قبل خمس سنوات وتسعة أشهر انطلقت شرارة العمليات الإرهابية في فرنسا على وقع تمدد تنظيم «داعش» الإرهابي واستقواء دعايته الآيديولوجية وتمكنه من اجتذاب مئات الأشخاص إن للقتال إلى جانبه في سوريا والعراق أو للقيام بعمليات إرهابية في بلدان إقامتهم. وفي فرنسا وحدها، أوقع الإرهاب منذ مطلع العام المشار إليه وحتى اليوم 258 قتيلاً وآلاف الجرحى وما زال ظله مخيماً على البلاد. وقبل يومين أعلن وزير الداخلية جيرالد دارمانان، بمناسبة زيارته للإدارة العامة للأمن الداخلي «المخابرات الداخلية» أن «التهديد الإرهابي ما زال على أشده»، وبالتالي فإن «محاربة الإرهاب الإسلاموي ما زال على رأس أولويات الحكومة» وأن السلطات «لن تتخلى أبداً عن ملاحقة أعداء الجمهورية». وبالأرقام، فقد أفاد الوزير الفرنسي بأن الأجهزة الأمنية الفرنسية لديها 8132 فرداً على لوائح المسجلين بشبهة التطرف الإسلاموي الذين يمكن أن يشكلوا تهديداً إرهابياً. ورغم الهزيمة التي لحقت بـ«داعش» وخسارتها غالبية الأراضي التي كان تسيطر عليها في العراق وسوريا، فإن التهديد الإرهابي الخارجي، وفق دارمانان، ما زال قائماً. إلا أن التهديد الإرهابي «الداخلي» هو «الأقوى بحيث إنه يتغذى من بروباغندا (دعاية) المجموعات الإرهابية ويروج لها الإسلام الراديكالي في العديد من أحياء المدن الفرنسية».
وسط هذه المخاوف والأجواء الملبدة، ووسط إجراءات وتدابير أمينة بالغة التشدد، انطلقت صباح أمس في باريس محاكمة 14 متهماً بالضلوع في العمليات الإرهابية التي ضربت مطلع العام 2015 هيئة تحرير صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة ومتجراً للأطعمة اليهودية إضافة إلى امرأة شرطية. وأوقعت هذه العمليات 17 قتيلاً. وقُتل المنفذون الثلاثة وهم الأخوان سعيد وشريف كواشي اللذان هاجما هيئة تحرير المجلة الفرنسية الساخرة التي نشرت قبل المقتلة صوراً مسيئة للرسول الكريم، وأحمدي كوليبالي الذي قتل الشرطية وهاجم المتجر اليهودي. وأثارت هذه العمليات تعاطفاً دولياً مع فرنسا التي شهدت في 11 يناير (كانون الثاني) مظاهرات مليونية بحيث عرفت باريس أضخم مظاهرة رسمية وشعبية منذ تحريرها مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبمشاركة عشرات رؤساء الدول والحكومات. وستجري في الربيع القادم محاكمة أخرى لا تقل أهمية، إذ إنها ستتناول الضالعين في العمليات الإرهابية التي ضربت مسرح «الباتاكلان» في باريس وعدة مقاه ومطاعم في الدائرتين 11 و12 وملعب فرنسا الكبير الواقع على مدخل باريس الشمالي الغربي.
المحاكمة لن تطال الأخوين كواشي وأحمدي كوليبالي الذين قتلتهم القوات الأمنية، بل 14 شخصاً مما يظن القضاء أنهم إما كانوا على علم بالخطط الإرهابية أو أنهم قدموا الدعم اللوجيستي متعدد الأشكال للثلاثة. بيد أن ثلاثة من هؤلاء يحاكمون غياباً وأبرزهم حياة بومدين، زوجة كوليبالي التي «اختفت» قبل العمليات ويظن أنها التحقت بالتنظيم الإرهاب في سوريا، بالإضافة للأخوين محمد ومهدي بلحسين اللذين يظن أنهما قتلا في معارك سوريا والعراق.
وبالنظر إلى هذه المحاكمة الاستثنائية التي ستمتد إلى شهرين ونصف، فقد قررت السلطات العدلية تصويرها بالكامل حتى تحفظ للتاريخ. وقال ريشار مالكا، وهو محامي إحدى عائلات الضحايا، إن الغرض أن تكون «شاهداً» للأجيال القادمة. كذلك، فإن التحقيقات والشهادات تتكون من 170 مجلداً وستستمع المحكمة الجنائية الخاصة المتخصصة بقضايا الإرهاب إلى 150 شاهداً وخبيراً ولما لا يقل عن 200 جهة مدنية مدعية.
وعمدت السلطات القضائية إلى تخصيص أوسع القاعات التي يتضمنها قصر العدل الجديد لاستيعاب القضاة والمحامين وعائلات الضحايا والشهود، وكل ذلك وسط تدابير أمنية استثنائية.
وداخل قاعة المحكمة، وضع 10 من المتهين في قفصين منفصلين فيما المتهم الحادي عشر ترك خارج القفص ودخل حراً إلى قوس المحكمة. وسيحاول القضاء، حتى العاشر من نوفمبر (تشرين الثاني)، تحديد درجة مسؤولية كل منهم ومدى مشاركته في الإعداد للهجمات والدعم والمساعدة التي وفرها للثلاثة. وقد وجه قضاة التحقيق المختصون بمكافحة الإرهاب تهم «التواطؤ» في جرائم إرهابية ويعاقب عليها بالسجن المؤبد، ضد محمد، الأخ الأكبر للأخوين بلحسين، وعلي رضا بولات الماثل في قفص الاتهام.
ويُشتبه في أن بولات المقرب من كوليبالي أدى دوراً رئيسياً في التحضير للهجمات، ولا سيما في توفير الأسلحة للإرهابيين الثلاثة، لكنه ينفي ذلك.
أما المتهمون الآخرون فإنهم يحاكمون بشكل أساسي بتهمة «تشكيل جماعة إرهابية إجرامية» ويواجهون عقوبة السجن لمدة عشرين عاماً. ويمثل شخص واحد طليقاً تحت الرقابة القضائية بتهمة «الاتفاق مع مجرمين»، وهي جريمة يعاقب عليها بالسجن عشر سنوات.
وقالت إحدى محاميات المتهمين إنه يتعين الأخذ بعين الاعتبار أن المتهمين الـ14 ليسوا هم من ارتكب العمليات الإرهابية وأن الثلاثة قتلوا منذ خمس سنوات، وبالتالي يتعين أن يحافظ القضاء على حياديته. بيد أن التوجه العام يشي بعكس ذلك، خصوصاً أن الرأي العام الفرنسي معبأ ويريد أن تكون المحاكمة والعقوبات بمثابة «درس» للآخرين.
وقد اعترف النائب العام الوطني لمكافحة الإرهاب بأن غياب الأخوين كواشي وكوليبالي يشكل «مصدر إحباط»، لكنه أردف أنه «يرفض فكرة» أن المتّهمين الأربعة عشر «ليسوا أساسيين ولا أهمية لهم».
هجمات 2015 أمام القضاء الفرنسي
14 متهماً و150 شاهداً و200 جهة مدعية ومحاكمة لشهرين ونصف الشهر
هجمات 2015 أمام القضاء الفرنسي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة