«تغول الفساد» يستنزف ثروات الليبيين على وقع انقسام سياسي (تحليل إخباري)

يشمل تهريب النفط وتبديد «المخصصات» وغسل الأموال

جانب من توقيع اتفاقية تعاون في مجال مكافحة الفساد بين وزارة داخلية «الوفاق» والمصرف المركزي (المصرف المركزي)
جانب من توقيع اتفاقية تعاون في مجال مكافحة الفساد بين وزارة داخلية «الوفاق» والمصرف المركزي (المصرف المركزي)
TT

«تغول الفساد» يستنزف ثروات الليبيين على وقع انقسام سياسي (تحليل إخباري)

جانب من توقيع اتفاقية تعاون في مجال مكافحة الفساد بين وزارة داخلية «الوفاق» والمصرف المركزي (المصرف المركزي)
جانب من توقيع اتفاقية تعاون في مجال مكافحة الفساد بين وزارة داخلية «الوفاق» والمصرف المركزي (المصرف المركزي)

يستغرب الشاب أدومي عبد الوارث الذي اصطف مع عشرات الليبيين في أحد أحياء العاصمة طرابلس للحصول على حصة وقود، من حديث كبار المسؤولين عن «تفشي الفساد في مؤسسات الدولة»، وقال متسائلاً: «ماذا يريد الجالسون في السلطة من المواطن؟ الكهرباء متوقفة، والماء مقطوع، والأسعار نار».
استغراب عبد الوارث الذي نقله عبر فضائية محلية، يعكس حالة وتذمر آلاف المواطنين والمسؤولين في عموم ليبيا من «استشراء الفساد» بصور مختلفة وبطرق عديدة؛ لكن عضو مجلس النواب جبريل أوحيدة يرى أن الوضع أخطر من ذلك بكثير، مرجعاً جل أزمات ليبيا إلى «الفساد ونهب المال العام». وقبل أيام، قال فتحي باشاغا، وزير الداخلية المفوض بحكومة «الوفاق»: «قطعنا اليوم خطوة مهمة في طريق طويل لمكافحة الفساد»، في إشارة إلى توقيع بروتوكول عمل مع المصرف المركزي بطرابلس في مجال مكافحة غسل الأموال، مضيفاً: «يكفي عبثاً بأرواح البشر، ويكفي هدراً للمال العام، وسرقة لأرزاق الليبيين».لكن لم يتأخر الرد على هذا التحرك من متابعين للتدهور الاقتصادي في البلاد، وما يجري خلف الكواليس، إذ رأى الدكتور سليمان الشحومي، مؤسس سوق الأوراق المالية في ليبيا، أن «مكافحة عمليات غسل الأموال ليست في حاجة لتوقيع برتوكول، أو اتفاقية بين البنك المركزي ووزارة الداخلية»؛ مشيراً إلى أنه يجب مواجهة التدهور الحاصل «بتوحيد سعر الصرف لجميع الأغراض، وتنظيم التعاقد عبر الوزارات بشكل شفاف وعادل»، ومشدداً على «الحاجة لتوحيد الحكومة، وإطلاق برنامج إصلاح هيكلي اقتصادي شامل، مع توحيد البنك المركزي، وإعادة هندسة النظام المصرفي».
في المقابل، يرى أوحيدة، النائب عن مدينة الكفرة (جنوب)، أن الفساد المالي والإداري في ليبيا «تفاقم بشكل تصاعدي خلال السنوات العشرة الأخيرة في ليبيا التي جثم عليها نظام استبدادي لأكثر من أربعة عقود، وأصبحت البلاد تدار بالمزاج المتقلب للزعيم الأوحد، بعيداً عن أي خطط استراتيجية»، في إشارة إلى نظام الرئيس الراحل معمر القذافي.
يقول أوحيدة: «كان أهم أهداف ثورة 17 فبراير (شباط) تغيير هذا الواقع المرير؛ لكن للأسف قفزت عليها تيارات مؤدلجة، تحالفت مع توجهات مناطقية ارتكزت قوتها على ميليشيات متباينة المصالح، واتفقت جميعها على استباحة المال العام، والاستفادة من الفساد المالي والإداري، وأصبحت هي الراعي والحامي للسلطات المتعاقبة على إدارة البلاد من العاصمة».
وأمام تصاعد حدة الغضب والاحتجاج في شوارع العاصمة، على ما اعتبره المتظاهرون «نهباً للمال العام»، منح رئيس المجلس الرئاسي، فائز السراج، مطلع الأسبوع الماضي «دعماً كاملاً للأجهزة الرقابية والمحاسبية، لإجراء عمليات تحقيق وتفتيش في جميع الملفات المتعلقة بالفساد، وإهدار المال العام»، مشدداً على «وجوب امتثال وتعاون كافة مؤسسات القطاع الحكومي مع هذه الأجهزة»، و«ضرورة إرساء مبدأ الشفافية والنزاهة وقواعد الحوكمة».
وتابع أوحيدة مؤكداً أن «الابتزاز طال كل المؤسسات؛ خصوصاً البنك المركزي ومؤسسة النفط، وحتى الهيئة العامة للاستثمار في الخارج، ناهيك عن الحكومات ووزاراتها، انطلاقاً من ثقافة الفساد الممنهج، والتي عجزت أمامها الأجهزة الرقابية، وأصبح التساؤل السائد هو: من يحاسب من؟».
وأمام هذا الوضع، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية أنها تتعقب جوانب من هذا الفساد، بعد أن فرضت عقوبات مالية على شبكة من المهربين في السابع من أغسطس (آب) الجاري، قالت إنهم «يسهمون في عدم استقرار ليبيا»، من بينهم الليبي فيصل الوادي (وادي)، مشغل السفينة «مرايا»، وشركاؤه مصباح محمد وادي (مصباح)، ونور الدين ميلود مصباح (نور الدين)، وشركة «الوفاق» المحدودة. وعلى أثر ذلك خرج وزير الداخلية بحكومة «الوفاق» ليعلن أن وزارته «على تعاون وثيق بالجهات الدولية المختصة في مكافحة الفساد، ورصد كافة العمليات الاحتيالية لغسل الأموال»، وقال: «لن نتردد في فضح الفاسدين مهما كانوا، وأينما كانوا». لكن تصريحات باشاغا أثارت حالة من الحيرة وسط قطاع كبير من بسطاء الليبيين، وإن كان العارفون ببواطن الأمور يدركون أن هناك «دولاً داخل الدولة، تتمتع بنفوذ واسع، ودعم أطراف السلطة القائمة»، وهو ما سيتكشف عما قريب بانقسام حاد بين «فريقي طرابلس ومصراتة»، بحسب متابعين.
وفي غضون ذلك، يظل المواطن الليبي هو الذي يدفع الثمن منذ أكثر من تسع سنوات، بحسب أوحيدة الذي قال: «الضحية هو المواطن الذي يسمع عن صرف مليارات تقسم شبه مناصفة، بين مرتبات جلها بلا أي جدوى اقتصادية، ودعم سلع ومحروقات وخدمات يذهب أغلبه في طريق الفساد. والنصف الآخر يذهب إما في ميزانيات إدارية ضخمة، أو مشروعات يُتعاقد عليها بطرق ملتوية، وفي الغالب لا تستكمل، أو لا تحقق الحد المعقول من المصلحة العامة أو العدالة الاجتماعية، وليس وفق الأولويات المطلوبة ولا الحد الأدنى من المعايير». وانتهى أوحيدة إلى أن كل ذلك «انعكس على وضع البلاد المزري، بما مثَّله ذلك من أساس أزمة ليبيا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومساهمات خارجية تحرك خيوط اللعبة بما يتلاءم مع مصالحها المتباينة».
وفي إطار حربها على الفساد، أمرت اللجنة العليا لمكافحة وباء «كورونا» في شرق ليبيا، بقيادة الفريق عبد الرازق الناظوري، بالتحقيق في «مخالفات وتجاوزات» استيراد أجهزة طبية لمكافحة الفيروس.وفي السياق ذاته، ودفاعاً عن التظاهرات التي اندلعت في طرابلس تنديداً بـ«تفشي الفساد وغلاء الأسعار»، قال محمود عبد العزيز، عضو المؤتمر العام السابق، والقيادي بجماعة «الإخوان»، إنهم «يقفون مع كل حراك ضد الفساد والحكومة؛ لكن بشرط أن تكون منطلقاته وطنية». لكن عضو مجلس النواب، محمد بشير الفيرس، رد على ذلك بالقول: «إن المتسبب في الفساد لا يمكنه أن يكون محارباً له»، وزاد موجهاً حديثه لسلطات طرابلس: «إذا كانوا جادين في مكافحة الفساد لما تركوه يتفشى في البلاد كانتشار النار في الهشيم»؛ معتبراً أن هذه التحركات «لا تعدو كونها تصفية حسابات سياسية، ومحاولة كل طرف إقصاء الآخر بعد أن اطمأنوا بأن طرابلس أصبحت بعيدة عن المخاطر، وهم لا يهمهم الفساد ولا المفسد ولا حال المواطن الفقير(...) الصراع الآن أصبح على من يكون في المشهد القادم، لا أكثر ولا أقل».
وتواصل الغضب الشعبي من «حجم الفساد» في البلاد مع ما أعلنه مصرف ليبيا المركزي من أن إجمالي الإنفاق الفعلي بلغ 19 ملياراً، و77 مليون دينار، خلال الفترة الممتدة من الأول من يناير (كانون الثاني) 2020 إلى 31 يوليو (تموز) الماضي؛ حيث احتل الإنفاق على المرتبات الجانب الأكبر منها، بواقع عشرة مليارات و940 مليون دينار. وانتهى الفيرس، عضو لجنة التخطيط والمالية والموازنة العامة بمجلس النواب، إلى أن الفساد «منتشر في كل القطاعات، والجانب الأكبر يتمثل في تبديد المخصصات بجميع القطاعات، فضلاً عن تهريب النفط في المنطقة الغربية الذي يعتبر مصدر ثراء لعصابات امتهنت التهريب، على مرأى ومسمع من حكومة (الوفاق)، وبمساهمة آخرين من دول الجوار، وبالتالي لا حل للخروج من هذه الكارثة إلا بحكومة موحدة، ومؤسسات أمنية قادرة على تنفيذ الأوامر».



«هدنة غزة» تقترب وسط جولات مكوكية وحديث عن «تنازلات»

دخان القصف الإسرائيلي فوق بيت ياحون بقطاع غزة الخميس (رويترز)
دخان القصف الإسرائيلي فوق بيت ياحون بقطاع غزة الخميس (رويترز)
TT

«هدنة غزة» تقترب وسط جولات مكوكية وحديث عن «تنازلات»

دخان القصف الإسرائيلي فوق بيت ياحون بقطاع غزة الخميس (رويترز)
دخان القصف الإسرائيلي فوق بيت ياحون بقطاع غزة الخميس (رويترز)

وسط حديث عن «تنازلات» وجولات مكوكية للمسؤولين، يبدو أن إسرائيل وحركة «حماس» قد اقتربتا من إنجاز «هدنة مؤقتة» في قطاع غزة، يتم بموجبها إطلاق سراح عدد من المحتجزين في الجانبين، لا سيما مع تداول إعلام أميركي أنباء عن مواقفة حركة «حماس» على بقاء إسرائيل في غزة «بصورة مؤقتة»، في المراحل الأولى من تنفيذ الاتفاق.

وتباينت آراء خبراء تحدثت إليهم «الشرق الأوسط»، بين من أبدى «تفاؤلاً بإمكانية إنجاز الاتفاق في وقت قريب»، ومن رأى أن هناك عقبات قد تعيد المفاوضات إلى المربع صفر.

ونقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، عن وسطاء عرب، قولهم إن «حركة (حماس) رضخت لشرط رئيسي لإسرائيل، وأبلغت الوسطاء لأول مرة أنها ستوافق على اتفاق يسمح للقوات الإسرائيلية بالبقاء في غزة مؤقتاً عندما يتوقف القتال».

وسلمت «حماس» أخيراً قائمة بأسماء المحتجزين، ومن بينهم مواطنون أميركيون، الذين ستفرج عنهم بموجب الصفقة.

وتأتي هذه الأنباء في وقت يجري فيه جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي، محادثات في تل أبيب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الخميس، قبل أن يتوجه إلى مصر وقطر.

ونقلت «رويترز» عن دبلوماسي غربي قوله إن «الاتفاق يتشكل، لكنه على الأرجح سيكون محدود النطاق، ويشمل إطلاق سراح عدد قليل من الرهائن ووقف قصير للأعمال القتالية».

فلسطينيون بين أنقاض المباني المنهارة في مدينة غزة (أ.ف.ب)

في حين أشار القيادي في «حماس» باسم نعيم إلى أن «أي حراك لأي مسؤول أميركي يجب أن يكون هدفه وقف العدوان والوصول إلى صفقة لوقف دائم لإطلاق النار، وهذا يفترض ممارسة ضغط حقيقي على نتنياهو وحكومته للموافقة على ما تم الاتفاق عليه برعاية الوسطاء وبوساطة أميركية».

ومساء الأربعاء، التقى رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي، ديفيد برنياع، مع رئيس الوزراء القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في الدوحة؛ لبحث الاتفاق. بينما قال مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في بيان، إنه «أبلغ وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في اتصال هاتفي، الأربعاء، بأن هناك فرصة للتوصل إلى اتفاق جديد يسمح بعودة جميع الرهائن، بمن فيهم المواطنون الأميركيون».

وحال تم إنجاز الاتفاق ستكون هذه هي المرة الثانية التي تتم فيها هدنة في قطاع غزة منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وتلعب مصر وقطر والولايات المتحدة دور الوساطة في مفاوضات ماراثونية مستمرة منذ نحو العام، لم تسفر عن اتفاق حتى الآن.

وأبدى خبير الشؤون الإسرائيلية بـ«مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» الدكتور سعيد عكاشة «تفاؤلاً حذراً» بشأن الأنباء المتداولة عن قرب عقد الاتفاق. وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «التقارير تشير إلى تنازلات قدمتها حركة (حماس) بشأن الاتفاق، لكنها لا توضح نطاق وجود إسرائيل في غزة خلال المراحل الأولى من تنفيذه، حال إقراره».

وأضاف: «هناك الكثير من العقبات التي قد تعترض أي اتفاق، وتعيد المفاوضات إلى المربع صفر».

على الجانب الآخر، بدا أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس السياسي الفلسطيني، الدكتور أيمن الرقب، «متفائلاً بقرب إنجاز الاتفاق». وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «هناك حراكاً أميركياً لإتمام الصفقة، كما أن التقارير الإسرائيلية تتحدث عن أن الاتفاق ينتظر الضوء الأخضر من جانب تل أبيب و(حماس) لتنفيذه».

وأضاف: «تم إنضاج الاتفاق، ومن المتوقع إقرار هدنة لمدة 60 يوماً يتم خلالها الإفراج عن 30 محتجزاً لدى (حماس)»، مشيراً إلى أنه «رغم ذلك لا تزال هناك نقطة خلاف رئيسية بشأن إصرار إسرائيل على البقاء في محور فيلادلفيا، الأمر الذي ترفضه مصر».

وأشار الرقب إلى أن «النسخة التي يجري التفاوض بشأنها حالياً تعتمد على المقترح المصري، حيث لعبت القاهرة دوراً كبيراً في صياغة مقترح يبدو أنه لاقى قبولاً لدى (حماس) وإسرائيل»، وقال: «عملت مصر على مدار شهور لصياغة رؤية بشأن وقف إطلاق النار مؤقتاً في غزة، والمصالحة الفلسطينية وسيناريوهات اليوم التالي».

ويدفع الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، من أجل «هدنة في غزة»، وكان ترمب طالب حركة «حماس»، في وقت سابق، بإطلاق سراح المحتجزين في غزة قبل توليه منصبه خلفاً لبايدن في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل، وإلا فـ«الثمن سيكون باهظاً».