رسام مصري يحتفي بالتراث المعماري في القاهرة عبر «الفن الحضري»

أطلق «المحروسة» للتعبير عن جماليات أبنيتها

TT

رسام مصري يحتفي بالتراث المعماري في القاهرة عبر «الفن الحضري»

«وراء كل مبنى توجد حكاية لم تُروَ»، كان هذا الاعتقاد هو الدافع للمصري مايكل صفوت أن يوثق هذه القصص والحكايات التي تقف خلف أبنية القاهرة التراثية، ليس بالكلمات ولكن بالرسم.
ولأنه في الأصل طبيب بشري وليس متخصصاً في الرسم، فقد جذبه فن (urban sketch)، أو الرسم الحضري، غير المنتشر عربياً وتقتصر معرفته على المتخصصين في مجال العمارة والفنون التطبيقية، حيث يناسب رسم مشروعاتهم الهندسية. لذا يُعرّف الشاب المصري نفسه بأنه رسام «حضاري» أو «حضري».
وفي القاهرة العامرة بالمباني الأثرية، وجد الرسام الحضري ضالته، لكي ينشر هذا الفن، في رحلة عبر الزمن، متبنياً مشروعاً إبداعياً يوثّق هذه المباني وحكايات عن نشأتها وأصحابها ومصمميها.
وعن فنه، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «أنا دائم التجول والسفر، وخلال رحلاتي كنت أقف أمام الآثار والمعالم السياحية، وأبحث عن القصص التي تقف وراء إنشائها، وألتقط صوراً لها بهاتفي، ولكنّ ذلك لم يكن يلبّي تذوقي لها، حتى مع لجوئي إلى تجميع المجسمات (puzzle) الخاصة بهذه الأماكن لتذكّرني بالمكان... ولأني أردت أن أكوّن بنفسي المشهد، لجأت إلى رسم هذه الأماكن، لأني أرى الرسم مثل التصوير، لكن الرسم يتيح وقتاً أطول لتوثيق اللحظة، ويعطيني المساحة لكي أغرق أكثر في التفاصيل، وكذلك الفرصة للتعمق في تاريخه، وبالتالي يكون الاستمتاع أكبر».
يرى الرسام المصري أن الفن الحضري هو وسيلة للتعبير عن المحيط به وتقدير قيمته، فهو ليس فناً أكاديمياً، فقط يلجأ إلى مجموعة من الخطوط أو «الشخبطة»، ليعبّر بها عن روح المكان بإحساسه وبما يلبّي ذائقته الفنية، ثم الوصول به لكل محبي الفنون لكي تتذوقه وتمارسه بنفسها، وبالتالي يتحول هذا الفن من القلة القليلة التي تمارسه إلى الجميع.
عبّر صفوت بـ«شخابيطه» عن روح كثير من الأماكن التي زارها في الخارج، منها مسارح ومعابد وكنائس ومساجد ومتاحف، إلى أن جاءت جائحة «كورونا»، التي منعته من السفر والتجوال. ولأن «رُب ضارة نافعة»، كان (كوفيد - 19) نقطة تحول فيما يهواه، حيث بدّل وجهته إلى القاهرة، يقول: «اكتشفت أن حولي كنزاً كبيراً، لم أكن أتمعن فيه، وفي تفاصيله، ولم أكن أتوقع أني سأجد هذه الكمية من الجمال أو الحكايات المختفية وراء كل مبنى».
في وسط القاهرة تحديداً، وجد الرسام الحضري نفسه أمام مجموعة من الجواهر التراثية التي نشأت خلال الحقبة الخديوية في القرنين الـ19 والـ20، حيث تحمل حكايات مذهلة، لتتبلور لديه فكرة مشروعه «المحروسة»: «مع تعدد الرسومات والحكايات، وجدت أنه من الأفضل أن يكون ما أنفّذه تحت مسمى واحد، وبدأت الفكرة في التطور، وبدأت التخطيط لذلك، فأطلقت على ذلك المشروع (المحروسة)، لكونه لقباً مصرياً شاملاً يمكن أن يطلق على أي مكان في مصر، وكذلك لأنه ارتبط بمصر على مر الأزمان، أما الهدف فهو توثيق كل مكان مميز في مصر بالرسم، والتعمق في تفاصيله قدر الإمكان ونقل قصته، وبالتالي يتحول الرسم على الورق إلى هدف له عدة أبعاد».
ويؤكد صفوت: «يقوم المشروع على عدة محطات: أولاً العمل على عين المتلقي، ثم اللعب على حاسة السمع بالحكايات، وحاسة الفهم والإدراك للتعريف بتاريخ المباني، وبالتالي يكون المتلقي قد شاهد وسمع ثم جُذب لكي يُفتش ويعرف أكثر عن التاريخ، وبالتالي يقدر ما لدينا من فن وتراث. واستكمالاً للهدف يتم استغلال باقي الحواس بالانتقال لمرحلة جديدة وهي الانتقال بالمتلقي لأن يكون له دور ولا يكتفي بدور المشاهدة فقط، عبر تعليمه وتعبيره الخاص عن هذه المباني، وتكون لديه حاسة التعبير الفني، وهو ما يترتب عليه تقدير الجمال بشكل أكبر».
وتمكنت فكرة المشروع من الوصول إلى عدد من المهتمين بالفنون من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، التي يعتمد عليها الرسام الحضري، حيث وجدت رسوماته ردود فعل إيجابية، تُرجمت إلى النزول في جولات جماعية للتأمل معاً والرسم الحي. كما لاقت فكرته قبولاً لدى بعض الهيئات الأهلية العاملة في مجال الحفاظ على التراث، وهو ما نتج عنه شراكات بينه وبين هذه الهيئات بعدما تشابهت الرؤى والأهداف. يخطط صفوت لتحويل «المحروسة» إلى شكل ملموس، من خلال إعداد دليل أو كتيب للأماكن التراثية، يجمع بين الصورة والرسم والحكاية، لنقل هدف المشروع لأكبر عدد ممكن داخل وخارج مصر، ويشرح: «من خلال الصورة أنقل صورة المكان حالياً، وبالرسم الحضري نقدمه وقت إنشائه وحالته الأولى، فمن مميزات هذا الفن الذي أقدمه بالألوان المائية أنه لا يهتم بعوامل التعرية التي تعرض لها المبنى، بل يقدمه في سابق عهده، حيث تعطي الألوان المائية إحساساً بالتوهج، خصوصاً مع مزجها بالرصاص والحبر، مما يكون له مفعول سحري في رأيي».
كما يسعى الفنان الحضري إلى إكمال رحلته لأماكن وحقب تاريخية مختلفة، إلى جانب نقل خبرته وتجربته في هذا المجال إلى عدد أكبر من المتلقين، والعمل على نشر هذا الفن في مصر، وبالتالي الانطلاق إلى أرض الواقع وليس الانحصار على منصات التواصل الاجتماعي فقط، وفي سبيل ذلك لا يمانع من عمل دورات تدريبية لإفهام هذا الفن وإرساء مبادئه، وذلك في إطار هدف تحول المتلقي من مجرد المشاهدة إلى فهم الرسم وممارسته بنفسه ليسجل انطباعه الفني، ويكتشف القصص بين خطوطه وألوانه.



«ميدان الثقافة» بوابة تربط بين الماضي والحاضر في جدة التاريخية

يأتي المشروع في إطار جهود تعزيز الفنون والثقافة من خلال مراكز متخصصة في مختلف المجالات (واس)
يأتي المشروع في إطار جهود تعزيز الفنون والثقافة من خلال مراكز متخصصة في مختلف المجالات (واس)
TT

«ميدان الثقافة» بوابة تربط بين الماضي والحاضر في جدة التاريخية

يأتي المشروع في إطار جهود تعزيز الفنون والثقافة من خلال مراكز متخصصة في مختلف المجالات (واس)
يأتي المشروع في إطار جهود تعزيز الفنون والثقافة من خلال مراكز متخصصة في مختلف المجالات (واس)

يشكل «ميدان الثقافة» الذي أطلقه «برنامج جدة التاريخية»، التابع لوزارة الثقافة السعودية، بوابةً تربط بين الماضي والحاضر من خلال موقعه المميز الذي عكس تصميمه ووظائفه هذه الثنائية الزمنية ليمثل معلماً حضارياً كبيراً كإحدى الوجهات الثقافية المهمة بالمدينة الساحلية جدة (غرب السعودية).

ويأتي المشروع في إطار جهود إعادة إحياء المنطقة التاريخية، وتعزيز الفنون والثقافة من خلال مراكز متخصصة في مختلف المجالات الفنية والثقافية، وبما يوفر تجارب ثقافية وفنية ثرية متنوعة، تعزز من تجربة الزوار، وتسهم في جعل المنطقة وجهةً سياحيةً عالميةً، وذلك تماشياً مع «رؤية المملكة 2030».

يعد متحف «تيم لاب» الأول من نوعه ويقام وبشكل دائم في منطقة الشرق الأوسط (واس)

ويقع «ميدان الثقافة» الذي يضم مركز الفنون المسرحية (مسرح وسينما)، ومتحف الفنون الرقمية «تيم لاب بلا حدود» (حاصل على جائزة مكة للتميز في فرع التميز الثقافي)، على ضفاف بحيرة الأربعين، ويطل على منطقة جدة التاريخية.

ويقدم مركز الفنون المسرحية فعاليات ثقافية متنوعة تشمل عروضاً مسرحيةً، ومهرجانات عالمية، ودور سينما، وجلسات تجسد أجواء «المركاز»، إلى جانب مطاعم ومقاهٍ تمثل نقاط تجمع وحوار، أما متحف «تيم لاب بلا حدود» فيُبرز الطابع الحديث للثقافة، الذي يجمع بين الفن والعلم والتكنولوجيا. وفي قلب هذا المشهد الثقافي، يبرز «بيت أمير البحر» التاريخي متوسطاً مركز الفنون المسرحية ومتحف «تيم لاب بلا حدود»، ومطلاً على «شارع حمزة شحاتة» (الشاعر السعودي الراحل)، ليعكس الثراء الثقافي المتأصل في الموقع. وقد قام البرنامج وفي إطار جهوده للحفاظ على تراث المنطقة المعماري والثقافي بترميم «البيت» وإعادة تأهيله. ويتميز «بيت أمير البحر» بتصميمه المعماري الفريد، إذ يأتي على شكل هندسي ثماني، ويتكون من دور واحد، وهو محاط بنوافذ كبيرة على شكل أقواس، وقد استُخدم في الماضي مناراً لإرشاد السفن.

مشروع «إعادة إحياء جدة التاريخية» جعل المنطقة مقصداً للزوار من مختلف أنحاء العالم (واس)

ويجسد مشروع «ميدان الثقافة» الهندسة المعمارية التي تعكس القيم الجوهرية لجدة التاريخية، مع رؤية تجديدية دمجت بين الماضي والمستقبل في تناغم فريد، إذ مزج التصميم بين التراث المعماري الغني والنسيج الحضري المترابط، في استمرارية لهوية المنطقة وثقافتها. وفي الوقت ذاته تماشى التصميم مع فلسفة متحف «تيم لاب» التي تقوم على الانسجام بين الزائر والأعمال الفنية، وهو ما يظهر بوضوح في سطح المبنى المائل نحو المسطحات المحيطة، مما يعزز من فكرة الاندماج والانسجام.

ويشتمل «ميدان الثقافة» على مبنيين رئيسيين، بإجمالي مساحة بناء تبلغ حوالي 26 ألف متر مربع ويمتد مركز الفنون المسرحية والسينما على مساحة 16 ألف متر مربع، ويضم مقر مهرجان البحر الأحمر السينمائي، ويتكون من مدخل رئيسي (الردهة)، وقاعة مسرح رئيسية بسعة 868 مقعداً، بالإضافة إلى خمس قاعات سينما بسعة 564 مقعداً، وردهة داخلية (غرفة متعددة الأغراض)، وتسع قاعات للجلسات الحوارية، و«سينماتيك»، ومطعم وثلاثة مقاهٍ.

الممثل ويل سميث يوثق زيارته للمنطقة التي تشهد إقبالاً من الزوار على مدار العام (جدة التاريخية)

فيما تبلغ مساحة متحف «تيم لاب بلا حدود» 10 آلاف متر مربع، ويضم قرابة 80 عملاً مستقلاً ومترابطاً، تُجسِد عالماً واحداً بلا حدود. ويجمع المتحف بين الفنون والتكنولوجيا والطبيعة في مساحة إبداعية مبتكرة، ويُشكل إضافة نوعية للمشهد الثقافي في المملكة.

وكان الحفاظ على الصحة العامة وتعزيز الاستدامة البيئية من الأهداف المهمة التي سعى إليها برنامج جدة التاريخية في تصميم وتنفيذ مشروع «ميدان الثقافة»، إذ تم استخدام وحدات تكييف عالية الجودة، مُجهزة بتقنية تُنقي الهواء بنسبة 100 في المائة، بالإضافة إلى تركيب مصاعد تعمل بدون لمس، وسلالم كهربائية مُزودة بتقنية تعقيم بالأشعة فوق البنفسجية، وذلك للحد من انتقال الفيروسات والجراثيم المسببة للأمراض.

ديفيد فيا نجم الكرة الإسباني خلال زيارة سابقة للمنطقة (برنامج جدة التاريخية)

كما اهتم البرنامج بالحفاظ على الموارد المائية من خلال استخدام نظام يعيد تدوير مياه التكثيف الناتجة عن وحدات التبريد لتلبية احتياجات الري، وهو ما يعزز من كفاءة استهلاك الموارد ويساهم في الحفاظ على البيئة.

وجاء مشروع «ميدان الثقافة» ضمن جهود برنامج جدة التاريخية في إعادة إحياء المنطقة، والحفاظ على تراثها المادي وغير المادي، وإثراء تجربة الزوار، ويعد الميدان معلماً حضارياً وبصرياً متميزاً في جدة، بتصميمه الذي راعى الحفاظ على النسيج الحضري في المنطقة، وجمع بين استخدام الهندسة المعمارية المعاصرة في بنائه، والحفاظ على الطابع المعماري التراثي الذي يستلهم من المباني التاريخية في المنطقة، ويأتي ضمن استثمار تاريخ المنطقة وعناصرها الثقافية المميزة وتحويلها إلى روافد اقتصادية، وجعل المنطقة وجهة مميزة على خريطة السياحة العالمية.