المسرح السوري.. انفراج فأزمة.. فحرب

العروض الخاصة والتجارية توقفت تقريبا مع غياب السياح الخليجيين والعرب

المسرح السوري.. انفراج فأزمة.. فحرب
TT

المسرح السوري.. انفراج فأزمة.. فحرب

المسرح السوري.. انفراج فأزمة.. فحرب

في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2010، موعد انطلاق فعاليات مهرجان دمشق المسرحي العربي، أعلن في حينها إسماعيل عبد الله، الأمين العام للهيئة العربية للمسرح، وفي مؤتمر صحافي بفندق الشام وسط العاصمة السورية، عن اختيار مدينة دمشق لإقامة الدورة الرابعة من مهرجان المسرح العربي الذي تقيمه الهيئة سنويا، وأعلن في حينها أن الفعاليات ستبدأ في العاشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2012.
ولكن وكما يقول المثل الشعبي «حساب البيدر لم ينطبق على حساب الحقل»، فبعد أشهر قليلة بدأ الحراك السوري والأزمة العاصفة والحرب الدموية لتوقف -ولإشعار آخر- ليس فقط مهرجان المسرح العربي، بل مهرجان دمشق المسرحي العربي الذي لم تكتمل فرحة المثقفين وهواة الفرجة المسرحية بعودته في عام 2004 بعد توقف دام 16 سنة، وقدمت 4 دورات منه حتى عام 2010.
وكان المهرجان كان قد توقف في عام 1988 بعد أن انطلق في دورته الأولى عام 1969 بمعدل دورة كل سنتين. يقول هشام كفارنة، مدير المسرح القومي السوري، لـ«الشرق الأوسط»: «لقد توقف مهرجان مسرح دمشق المسرحي العربي، وهو أقدم مهرجان عربي وأعرقها وبشهادة المسرحيين العرب أنه (أبو المهرجانات المسرحية العربية)!.. لقد توقف سابقا لفترة طويلة نتيجة ظروف دولية، ولكننا في الفترة ما قبل الأزمة في سنة 2004 بعثناه للحياة من جديد وقدمنا 4 دورات منه حتى عام 2010 بمشاركة فرق مسرحية عربية، وفي بداية الأزمة اضطررنا إلى التوقف بسبب صعوبة التواصل مع المسرحيين العرب».
لقد تغيرت مواعيد العروض المسرحية بعد الأزمة والحرب. تقول حلا سليمان، وهي طالبة في كلية الآداب: «كنت وقبل بدء الأزمة ألتقي مع زملائي المحبين للمسرح في مقهى الروضة القريب من مسرحي الحمراء والقباني نحتسي القهوة وننطلق لنحضر عرض مسرح الحمراء، حيث نبقى في العرض المسرحي حتى العاشرة ليلا وأغادر مع زملائي لأعود إلى منزل أسرتي في ضاحية صحنايا جنوب دمشق.. لم أستطع في البداية استيعاب موضوع انخفاض عدد العروض المسرحية واضطراري إلى العودة إلى المنزل قبل المساء، ولكن تعودت على هذا الوضع فيما بعد وصرت مع زملائي نلتقي في مقهى الروضة بعد الظهر وندقق على جدران المقهى وفي مدخله، كما هي العادة، عن إعلان لعرض مسرحي أو نشاط ثقافي، وإذا ما وجدنا ضالتنا فالعرض يبدأ في ساعة مبكرة غالبا في الرابعة أو الخامسة عصرا.
عروض المسرح الخاص والتجاري هي في معظمها تأخذ الجانب الكوميدي والأسلوب الارتجالي الناقد والساخر والتي كانت مزدهرة قبل الأزمة وعلى مدى سنوات طويلة، وخصوصا في مسارح بعض دور السينما ومنها الخيام والسفراء وراميتا وجميعها تتوضع وسط دمشق، كانت تنشط بشكل واسع في أشهر فصل الصيف، إذ تستقطب بشكل خاص زوار وسياح دمشق من القادمين من دول الخليج والبلدان العربية الأخرى، ففصل الصيف هو في العادة موسم سياحة الخليجيين لسوريا. توقفت عروض هذه المسارح هي الأخرى، كان من أشهر فرقها وفنانيها آل قنوع وأندريه سكاف وغادة بشور وغادة الشمعة والراحلين حسن دكاك وياسين بقوش وبعض فناني الكوميديا السوريين.
دمشق ومع عام 2008، عندما اختيرت عاصمة للثقافة العربية، دشنت مرحلة نشاط جديدة للمسرح السوري حين قام فنانون ومخرجون مجتهدون بمبادرات فردية لم تكن تعرفها الحياة الثقافية الدمشقية، فعملوا على استثمار الأقبية القديمة والملاجئ والمحامص التراثية والمنشآت المعمارية في بعض حارات دمشق القديمة لتقديم عروضهم المسرحية. وهذا ما قام به فعلا فنانون يعشقون المسرح ومجموعات فنية مسرحية كانت تلقى دعما ماديا ومعنويا من مؤسسات ثقافية أوروبية ومراكز ثقافية أجنبية موجودة في العاصمة السورية وأغلقت مقراتها بشكل مؤقت بعد بدء الأزمة السورية.
المخرج المسرحي السوري سامر عمران المدير السابق للمعهد العالي للفنون المسرحية، الذي يضم رصيده عددا من العروض المسرحية المهمة وكان المحفز لمحافظة دمشق للإعلان عن إعادة الروح للملاجئ القديمة المهملة في حارات دمشق القديمة واستثمارها كأمكنة لتقديم العروض المسرحية، له رأي مختلف، إذ يرى أن الأزمة والحرب زادته نشاطا وجرأة. يقول عمران لـ«الشرق الأوسط»: «لقد شكلت مع عدد من زملائي حالة جديدة للمسرح السوري لها علاقة بالحضور المسرحي والاحتراف مع الهواية، وبعد الأحداث صار هناك حالة أخلاقية واقتصادية. بالنسبة لي قدمت كمخرج 5 أعمال مسرحية، فالأزمة حفزت لدي النشاط أكثر وقد صرت أكثر جرأة، بمعنى أنني صرت معنيا ببلدنا أكثر، وكان علي أن أعمل أكثر من أي وقت آخر. أقول لك بصدق في ظل الأزمة تيسرت صناعة العرض المسرحي لي أكثر من قبل وصار لدي أمور أكثر أقولها من خلال المسرح من خلال ما أؤمن به، أي أن يكون المسرح إنسانيا ولا أن يحمل كما كبيرا من الآيديولوجيا. كنت في السابق أنتقد الأعمال المسرحية لما تحمله من آيديولوجيا نظرية وذهنية ودروس في الأخلاق فتخلى الكثير من الناس عن المسرح ولغته وقدسيته. ولذلك بالنسبة لي هناك تجربة وهناك ممثلون يدافعون عن هذه التجربة وهم موجودون ولديهم الرغبة في الاستمرار».
وعودة إلى هشام كفارنة مدير المسرح القومي السوري، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: «نحن مستمرون بتقديم العروض رغم الحرب وقذائف الهاون. انظر إلى نافذة مكتبي (يشير هشام بإصبع يده إلى زجاج النافذة الذي تهشم جزء منه)، منذ أيام قليلة سقطت قذيفة هاون مقابل مبنى مديرية المسارح ووصلت شظاياها لمكتبي ولكنني كنت خارج المكتب ونجوت من آثارها. ورغم الحرب والأزمة فإن المسرح القومي لم يوقف عروضه. قد تكون خفت قليلا في البداية لتعود حاليا مع تحسن الوضع الأمني في دمشق. ولكن بقي موعد هذه العروض مبكرا غالبا في الخامسة عصرا بينما كان العرض قبل الأزمة يبدأ في الثامنة مساء.. الأزمة أثرت على المسرح السوري، هذا صحيح، فقد كنا ننتج كما كبيرا من العروض، وتقلص هذا العدد نسبيا خصوصا في بداية الأزمة، فقد تخوف الناس وانكفأوا في بيوتهم. وعندما طال أمد الأزمة أراد الناس أن يعودوا إلى الحياة من جديد وكان يكفي أن تأتي الكاميرات لالتقاط صور للجمهور وهو محتشد أمام مسارحنا ليتابع عرضا ما».
دمشق عرفت المسرح منذ أواخر القرن التاسع عشر مع مؤسس ورائد المسرح السوري الراحل أبو خليل القباني (أطلق اسمه على أول مسرح كبير عام أسسته وزارة الثقافة في عام 1960 أيام الوحدة السورية المصرية تكريما له). وكان من المقرر أن ينطلق مشروع لترميم بقايا منزله المستملك لصالح وزارة السياحة في منطقة كيوان غرب دمشق في سفوح جبل قاسيون بموقع سياحي جميل في عام 2007 تقرر إطلاق مشروع الترميم. وتفاءل مثقفو دمشق ومحبو المسرح بهذا المشروع الثقافي، ولكن تأخر الوعد وجاءت الحرب والأزمة لتجمده. حاليا، وحسبما ذكرت مصادر مديرية سياحة دمشق لـ«الشرق الأوسط»، فإن مشروع ترميم بيت أبي المسرح السوري أبي خليل القباني سلم لمستثمر في يوم 12 نوفمبر الماضي على أن ينهي تنفيذ المشروع خلال سنة، أي في نوفمبر 2015. وسيعمل المتعهد على تنفيذ مشروع سياحي ثقافي فيه يتضمن صالة للنشاطات المسرحية والعروض والاحتفالات الثقافية ومتحف خاص بأبي خليل القباني وكافتيريا.
أما أول مسرح خاص فعرفته دمشق في عام 1918 وسمي مسرح زهرة دمشق في ساحة المرجة العريقة وسط العاصمة السورية وتبعه بعد سنوات قليلة تأسيس مسرح النصر في سوق التبن ومسرح القوتلي في جادة السنجقدار لتشهد في ستينات القرن الماضي تأسيس مسارح عامة كبيرة، ومنها مسرح القباني حيث استقطب عروضا لفرق مسرحية أجنبية ومحلية ومنها فرقتا الفنانين الكوميديين الراحلين عبد اللطيف فتحي ومحمود جبر، كما استقطب عروض فرق المسرح القومي الذي انطلق أواسط ستينات القرن الماضي وكان من أهم مؤسسيه الفنانون أسعد فضة والراحلون خالد تاجا وعبد الرحمن آل رشي وطلحت حمدي، ليتبعه فيما بعد تأسيس مسرح الحمراء في الصالحية وهو أهم سوق تجارية تتوسط العاصمة السورية دمشق.



هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التفاعل والتبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً، ومسكوناً بهاجس الهويات ونزاعاتها.

ومع أن الكُرد شعبٌ يسكن مناطق متفرقة في عدة دول، فإنهم حافظوا على تراثهم الأدبي عبر القرون، وعلى لغتهم التي يتحدث بها أكثر من 30 مليون شخص. وتمتلك هذه اللغة تاريخاً أدبياً غنياً، وتُعد جسراً طبيعياً بين الثقافات في المنطقة.

لقد طُرحت مشاريع عدة لتقريب الثقافتين العربية والكردية؛ لكنها أُجهضت، فقد عملت السياسة كعنصر تخريب للتواصل الثقافي؛ بل أسهمت مشاريع التهميش من جانب والانغلاق من جانب آخر في توسيع الشقة حتى بين أبناء البلد الواحد.

إدراكاً لهذا الواقع المؤسف، أخذت دار «رامينا» التي يديرها الكاتب والروائي الكردي السوري، المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، على عاتقها إصدار أو ترجمة عدد من الكتب الكردية إلى اللغة العربية، أو ترجمة الكتب العربية إلى الكردية، في مسعى يهدف «لبناء الجسور بين شعوب المنطقة، وبناء قيم التسامح ونبذ الكراهية والتطرف والعنف، في سياق أدبي إنساني رحب»، كما تقول الدار في نشرة التعريف عن نفسها، على الموقع الإلكتروني. وتضيف أنها تركز «على ثقافات الأقليات والمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وذلك ضمن الفضاء الثقافي والحضاري والإنساني الأرحب».

الترجمة كجسر للتواصل

يقول صاحب الدار لـ«الشرق الأوسط»: إن هذا المشروع يستهدف إنشاء منطقة تواصل حقيقي: «نحن نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له، وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه. إن تجربة دار النشر (رامينا) هي محاولة لاستعادة ما فقدته الجغرافيا من قدرة على جمع البشر. لقد بدأتُ في تأسيس الدار حين شعرت بأن العلاقة بين العربية والكردية تحتاج إلى عناية تُنقذها من التباعد التاريخي، وبأن الأدب قادر على أداء هذا الدور إذا أُتيح للنصوص أن تنتقل بحرية بين الضفتين».

انطلقت «رامينا» إلى الترجمة بوصفها عملاً يتجاوز التقنية، ولم تبحث عن «نقل الكلمات»، إنما عن نقل التجارب والمخيلات والوجدان، كما يقول مؤسسها. وكانت القفزة الأهم حين عملت -بدعم من مبادرة «ترجم» وبالتعاون مع وكالة «كلمات»- على مشروع ترجمة كتب عدة من الإبداعات السعودية إلى الكردية، وهو حدث يتحقق للمرة الأولى في تاريخ الأدبين العربي والكردي.

لقد قدَّمت «رامينا» للقارئ الكردي نصوصاً عربية خليجية وسورية وعُمانية وبحرينية، مترجمة إلى لغته الأم. وكذلك قدَّمت للقارئ العربي نصوصاً كردية بأصوات متنوعة تمثِّل جغرافيات كردية متعددة، وأعادت فتح نافذة على الأدب السرياني ضمن سلسلة النشر السريانية التي خصصتها لإحياء هذا الإرث الموشَّى بالروحانية والشعر، وهو من أعمق طبقات تاريخ المنطقة، كما أطلقت شراكات ترجمة إلى الإنجليزية، لحاجة الأدب الكردي والعربي إلى هذا الأفق العالمي كي لا يبقى أسير لغته أو مكانه.

من الأعمال التي شكَّلت نقطة تحول في هذا المشروع: سلسلة الإبداعات السعودية المترجمة إلى الكردية؛ وهو مشروع غير مسبوق فتح باباً واسعاً لفهم جديد بين القارئ الكردي والمشهد السعودي، فقد نقلت «رامينا» للقارئ الكردي أعمالاً لأدباء ونقاد سعوديين، منهم: سعد البازعي، ويوسف المحيميد، وأميمة الخميس، وأمل الفاران، وطارق الجارد، وعزيز محمد، وغيرهم.

والثاني، مشروع الترجمات العُمانية والبحرينية، مثل رواية «بدون» ليونس الأخزمي و«الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي؛ و«دخان الورد» لأحمد الحجيري، وهي نصوص أدخلت القارئ الكردي إلى سرديات لم يكن يصل إليها.

والثالث، مشروع الترجمة من الكردية إلى العربية، الذي قدَّم للعربي أصواتاً كردية ذات حساسية عالية، تنقل الهويات المتعددة والمعاناة المتراكمة في كردستان سوريا والعراق وتركيا وإيران؛ حيث تُرجمت إلى العربية عشرات الأعمال الكردية لكُتَّاب كُرد، مثل: عبد القادر سعيد، وسيد أحمد حملاو، وصلاح جلال، وعمر سيد، وكوران صباح... وغيرهم.

وأما الرابع فهو مشروع النشر السرياني، الذي يعيد الاعتبار لطبقة ثقافية مهمَّشة، ولغة أصيلة من تراث منطقتنا، ويمنحها موضعها الطبيعي داخل المشهد الأدبي.

والخامس، إطلاق الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.

يقول هيثم حسين إنه «بهذه الحركة المتبادلة، صار مشروع الترجمة في (رامينا) مشروعاً لإعادة النسج بين لغتين، وتأسيس حوار ثقافي طال غيابه».

«نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه»

هيثم حسين

التراث الأدبي المشترك

وردّاً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما يمكن أن يضيفه هذا المشروع إلى التراث الأدبي المشترك، يقول هيثم حسين إن مشروع التواصل الأدبي الذي تقوم به «رامينا»، يضيف ما يشبه «الخيط المفقود»، فالتراث العربي والكردي والسرياني ظلَّ متجاوراً دون أن يتشابك بما يكفي.

ويضيف: «الآن، حين يقرأ كردي نصاً سعودياً بلُغته، أو يقرأ عربي رواية كردية، أو قارئ إنجليزي عملاً مترجماً من هذه البيئات، تظهر طبقة جديدة من التراث؛ طبقة عابرة للغات والانتماءات، ترى الإنسان قبل كل شيء. نحن لا ندَّعي أننا بصدد صنع أو تصدير تراث بديل، إنما نحاول أن نعيد توزيع الضوء على تراث موجود، ولكنه كان منسياً في الظلال والهوامش».

أما الثيمات التي تتكرر في إصدارات «رامينا»، فهي تكاد تتقاطع حول هوية تبحث عن مكانها في عالم مضطرب: الذاكرة، بصفتها محاولة لمقاومة النسيان. الكتابات السيرية الذاتية والغيرية. المنفى، باعتباره إعادة تكوين للذات. اللغة، بما تحمله من فجيعة وحماية في آن واحد. الهوامش التي تتحول إلى مركز حين يُكتب عنها بصدق. الأمكنة المحروقة والقرى المطموسة والطفولة المهددة بالمحو. وهذه الثيمات امتداد لتجارب الكُتاب أنفسهم: كرداً، وعرباً، وسرياناً، ومهاجرين.

وعن الحركة الأدبية الكردية في سوريا، يقول هيثم حسين: «إن القوة الأدبية الكردية في سوريا نابعة من صدق التجربة وعمق الجرح. هناك كُتَّاب يمتلكون لغة عربية متماسكة، وأخرى كردية راسخة، ما يجعل أصواتهم قادرة على الوصول إلى جمهورَين. من خلال الترجمة والتوزيع في كردستان العراق، ومن خلال النشر في لندن، أصبح لهذه الأصوات مسار يصل بها إلى مَن لم يكن يسمعها. أرى أن هذا الامتداد عابر للحدود، وأن الكتابة الكردية السورية مرشَّحة لأن تكون أحد أهم أصوات الأدب القادم من المنطقة».

ورداً على سؤال بشأن كيفية تقديم التراث الكردي والهوية الكردية للآخرين، قال مؤسس «رامينا»: «إن الدار قدَّمت التراث عبر نصوصه؛ لا عبر خطاب خارجي عنه. فحين يقرأ قارئ عربي أو إنجليزي أو كردي نصاً مترجماً أو أصلياً، يكتشف مفردات الهوية الكردية كما تعيش في الحياة اليومية: في الأغاني، في اللغة، في القرى، في القصص العائلية، وفي تفاصيل الفقد والحنين. بهذا يصبح التراث الكردي جزءاً من المشهد الثقافي العام، لا معزولاً ولا مؤطَّراً. كما أن النصوص الأدبية تثبت العناصر المشتركة بين الثقافات؛ حيث تكشف النصوص أن الألم واحد، والحنين واحد، وأسئلة الإنسان واحدة. وتُظهر أن الاختلافات اللغوية لا تزيل جوهر التجربة الإنسانية؛ بل توسِّعها. حين يتجاور الأدب الكردي والعربي والسرياني والإنجليزي في سلسلة نشر واحدة، تتكوَّن منطقة مشتركة؛ بلا حدود، يتقاطع فيها الإنسان مع الإنسان. وهذا هو جوهر المشروع الذي أردتُ لـ(رامينا) أن تكون منصته».


«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة
TT

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية تتراوح بين المدينة والقرية على خلفية عوامل من القهر والإحباط التي تجعل من حواء لقمة سائغة في فم وحش الوحدة والعزلة والشجن والحنين.

تعتمد المجموعة تقنيات سردية تستكشف كذلك قضايا الوجود والهوية والاختيارات الصعبة والأحزان العميقة عبر أعمال تمزج بين أشكال مختلفة من السرد مثل السيناريو والمونتاج والفلاش باك والمشهدية البصرية بهدف تسجيل لحظات نسائية خاصة، عبر تجربة أدبية تجمع بين العمق الإنساني والتجريب الفني.

تتنوع النماذج التي تدعو للتأمل في المجموعة القصصية من الخالة التي تجلس وقت الغروب تمضغ التبغ وهى تزعم أن الموتى يبعثون برسائل عبرها كوسيطة، إلى المصابات بالاكتئاب السريري، وليس انتهاء بالأديبة الشابة التي تواجه أديباً شهيراً اعتاد السخرية من الكتابات النسوية.

تميزت عناوين المجموعة بوقع صادم يعبر عن فداحة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات الشرقية، بحسب وجهة نظر المؤلفة، مثل «السقوط في نفق مظلم»، «نزع رحم»، «يوميات امرأة تشرب خل التفاح»، «الناس في بلاد الأفيون»، «البكاء على حافة اليقظة».

ولم يكن قيام هناء متولي بإهداء العمل إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ماتت منتحرة عام 1963 عن 30 عاماً، فعلاً عشوائياً، حيث سبق انتحار الأديبة الشهيرة سنوات طويلة من الاضطرابات النفسية والاكتئاب السريري وهو ما يبدو ملمحاً أساسياً من ملامح المجموعة.

وجاء في الإهداء:

«إلى سيلفيا بلاث... التي عرفتْ جيداً كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، أستمعُ إلى صدى كلماتك بين همسات الوحدة وأصوات الكتابة، كأنك تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء».

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«شروق خجل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المطل على الترعة وحيداً ورغم أنه قد شُّيد من طوب لبن ومعرش بسقيفة من القش فإنه يشع دفئاً في وجه الزمن. تنادي بصوت مترقب: يا خالة، فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعينين يقظتين لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: لا رسائل لك.

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضتين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة ليزيد جفاف قلبها. تعود سناء إلى بيتها... تتكور في فراشها... تحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم، لئلا توقظه برودتها فينكشف سرها.

في ليلة حناء شقيقتها، ارتدت سناء فستاناً بنفسجياً من القطيفة وحجاباً زهرياً خفيفاً، كانت تعجن الحناء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف يتلبس روحها ويقبض على قلبها بقسوة. تهرب وتحبس نفسها في مخزن الغلال لتغرق في بكاء لاينتهي. يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس وبمجرد ابتلاعها تتقيأ».


«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد
TT

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

جاء الديوان في 176 صفحة، مقسّمة إلى ثمانية فصول: «ما قبلَ»، ثم: «الصَّوت»، «الصُّورة»، «الرَّائحة»، «اللَّمس»، «الطَّعْم»، و«الألم»، «ما بعدَ».

جاء في كلمة الناشر أن «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة» يبدأ من لحظة التّأسيس الأسطوريّة الأولى؛ «المُصادفة» التي جعلتْ «الغابة» تلتهم «جَبلاً». كأنّه بالأحرى «سِفر تكوين» مكثَّف لـ«العلائق» بين الذَّكر والأنثى، التي تتجاوز الثنائيّات التقليديّة للقوّة والضعف، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

بهذا المعنى، فإن «المُعْجَم» الذي يبنيه عماد فؤاد هنا مشدودٌ بين قُطبي الكمال والنُّقصان، المرأة والرّجل، الإيروتيكيّة والصوفيّة، ما قبلَ.. وما بعدَ. لكنّه ليس بسيطاً كما يبدو من الوهلة الأولى، إنّه كون شاسع ومركّب. عالم معقّد تتعدّد أبعاده وتتراكم طبقاته الفلسفيّة والدّينية صفحة بعد صفحة، وقصيدة بعد أخرى... لذلك: تأبى لغة عماد فؤاد الاكتفاء بأداء مهمّتها الرئيسية، فتكون مجرَّد لغة هدفها «الإيصال» فحسب. لا... اللّغة هنا مثل شاعِرها؛ طامعة في أكثر من الممكن، في أكثر حتّى ممّا يستطيع الشِّعر أن يستخرجه من اللّغة نفسها، هذه ليست قصائد عن «الحواسِّ النَّاقصة» كما يدَّعي العنوان، بل قصائد كُتبتْ بـ«الحواسِّ النَّاقصة»، ستجد حروفاً لا تُرى.. بل تُلمَسْ. وكلماتٍ لا تُقال.. بل تُشَمّ. وجُمَلاً لا تُنْطَق.. بل «تُسْتطْعم». وقصائد لا تُقرأ.. بل تخترق اللحم كأسنّة الخناجر.

يعتبر عماد فؤاد أحد شعراء جيل التسعينات المصري، ومن أعماله الشِّعرية: «تقاعد زير نساء عجوز»، و«بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم»، و«حرير»، و«عشر طُرق للتّنكيل بجثَّة» و«أشباحٌ جرّحتها الإضاءة».

ومن كتبه الأخرى، «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: الإصدار الثاني لأنطولوجيا النّص الشِّعري المصري الجديد»، وكان الإصدار الأول تحت عنوان «رعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً»، و«على عينك يا تاجر، سوق الأدب العربي في الخارج... هوامش وملاحظات»، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية تحت عنوان «حفيف» (Bruissement) عام 2018.

من قصائد «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة»:

في البدْءِ كانت المُصادفةُ

كأنْ تُمْسِكَ طفلةٌ لاهيةٌ بالجبلِ في يدِهَا اليُمنى، وبالغابةِ في يدِهَا اليُسرى، وتمدَّ ذِراعيْها عن آخرهِمَا ناظرةً إلى أُمِّها في اعتدادٍ. فتنْهَرُها الأمُّ:

لماذا تُباعدين بينهُما؟

وتستغربُ الطِّفلةُ: «هذه صَحْراءُ.. وهذه غابةْ»!

المُصادفةُ وحْدها جعلتْ عينَ الأمِّ تنظرُ إلى الجَبَلِ، فتراهُ وحيداً، لا يُحِدُّهُ شَمالٌ أو جَنوبٌ، تُشرقُ الشَّمسُ فيعرفُ شرْقَهُ مِنْ غَرْبِهِ، لكن لا أحد علَّمَهُ ماذا يفعلُ كي لا يكونَ وحيداً.

علىٰ بُعْدِ نَظَرِه الكلِيْلِ، كان يرى نُقطةً خضراءَ فوقَها سُحُبٌ وأَبْخِرَةٌ وضَبابٌ، حينَ تُمْطرُ يعلوها قوسُ قُزَحٍ لامعٌ، لا تدْخلُ ألوانُهُ في عيْنيْهِ، إلَّا ويَرى دموعَهُ تَسيلُ على صُخُورِه، حتَّى أنَّها سمعتْهُ يتمتمُ مَرَّةً في نومِهِ:

«لو أنَّ جَبلاً.. ائْتَنَسَ بغابةْ»!

في البَدْءِ كانت المُصادفةُ

التي جعلتْ الطِّفلةَ تنظرُ بعيْنَيْها إلى الغابَةِ، فتجدُها مُكْتفيةً بذاتِها، مُدَوَّرةً ومَلْفُوفَةً وعندها ما يكفي مِن المَشاكِلِ والصِّراعاتِ الدَّاخليةِ، تنْهَبُها الحوافرُ والفُكُوكُ

قانونُها القوَّةُ وخَتْمُها الدَّمُ:

«فكيفَ يا ماما تَقْوى الغابةُ على حَمْلِ ظِلِّ جَبَلٍ مثل هذا؟».

لم تُجِبْ الأمُّ

وحدَها الغابةُ كانت تُفكِّرُ:

«نعم؛ ماذا لو أنَّ غابةً..

التهمتْ جَبَلاً؟».