قصص تستنهض الضعف الإنساني وتتشبث بالأمل

سمير الفيل في مجموعته الجديدة «فك الضفيرة»

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

قصص تستنهض الضعف الإنساني وتتشبث بالأمل

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

لم يكن من قبيل المصادفة أبداً أن يهدي سمير الفيل مجموعته القصصية «فك الضفيرة» الصادرة عن دار «غراب» بالقاهرة «إلى طائر حزين، رفّ في الفضاءات البعيدة ثم حط على شباكي»، فنصوص المجموعة تحتفي بالحزن باعتباره شعوراً إنسانياً نبيلاً، لكنها لا تغرق فيه، بل تحنو على الإنسان بضعفه وشجنه وارتباكه أمام تحولات حادة في واقع قاسٍ، وتستنهض في مواجهته مقدرته على التجاوز والمقاومة والصمود.
هكذا يجد الراوي نفسه فجأة في قصة «شبكية»، وقد أصبحت عينه معطوبة دون مقدمات: «أظلمت عيني اليمنى فجأة. لم يعد من الممكن الرؤية بها. كأن جداراً من الإسمنت طُلي بالقار، ووضع أمامها في ليل مؤسف. قاومتُ حالة الضيق، وأغلقتها لدقائق. جربت رؤية الدنيا بعيني اليسرى. كانت المرئيات مشوهة إلى حد بعيد، وجدتني أبكي بلا صوت. مجرد نهنهة أعادتني إلى زمن الطفولة حين كنت أزور قبر أبي، وأجلس بالساعات أسوي بيدي سعف النخيل. وددت في تلك اللحظة أن أذهب إلى أمي في بيتها قرب منطقة (باب الحرس) لأشكو لها مصابي، لكنني تذكرت أننا دفناها منذ عدة أعوام».
يحمل هذا النص طاقة من الشجن، حيث يستند إلى تجربة واقعية عاشها المؤلف، كما هو واضح من إهدائه القصة لأحد الأطباء «الذي طلب مني كتابة التجربة»، لكن اللافت أنه رغم استجابته لتلك النصيحة لم ينزلق إلى فخ الميلودراما والاستجداء الفج لكسب تعاطف القارئ.
تشير قصص المجموعة في مجملها إلى أن سمير الفيل لا يؤمن بمقولات راجت بقوة منذ تسعينات القرن الماضي في الأدب المصري تدعو إلى التركيز على ما هو «هامشي» و«ذاتي»، مع الابتعاد قدر الإمكان عما يسمى بـ«القضايا الكبرى» باعتبارها «موضة قديمة» تخص الأجيال القديمة فقط، ولا تليق بدعاة الحداثة وما بعدها! وبصرف النظر عن مدى دقة هذا الطرح وما يكتنفه من مغالطات والتباس في المفاهيم، فإن النتيجة العملية أننا صرنا بإزاء مجموعات قصصية تدفع بها المطابع عبر ربع قرن من الزمان، وتتشابه في لغتها إلى حد كبير. كما تبدو أقرب إلى الثرثرة والتهويمات الفلسفية.
يبدو القاص معنياً للغاية بالتحولات الشديدة على المستويين الاجتماعي والاقتصادي في مدينته (دمياط)، تلك المدينة الساحلية التي ترقد في وداعة بأقصى شمال مصر مُعانِقة البحر المتوسط، بينما يشقها النيل إلى نصفين، والمعروفة بقلعة صناعة الأثاث وموطن تجارة الأخشاب والموبيليا، فضلاً عن الحلويات والألبان، ومع ذلك أصاب العديد من أبنائها داء البطالة، وبات الحصول على فرصة عمل حلماً يراود آلاف الشباب.
بعد أن اشتهرت دمياط بأنها المحافظة الوحيدة في طول البلاد وعرضها التي طالما كانت تتباهى بأنه لا يوجد من بينها مواطن واحد عاطل عن العمل:
«لم يتمكن من تدبير عمل يليق بليسانس الحقوق. مرّ على معارض كثيرة للموبيليا كي يعمل في أي منها. لم يجد ترحيباً، بل أبواباً موصدة. قرر البحث عن عمل في إحدى المدن الجديدة القريبة من بلدته. كان عليه أن يقف في فابريقة الزجاج أمام فرن شديد الحرارة. ملابسه الواقية وخوذته والقناع جعلته أشبه بمحاربي العصور الوسطى».
وإذا كانت قصة «الفابريقة» تقدم لنا هذا النوع من الاغتراب الذي يمكن تسميته بـ«الاغتراب المهني»، أي افتقاد الحد الأدنى من الحميمية والشعور بالانتماء للمهنة التي يلتحق بها شخص ما في مقتبل حياته، فإن قصة «اللامبالي» تقدم اغتراباً من نوع آخر. فثمة مراهق يعمل في مهنة يدوية كعادة مراهقي دمياط، المدينة التي تقدس قيمة العمل في حد ذاتها، لكن سبل التواصل تقطعت به إنسانياً واجتماعياً مع كل مَن حوله. أمه تركته وأباه، وفرّت هاربة مع رجل آخر، بعد أن استولت على مدخرات العائلة. وبالطبع يصل الشعور بالاغتراب إلى ذروته يوم الاحتفال بعيد الأم، حيث كل الرفاق يشترون بجنيهاتهم القليلة لأمهاتهم ما تيسر من هدايا. أما هو، فيجلس وحيداً متوحداً مع حزنه مرتدياً قناع اللامبالاة.
وكثيراً ما تلوح وطأة الضغوط الاقتصادية وصعوبة العثور على العمل المجزي كخلفية درامية للأحداث في العديد من قصص المجموعة، لكن تلك الحقيقة لا تحول دون محاولات هذه الشخصية أو تلك العثور على البهجة أو تحقيق الذات في جوانب أخرى. في قصة «كيلو ونصف لحم»، يلاحظ بطل النص أنه لم يعد يشتري اللحم مؤخراً لأسرته، فيقرر تصويب الوضع ويدخل على زوجته محملاً بما لذ وطاب. وفي غمرة البهجة العائلية لأسرة بسيطة، تدرك ربة المنزل أن زوجها «تصرّف» من تلقاء نفسه في قطعة حليها الذهبية الوحيدة. وفي قصة «نيشان» يضيق الحال على أحد قدامى المحاربين من العجائز، حتى إنه يفكر في بيع أحد الأوسمة التي حصل عليها قبل نحو خمسين عاماً تقديراً لبطولاته في الحرب. وفي «شاي الخامسة» تحتمي سيدة من أصل نبيل بماضيها الأرستقراطي المشكوك به، لتهرب من حقيقة أنها باتت تعيش حالة من العوز وتعاني لتدبير احتياجاتها المعيشية الأساسية، ومع ذلك فهي لا تتواني على النظر باستعلاء لأهالي مدينتها.
أصدر سمير الفيل 17 مجموعة قصصية عبر مسيرته الإبداعية منذ سبعينات القرن الماضي، وهو لا يزال هنا وفياً لما يمكن تسميته القصة القصيرة جداً. نصوص مكثفة للغاية، مشحونة بالمفارقات الدرامية الكبرى. أما اللغة فمتجردة من الحمولات المجازية والمحسنات البلاغية. إنها لغة تخلص لوظيفتها الأساسية كحامل للمعنى، كما تسعى لرسم الملامح النفسية والجسدية والاجتماعية في أقل عدد من الكلمات: «حين فُتحت الزنازين في صباح خريفي حزين، فوجئوا بالثقب في الجدار، وبالمسمار الطويل الذي تركه خلفه، ومطرقة صغيرة الحجم. لا أحد يعرف كيف فر هذا السجين، ولا الطريقة التي أخفى بها أدواته الحديدية الإجرامية أوقات التفتيش. لقد خدعهم، وسرّب تلك الأشياء الممنوعة في حبسه الانفرادي. يبدو أن صداقته القديمة بالكلاب، وقدرته على استئناسها قد ساعدته على الهرب، فكل الشهود أجمعوا أنهم لم يسمعوا نباحاً».


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
TT

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)

تأتي موسوعة الفنان سعيد العدوي (1938-1973) لترصد مسيرة مؤسس جماعة التجريبيين المصريين وأحد أبرز فناني الحفر والجرافيك في النصف الثاني من القرن العشرين.

وتتضمن الموسوعة، حسب قول المشرف عليها والباحث في شؤون الحركة الفنية المصرية الدكتور حسام رشوان، المئات من أعمال العدوي ويومياته ومذكراته واسكتشاته، مدعومة بعدد كبير من الدراسات التي تم إعداد بعضها خصوصاً من أجل هذه الموسوعة، ومعها دراسات أخرى نشرها أصحابها في صحف ومجلات ومطبوعات خاصة بالفن في مصر والوطن العربي.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن مقدمة الدكتورة أمل نصر تتناول جميع المقالات، والزاوية التي نظر منها الناقد لأعمال العدوي موضع الدراسة، كما تقوم بقراءتها وتحليلها وبسط عناصرها أمام الباحثين ومحبي فنه».

موسوعة العدوي تضمنت اسكتشاته ورسوماته (الشرق الأوسط)

وتأتي موسوعة العدوي التي نشرتها مؤسسة «إيه آر جروب» التي يديرها الفنان أشرف رضا، في صورة مونوغراف جامع لكل أعماله، التي تعبق برائحة الماضي، وعالم الموشحات، وحلقات الذكر والمشعوذين، وعربات الكارو والحنطور، وتجمعات الموالد والأسواق والأضرحة، فضلاً عن لوحة «الجنازة» بعد رحيل عبد الناصر. وجمعت الموسوعة كل كراساته واسكتشاته بالكامل، ومذكراته الخاصة التي كتبها وتعتبر دراسات نفسية قام بكتابتها، وقد ساعدت هذه المذكرات النقاد والباحثين في فن العدوي على تناول أعماله بصورة مختلفة عن سابقيهم الذين تصدوا لفنه قبل ظهورها، وفق رشوان.

ولأعمال العدوي طابع خاص من الحروفيات والزخارف والرموز ابتكرها في إبداعاته وهي تخصه وحده، وتخرّج العدوي ضمن الدفعة الأولى في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1962، وأسس مع زميليه محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطي جماعة التجريبيين. وتأتي الموسوعة باللغة العربية في قطع كبير بالألوان، تزيد على 600 صفحة، من تصميم وتجهيز وإنتاج طباعي «إيه آر جروب» للتصميم والطباعة والنشر.

الموسوعة ضمت العديد من الأعمال الفنية ودراسات عنها (الشرق الأوسط)

وتتضمن الموسوعة، وفق رشوان، دراستين جديدتين للدكتور مصطفى عيسى، ودراسة لكل من الدكتورة ريم حسن، وريم الرفاعي، والدكتورة أمل نصر، ودراسة للدكتورة ماري تيريز عبد المسيح باللغة الإنجليزية، وجميعها تم إعدادها خصوصاً للموسوعة، وهناك دراسات كانت موجودة بالفعل للدكتور أحمد مصطفى، وكان قد جهّزها للموسوعة لكن عندما أصدرت مجلة فنون عدداً خاصاً عن فن العدوي قام بنشرها ضمن الملف، وإلى جانب ذلك هناك بحث عن أعمال العدوي للراحلين الدكتور شاكر عبد الحميد والفنان عز الدين نجيب وأحمد فؤاد سليم ومعهم عدد كبير من النقاد والفنانين الذي اهتموا برائد التجريبيين المصري وأعماله.

والتحق سعيد العدوي بمدرسة الفنون بالإسكندرية سنة 1957، وقبلها بعام كان في كلية الفنون بالزمالك، وقضى خمس سنوات لدراسة الفن في عروس البحر المتوسط، أما الأعمال التي تتضمنها الموسوعة وتوثق لها فتغطي حتى عام 1973؛ تاريخ وفاته. وهناك عدد من رسوم الكاريكاتير كان قد رسمها وقت عمله بالصحافة، وهذه الأعمال اهتمت بها الموسوعة ولم تتجاهلها لأنها تكشف عن قدرات كبيرة للعدوي وسعيه للدخول في مجالات عديدة من الفنون التشكيلية، وفق كلام رشوان.

من أعمال العدوي (الشرق الأوسط)

ولفت إلى أن «تراث العدوي بكامله بات متاحاً من خلال الموسوعة للباحثين في فنه والمهتمين بأعماله وتاريخ الفن التشكيلي المصري، وقد توفر لدى كتّاب الموسوعة عدد مهول بالمئات من اللوحات الكراسات والاسكتشات، فأي ورقة كان يرسم عليها اعتبرناها وثيقة وعملاً فنياً تساعد في الكشف عن رؤية العدوي التشكيلية وعالمه الخَلَّاق».

ولا تعتمد الموسوعة فكرة التسلسل الزمني، لكنها توثق عبر المقالات كل الأعمال التي تناولتها، من هنا بنى رشوان رؤيته وهو يرسم الخطوط الرئيسية لفن العدوي على الدراسات البانورامية التي تشتغل بحرية كاملة على الأعمال دون التقيد بتاريخها.

وسبق أن أصدر الدكتور حسام رشوان، بالاشتراك مع الباحثة والناقدة الفرنسية فاليري هيس، موسوعة فنية عن رائد التصوير المصري محمود سعيد عن دار «سكيرا» الإيطالية عام 2017 بمناسبة مرور 120 عاماً على ميلاد محمود سعيد، وتضمنت الموسوعة في جزئها الأول أكثر من 500 لوحة و11 مقالاً ودراسة نقدية.