تحولات الإعلام... من قمة الحدث إلى قاعدته

الخبر الصحافي غالباً ما يأتي مفصولاً عن سوابقه ولواصقه

تحولات الإعلام... من قمة الحدث إلى قاعدته
TT

تحولات الإعلام... من قمة الحدث إلى قاعدته

تحولات الإعلام... من قمة الحدث إلى قاعدته

يركز كتاب «الحدث ووسائل الإعلام» لمؤلفه خالد طحطح على الدور الكبير والأساسي لوسائل الإعلام في ظل الطفرة الإعلامية والتكنولوجية الكبرى في العالم، مع زيادة وسرعة وقوة وتيرة الحضور الإعلامي في الحدث أينما كان، إلى درجة أن الإعلام في كثير من الأحيان هو الذي يصنع الحدث، نتيجة للتقنية الهائلة والفائقة على تغطية الحدث، وكل وسيلة إعلامية بطريقتها الخاصة، وطرح الحدث بالصورة والشكل اللذين يناسبان الأجندة الخاصة التي تعمل الوسيلة الإعلامية تحت ظلها.
يرى المؤلف أننا الآن أمام ولادة رؤية جديدة، فهناك تحول بارز على مستوى مقاربة الحدث، فلقد انتقلنا اليوم في زمن هيمنة وسائل الإعلام في مقاربة الحدث، من الأسباب إلى التركيز على النتائج التي يخلفها، أي أن المقاربة تحولت من قمة الحدث إلى قاعدته بالانتقال من البحث في أسبابه إلى النظر في آثاره، وتبدو تجليات هذا التغيير بالأساس في كيفية تعامل المفكرين والمؤرخين والإعلاميين مع تحليل الاحداث الكبرى، كحدث مايو (أيار) 1968 وحدث سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق سنة 1991، وشهدناها أكثر من أي وقت مضى، مع حدث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 ومع الثورات التي عرفتها المنطقة العربية، فيما اصطلح عليه بـ«الربيع العربي»، فحسب الفيلسوف ميشال دوسيرتو: «ليس الحدث ما يمكن رؤيته أو معرفته ولكن ما يصير إليه».
يشير المؤلف إلى مصطلح «الزمن الحاضر» الذي تكرس استخدامه في أواخر السبعينات، خصوصاً في فرنسا، فقد قررت الجهات الرسمية بها أن تمنح أخيراً مكاناً مؤسساتياً للبحث في التاريخ الآني، وذلك بتأسيسها سنة 1978 معهد تاريخ الزمن الحاضر I H T P الذي نشأ في أحضان مختبر البحث C N R S بمساهمة من المؤرخ بيار نورا، غير أنه لم يدشن بشكل فعلي إلا في عام 1980، من قبل فرنسوا بيدا ريدا، الذي ترأس مجلس إدارته إلى غاية سنة 1990، وقد تعاقبت من بعده على رئاسة المعهد بالتتابع روبرت فرانك، وهنري روسو وفابريس دالميدا، واليوم يسير المعهد، ومنذ عام 2004 من طرف كريستيان انغاسو، يرفض المؤرخون الأكاديميون أن يتدخل السياسيون في كتابة التاريخ، وهذا ما عبر عنه بيير نورا في حواره مع مجلة «لوفيغاروا»، فقد أبدى - كما غيره من علماء التاريخ - معارضة شديدة لسن البرلمان الفرنسي تشريعات تتضمن أحكاماً على أحداث تاريخية، مثل مجازر الأرمن، باعتبارها قوانين تعيق دورهم العلمي في دراسة التاريخ ومناقشته، وقد أسهمت هذه القضية على المستوى السياسي في توتير العلاقات التركية - الفرنسية، وفي ألمانيا أيضاً تطرح قضية الرقابة كلما تعلق الأمر بالقضية الشائكة المرتبطة بإرث النازية، إذ تمارس الرقابة في شأنها بشكل شديد، فهي تقمع ما ينشر عن اليهود، وبالخصوص ما يتعلق بالتشكيك في المحرقة باعتبارها كتابات معادية للسامية، بل وقعت بألمانيا في أواخر الثمانينات (بين 1986 و1988) مشادات كبرى، عرفت باسم مشاجرة المؤرخين، فقد نشأ خلاف عميق بين مؤرخين متخصصين بالعهد النازي وفلاسفة على قدر كبير من الأهمية، أبرزهم: يورغن هابرماس، وفي نفس سياق المبالغات المتعلقة بمحرقة الهولوكوست، تعرض روجيه غارودي أحد أشهر مفكري القرن العشرين في فرنسا إلى محاكمة شهيرة بسبب نفيه وقوع المحرقة اليهودية بالشكل الذي تروجه المنظمات الصهيونية، وهو إنكار يصطدم مع أغلب القوانين في الدول الأوروبية التي تمنع التشكيك في المجازر التي وقعت لليهود خلال الحرب العالمية الثانية.
وبحسب المؤلف، فإن مؤرخ اللحظة يتعامل مع الحدث حين وقوعه، فهو يؤرخ للحاضر ولكنه لا يؤرخ للتاريخ، فالخبر الصحافي يظل غير مكتمل، وغير مفهوم بالشكل المطلوب فهو في الغالب يأتي مفصولاً عن سوابقه ولواصقه، ويبقى في حاجة ماسة للزيادة والإتمام، وهذا من بين الأسباب التي تجعل غالبية المؤرخين تتجنب تناول التاريخ الحاضر، فهذا النوع من الكتابة التاريخية يبقى أفقاً صعباً لعوامل ثلاثة؛ أولها غياب البعد التاريخي الضامن - في نظرهم - للموضوعية التاريخية المنشودة عند كل مؤرخ، وثانيها قضية المصادر من حيث تنوعها خصوصاً المصادر الشفوية لشهود العيان، وما يحوم حولها من تشكيك في مصداقيتها، وثالثها يكمن في صعوبة تحليل وتأويل الحدث الآني الذي لا نعرف بعد نهايته ومآله وانعكاساته على مجرى الأحداث، هذا بالإضافة إلى تخوفات بعض المؤرخين من التداخل بين التاريخ والصحافة والعدالة أحياناً.
يشير المؤلف إلى أن وسائل الإعلام أعادت للحدث نضارته، فالحدث المعاصر اكتسح هذه الوسائل بجميع أنواعها، إنه الديكتاتور الجديد الذي فرض نفسه بالقوة، فالمواضيع التي تروج بين الناس ليست سوى منتوج إعلامي، فما تتحدث عنه وسائل الإعلام هو الموجود، وما لا تتحدث عنه لا وجود له، إنه شيء يتم تصنيعه في آلة إنتاج الخبر من خلال انتقاء الأخبار والصور والشهادات، ليغدو العالم مفعولاً إعلامياً يشتغل في أذهان الناس، ويسم ردود أفعالهم، ويوجه أحكامهم ويشبع رغبتهم وفضولهم، فما يروجه الإعلام على أنه خبر مهم هو ليس كذلك، إلا لأن الإعلام جعله كذلك، فالإخبار بالواقعة لا يخلق الحدث فحسب، وإنما يحيله إلى كيان ذي معنى، بل هو يخلق أهميته كذلك ويسوقه في أذهان الناس ويفرضه باعتباره كذلك، فما يتم تداوله من خلال الأخبار، يصبح موضوعاً آنياً لأحاديث الناس.
وسائل الإعلام هي التي تسهم في صناعة الأحداث اليوم، فلا أحد يتحدث عن القطارات رغم أنها موجودة بشكل دائم، ولا أحد يتنبه لها إلا عندما تحيد عن مساراتها، كأنها غير موجودة أصلاً، إلا بعد أن تحيد عن سكتها، وهكذا حتى إنه كلما كان عدد القتلى كبيراً، زادت مساحة التغطية إعلامياً.
ويمكن للعلوم الاجتماعية أن تفيدنا أكثر من أي طرف آخر، حول حدث تتناوله وسائل الإعلام، فهي مطالبة بأن تنتج خطاباً معرفياً يتجاوز الخطاب الإعلامي، الذي يظهر الحدث كأنه تفاصيل بسيطة في قصة إخبارية، بينما يمكن أن تكون له انعكاسات وتداعيات كبيرة، كما في حالات سقوط حائط برلين وحرب الخليج والحادي عشر من سبتمبر.



هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».