمان بحبسهم في قماقم من النحاس مختومة بخاتمه، وتمخضت المزحة عن تشكيل لجنة للتحقق من الأمر أبحرت باتجاه المغرب لتضع نفسها تحت أمرة الصحابي موسى بن نصير الوالي على المغرب. (تُسميه الليالي موسى بن نصر) وعندما نبحث في كتب التاريخ نجد قصصاً تتعلق باسم الصحابي تقول إن لقبه كان نصر فعلاً وتم تصغيره إلى نصير: هل كان رواة «ألف ليلة وليلة» يعرفون هذه المعلومة غير القوية، وأرادوا إيقاظها؟ هل قصدوا تصحيف الاسم وتغييره لصنع مسافة من التاريخ؟
هناك وظيفتان للرواية عندما تدخل إلى التاريخ: الأولى إيقاظ النائم من التاريخ الرسمي، والثانية عدم التطابق التام معه. وقد انتهت اللجنة برئاسة موسى بن نصر إلى اكتشاف مدينة النحاس الممسوخة، التي تحوي وفرة من الذهب والجواهر. وتعود البعثة بأموال كثيرة للخليفة. في كتب التاريخ الرسمي حمل موسى بن نصير إلى الخليفة أموالاً طائلة من المغرب بالفعل، لكنها أموال جباية، ولكن الليالي تقوم بإزاحة الأموال إلى أصل أسطوري، بل جعلتها تتجاور مع القماقم؛ إذ عادت البعثة كذلك بقماقم فتحوها في حضرة الخليفة فخرج منها الجن يتوسلون إليه العفو عنهم متصورين أنه النبي الذي حبسهم!
«دون كيخوتة» أم الرواية الغربية ليست سوى مزحة فكر فيها سرفانتس على هذا النحو، وأخذت، ولم يكن من الممكن أن تستمر إلا بفضل تواطؤ كل من قابلهم الفارس الهزيل؛ فأي ممن صارعهم كان بوسعه أن يقضي على الفارس الواهم بضربة ويُقوِّض الرواية. ولا يمكن أن يكون دوستويفسكي قد كتب رواية «المِثل أو القرين» دون أن يمتلك إرادة المزاح على الرغم من ميلودراما النص القوية، ولم يفعل ذلك إلا لعلمه بأن القارئ سيتواطأ معه ويتابع حياة ياكوف بتروفتش جولدياكين، الكاتب في إحدى الإدارات الحكومية، وقد جعل الكاتب له قريناً مطابقاً يتبعه في كل مكان حتى أنه يحصل على وظيفة بالإدارة نفسها، ويجلس مقابله على طاولة النسخ، ويحتل مكانة بالتزلف للرؤساء.
وهل كان من الممكن لرواية «المسخ» أن تنشأ سوى من نية مازحة لدى كافكا رغم حزن التفاصيل؟
نجيب محفوظ كتب «ليالي ألف ليلة» بنية المزاح مع التاريخ وألف ليلة معاً، لكن القليل المتواتر شفاهياً من سيرة الكاتب المتكتم نجيب محفوظ، يؤكد أنه استهدف بمزاحه الجيل التالي له؛ جيل الستينيات، وقد أكثر بعضهم من الحديث عن مشروع لتأسيس رواية عربية انطلاقاً من التراث، وعندما نستعيد اليوم مزاحه ثلاثي الأبعاد (مع التاريخ وألف ليلة والواقع) نرى ذكاء السخرية في اشتقاقات الأسماء ونسخ وقائع التاريخ وجرأة الخيال المازح الأشجع من الأصل، حيث استنهض محفوظ قوة الجن في مدينة مزدحمة، بينما تظهر في «ألف ليلة» بالأماكن المعزولة. من باب إنكار العفاريت، يردد القاهريون مثلاً دارجاً: «ما عفريت إلا بني آدم»، لكن محفوظ مرَّر الكذبة بقدرته العالية على المزاح.
وبالمناسبة؛ فإن استعارة عالم ومحاكاته لا يحدث إلا في حالتين: حالة الكاتب الساذج الذي لم يعرف بعد الخوف من قوانين وشرطة الإبداع، وحالة الكاتب الواثق من حساسيته إلى درجة تجعله متأكداً من قدرته على الإفلات من المساءلة بمزاح يضع القوانين في خدمته، وفي خدمة رسالة النص.
في تقديمه للطبعة العربية من كتاب «الأسلوب المتأخر»، يكثف مايكل وود خلاصة رؤية إدوارد سعيد للمزاح بوصفه شكلاً من أشكال المقاومة، ويتفق معه في قدرة المزاح على فعل ذلك.
هذا يؤكد أن المزاح واللهو في الأدب، ليس أقل قيمة من الجهامة الواقعية، ويصعب أن تكون هناك رواية رفيعة دون أن تكون حُبلى بالسخرية، الأمر الذي يجعل من لقب «الكاتب الساخر» شيئاً بلا معنى، أو يجعله واسعاً إلى درجة يجب أن تشمل كل الأذكياء.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!