ما الفرق بين الفلاسفة الحقيقيين وأشباه المثقفين؟

روجيه دروا يسعى لتسهيل الفلسفة للجمهور العريض

ما الفرق بين الفلاسفة الحقيقيين وأشباه المثقفين؟
TT

ما الفرق بين الفلاسفة الحقيقيين وأشباه المثقفين؟

ما الفرق بين الفلاسفة الحقيقيين وأشباه المثقفين؟

تعجبني كتابات المفكر الفرنسي المعاصر روجيه بول دروا. وهو بالمناسبة أستاذ جامعي وباحث كبير وصحافي في جريدة «اللوموند» في آن معاً. فقد كان المسؤول عن القسم الثقافي فيها (أو قسم مراجعة الكتب) لسنوات طويلة. ويقال إنه نشر فيها أكثر من ألف مقال على مدار السنوات الماضية. ولا يزال يدبج مقالاته فيها بشكل منتظم عن القراءات والشخصيات والإصدارات الجديدة التي تعجبه. ومن أهم كتبه نذكر العناوين التالية: «صحبة الفلاسفة» و«الفلاسفة الكبار: عشرون فيلسوفاً صنعوا القرن العشرين» و«الغرب مشروحاً للجميع» و«كيف يمشي الفلاسفة»... إلخ. وأخيراً «تاريخ مختصر للفلسفة»، وهو الذي سنتوقف عنده هنا.
ولكن قبل أن ندخل في صلب الموضوع، دعونا نطرح هذا السؤال: مَن الفيلسوف؟ هل هو شخص عبقري أم مجنون أم الاثنان معاً؟ هل هو شخص منخرط في الحياة العامة أم معتكف في برجه العاجي؟ على أي حال، إنه ليس أستاذ الفلسفة، على عكس ما نتوهم. فهناك الفيلسوف وهناك أستاذ الفلسفة، وشتان ما بينهما. فقد تكون أستاذاً للفلسفة لمدة ثلاثين أو أربعين سنة دون أن تصبح فيلسوفاً. فالسوربون مثلاً تعاقب عليها عشرات، بل مئات، من أساتذة الفلسفة المحترمين، ولكن لم يبقَ لهم ذكر على صفحة التاريخ، اللهم باستثناء قلة قليلة من أمثال بيرغسون. أما جان بول سارتر فلم يدرس في أي جامعة، ومع ذلك فهو معدود من كبار الفلاسفة. منذ البداية، يقول لنا المؤلف إنه دبج هذا الكتاب بغية تسهيل الفلسفة على الجمهور العريض الذي يخشاها، ويعتقد أنها غامضة بطبيعتها عصية على الفهم. ولكنه يقول لنا إن هذه الفكرة خاطئة، وإن أعظم الفلاسفة وأكثرهم تعقيداً يمكن شرحهم بكلمات بسيطة واضحة، ثم إن الفلاسفة ليسوا كائنات شبحية من خارج الكرة الأرضية! وإنما هم بشر مثلنا من لحم ودم، يفرحون ويتألمون ويعيشون المشاعر والكوابيس نفسها مثلنا تماماً، ويسكنون الكوكب الأرضي ذاته الذي نسكنه. ثم ينبغي أن نتذكر عندما نستعرض تاريخ الفلسفة أن عالم الأفكار ليس منقطعاً عن عالم الحياة أبداً. فالأفكار الفلسفية أياً تكن عبقريتها هي بنت عصرها وظروفه ومشكلاته وهمومه وقضاياه، ولا يمكن فصلها عن كل ذلك. باختصار شديد: الفلسفة بنت عصرها. وحتماً لو ظهر فولتير الآن لكتب بلغة أخرى، ولدافع عن طروحات أخرى غير التي دافع عنها في عصره. فالظروف تغيرت، والأحوال تطورت، وما كان صالحاً للقرن الثامن عشر لم يعد صالحاً للقرن الحادي والعشرين. نقول ذلك خصوصاً لأن الأصولية المسيحية اختفت من أوروبا، ولم يعد لها من وجود، فهل يحارب طواحين الهواء؟ ولكنها في عصره كانت جبروتية قادرة على القمع والضرب والتخويف. ولكن ما الفرق بين الفيلسوف والإنسان العادي غير الفيلسوف؟ الفرق هو التالي: الإنسان العادي يتعايش مع الأفكار التي تلقاها عن عائلته وبيئته وطائفته بصفتها حقائق مطلقة، بل ويتشربها ويعتنقها، ولا يخطر على باله لحظة واحدة أن يتعارك معها. أما الفيلسوف فيفعل العكس: إنه يراجع كل الأفكار التي تلقاها من الأسرة والطفولة والكنيسة والجامع... إلخ، ويتفحصها واحدة بعد الأخرى. فما ثبت أنه صالح يحافظ عليه، وما تبين له أنه خاطئ يرفضه ويتخلى عنه، حتى لو كلفه ذلك غالياً لأنه رضعه مع حليب الطفولة أو تلقاه بصفته مقدسات في بيوت العبادة. هذا ما علمنا إياه ديكارت بشكل خاص: لا تقبلوا شيئاً إلا بعد غربلته وتمحيصه ووضعه على محك الشك والدراسة. ولكن جميع الفلاسفة الكبار يفعلون ذلك، وليس فقط ديكارت؛ كلهم راجعوا أفكار عصرهم وانتقدوها وفككوها، قبل أن يضيفوا أفكارهم وأطروحاتهم الجديدة التي غيرت وجه العالم. وبالتالي، فالفيلسوف شخص منشق على عصره وطائفته وجماعته، شخص منشق على نفسه! لماذا نقول ذلك؟ لأنه يدخل في صراع داخلي عنيف مع الأب - التراث. وبالتالي، فهو يختلف كلياً ليس فقط عن الإنسان العادي، وإنما عن أشباه المثقفين أيضاً! فهؤلاء حتى لو كانوا يحملون شهادات أكاديمية عليا من جامعات الغرب، وحتى لو عاشوا في باريس أو جنيف أو لندن أو نيويورك... إلخ عشرات السنوات، فإنهم يظلون مرتبطين عضوياً بعقائد جماعتهم أو طائفتهم، ولا يخطر على بالهم إطلاقاً أن يراجعوها أو ينتقدوها. هنا بالضبط يكمن الفرق بين المثقف الحقيقي وأشباه المثقفين. لنضرب على ذلك مثلاً توضيحياً سريعاً: كان فولتير ينتمي إلى طائفة الأغلبية في فرنسا، أي المذهب الكاثوليكي البابوي الذي كان يشكل ثمانين في المائة من عدد سكان فرنسا آنذاك. ومع ذلك، فقد أمضى حياته في محاربته، ومحاربة طائفته وجماعته، لأنهم كانوا الأكثرية الطاغية، ولأنهم كانوا يضطهدون أبناء الأقلية البروتستانتية التي كانت تشكل عشرين في المائة من عدد السكان. ومعلوم أن الكاثوليك البابويين، على غرار الأكثريات عادة، كانوا هم الأكثر محافظة وتشبثاً بالمواقف التقليدية الظلامية للدين والتدين. ولهذا السبب، كرس له المؤلف فصلاً كاملاً بعنوان: «فولتير يدشن معركة المثقف من أجل الحقيقة». فالحقيقة بالنسبة له أهم من الطائفة والعشيرة، وحتى العائلة. هنا تكمن خصوصية الفيلسوف أو المثقف الحقيقي، وهنا يتمايز كلياً عن أشباه المثقفين الغوغائيين الذين يمشون وراء القطيع بشكل أتوماتيكي. ونضرب على ذلك مثلاً آخر، هو سارتر. فقد اتخذ في الخمسينيات والستينيات موقفاً صارماً ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر. وكان موقفه من الراديكالية إبان حرب الجزائر إلى درجة أن الأعين احمرت عليه من قبل قادة اليمين الفرنسي الذين طالبوا ديغول بإخراسه على الفور أو اعتقاله. ولكن ديغول رد عليهم قائلاً: لا أحد يسجن فولتير! فذهبت مثلاً. وهي عبارة تدل على عظمة ديغول بقدر ما تدل على عظمة سارتر. هكذا، نلاحظ أن الفيلسوف الحقيقي لا يتردد لحظة واحدة عن الوقوف ضد جماعته إذا كانت ظالمة أو جائرة أو طاغية. ومعلوم أن أغلبية الشعب الفرنسي آنذاك كانت تعتقد اعتقاداً جازماً بأن الجزائر فرنسية، وأن أي شخص يتخلى عنها خائن أو عميل. ومع ذلك، فقد تصدى لهم سارتر، وسار ضد عاطفة الشعب، بل انضم إلى خندق العدو: أي جبهة التحرير الوطني الجزائرية. وهنا تكمن إحدى سمات المثقف الحقيقي الذي يخاطر بنفسه، ويضعها على حد السكين من أجل الحقيقة والعدالة. يحصل ذلك إلى درجة أن الآخرين يعدون ذلك تهوراً، بل جنوناً. ومن هنا الاعتقاد بوجود علاقة بين الفيلسوف والمجنون. والحق أنه لو لم تكن فيه «حبة جنون» لما تجرأ على مواجهة الإجماع الجبار للشعب الفرنسي.
ومعلوم أن مؤسس الفلسفة سقراط كان أيضاً «ضد الشعب»، بالمعنى الغوغائي للكلمة، أو ضد الجمهور والقطيع. وقد اتهمته السلطة بأنه يشكك في الآلهة والمقدسات التي يؤمن بها الشعب، وأجبروه على تجرع السم الزعاف بسبب جدة أفكاره وخطورتها على الشبيبة في نظرهم. وقل الأمر ذاته عن بقية الفلاسفة الكبار؛ كلهم اصطدموا بشكل أو بآخر بسلطات عصرهم السياسية والدينية، وكلهم اصطدموا بشكل خاص بالجمهور الغفير أو بالمعتقدات الجبارة الكبرى المهيمنة على عصرهم بصفتها حقائق مطلقة أو مقدسات، في حين أنها أفكار خاطئة أو تقليدية متحنطة لم تعد صالحة. ولكن وحده الفيلسوف يرى أنها خاطئة. أما الآخرون، فلا يكتشفون ذلك إلا بعد سنوات طويلة. وهذا يعني أن الفيلسوف شخص يستيقظ قبل الآخرين، ويرى ما لا يُرى بالعين المجردة؛ إنه شخص يأتي قبل الأوان لكي يوقظ الناس، لكنهم أحياناً يقتلونه لأنهم لا يريدون أن يستيقظوا، وإنما يفضلون أن يظلوا نائمين نومة أهل الكهف، ثم إنهم لا يستطيعون تحمل التشكيك بمعتقداتهم العظمى التي جبلوا بها جبلاً، وتربوا عليها، وتشربوها مع حليب الطفولة. فسقراط لم يكن الوحيد الذي لقي هذا المصير، وإن كان أول شهيد في تاريخ الفلسفة، وإنما أرسطو أيضاً كاد أن يُقتل لولا أنه هرب في جنح الظلام من أثينا، قائلاً عبارته الشهيرة: «لن أدعهم يرتكبون جريمة ثانية ضد الفلسفة؛ يكفي أنهم قتلوا سقراط»! وجيوردانو برينو قتلوه في القرن السادس عشر لأنه أنكر بعض العقائد الدينية الأكثر رسوخاً. لقد قتلته محاكم التفتيش بشكل فظيع مرعب بعد أن قطعوا لسانه الذي جدف به الكفر، وألقوه بعدئذ طعمة للنيران في أقبية الفاتيكان. ومؤخراً، اكتشفنا أن ديكارت نفسه مات قتلاً، وليس بشكل طبيعي، كما كنا نتوهم. لقد دسوا له السم الذي حرق أحشاءه حرقاً. وهكذا وقع في المصيدة وهو الذي كان حذراً جداً، ويتخذ كافة الاحتياطات، بل ويغير منزله باستمرار، ويعيش مختفياً عن الأنظار تقريباً؛ كل ذلك لم ينفعه في شيء، فقد وصلوا إليه في نهاية المطاف. كان يعرف أنه ملاحق مهدد لأنه فجر قنبلة فلسفية موقوتة أطاحت بالعصور القديمة كلها، ودشنت العصور الحديثة، إلى درجة أن هيغل عده البطل المقدام للفكر. وبالتالي، فقد دفعه الرجعيون الأصوليون ثمن جرأته الفكرية باهظاً. وجان جاك روسو دفع أيضاً ثمن مؤلفاته العبقرية غالياً. فقد لاحقوه ملاحقات ضارية حتى جننوه. وهي المؤلفات التي كانت تُحرق في وقت واحد في باريس وجنيف وأمستردام وغيرها من العواصم الأوروبية، ولكنها أصبحت بعد ثلاثين سنة فقط الإنجيل المبجل للثورة الفرنسية!



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.