الفنتازيا في الكتابة... والطبخ

كاتب لا يجيد المزاح عليه ألا يقترب من بابها الخطِر

نجيب محفوظ... واقعية الحرفي
نجيب محفوظ... واقعية الحرفي
TT

الفنتازيا في الكتابة... والطبخ

نجيب محفوظ... واقعية الحرفي
نجيب محفوظ... واقعية الحرفي

«فنتاستيك!» هتف صوت نسائي مبتهج. كان الصوت عالياً، جعلني أنظر دون إرادة مني إلى الطاولة عن يساري، حيث تتذوق سيدة ملعقة من حساء باستمتاع. كانت واحدة من أربعة. تبعها الآخرون في تذوق أطباقهم دون أن يهتفوا.
بعد لحظات مرَّ نادل يحمل على لوح من الخشب المزيد من أطباق الشُوربة ذاتها يوزعها بالترتيب على الموائد. خفت أن أكون دخلت بالخطأ مقصفاً تابعاً لدير يوزع هذا الطبق الوحيد إحساناً. عندما جاءني نادل ليأخذ طلباتي سألته عن الطبق الموحد على كل الموائد، قال: شُوربة بيض. الليلة باردة، وافتعل مبتسماً رعشة من دهمه الصقيع.
لم أسمع صيحة «فانتاستيك» إعجاباً بشوربة البيض مرة أخرى، لكنني سمعت صيحة الإعجاب الثانية من المرأة نفسها عندما استقبلت الطبق الثاني «واو»! فلم أعد أغفل عن طاولتها بانتباه حرصت على ألا يبدو تلصصاً فجاً.
هي الأكثر حيوية بين رفاقها، أكثرهم إعراباً عن نفسها، تطمئن على راحتهم كأنهم ضيوفها في البيت. هي إذن امرأة سعيدة، ولذلك فهي قادرة على الاندهاش بطبق بسيط كانت أمي تعتبره الحيلة السريعة لتقديم طعام في خمس دقائق مما بين يديها.
تتباين الطريقة التي يستقبل بها الناس طبقاً لأسباب منها معارفهم السابقة، ذكرياتهم، حالتهم النفسية في تلك اللحظة، استعدادهم للاستمتاع، وهي الأسباب نفسها التي تجعل كتاباً «فنتاستيك» برأي قارئ، جيداً أو مقبولاً من وجهة نظر آخر، وقليل الأهمية وربما تافهاً بالنسبة لقارئ ثالث.
ومن أجل هذا المتذوق الثالث (النكِد) يذهب الطهاة والروائيون إلى التصعيد الخيالي الذي تتيحه الفنتازيا. التعريف الذي لم يعد محل خلاف لـ«الفنتازي»، إنه كل ما نعجز عن إدراكه قياساً على خبراتنا الواقعية. وهو بهذه الطريقة مظلة واسعة تضم تحتها الأسطوري والعجائبي والمدهش.
الشخصيتان الأبرز في «الحرافيش»، هما عاشور الناجي، بالطبع عمود الرواية، وجلال ذو الجلالة. نرى عاشور طفلاً يعثر عليه الشيخ عفرة زيدان بينما كان في طريقه لصلاة الفجر، لا نجد الأطفال في القمامة بكثرة، وهذه بداية مدهشة وغريبة قليلاً، وظل مدهشاً بعدله خلال حياته، لكن تفشي الظلم في الحارة من بعده رفعه إلى الأسطوري، حيث ولدت أمنية جماعية في عودته ليقيم العدل مجدداً.
جلال كان ميلاده عادياً لا دهشة فيه، لكنه سعى إلى العجائبية بنفسه. عرض عليه مساعدوه ما يعرضونه على الفتوة عادة: المخدرات والنساء، فقال إنه لا يرغب في أي منهما، بل في الخلود؛ فجاء العطَّار الذي وصف له الوسيلة: الاختفاء عاماً في ظلام غرفة مغلقة، وذات لحظة غير محددة خلال تلك المدة سيأتيه الشيطان ليتحد به، ويمنحه القوة المطلقة، ولن يخرج من عزلته إلا خالداً.
الفنتازيا في الكتابة خيار قاتل، تشبه باباً مغلقاً يخفي خلفه كارثة. وتكمن خطورة الفنتازي في الحساسية العالية التي يتطلبها. هو مبدئياً يتضمن الفكاهة بداخله، ومن جهة أخرى تمده الفكاهة بقبلة الإنقاذ.
كاتب لا يجيد المزاح عليه ألا يقترب من باب الفنتازيا الخطِر. تحتاج الفنتازيا كذلك إلى لياقة اللص وخفة يده. لا بد من الرشاقة والخفة عند بدء اللعبة، ورشاقة الإيهام بالحالة الفانتازية طوال الوقت الذي تعيشه في المسار السردي، ثم براعة الخروج منها دون جلبة توقظ النائمين.
من حيث المبتدأ، لا يضع القارئ قدمه على جسر الحبال المتذبذب ليعبر إلى داخل سفينة الفنتازي إلا إذا اطمأن إلى قوة الهلب الذي يشدها إلى أرض الواقع. الهلب سبيكة من التشابهات مع الواقع والتشابه مع رغبات وأحلام القارئ (مَنْ مِن الأطفال لم يحلم بطاقية الإخفاء ليرتديها ويحقق العدل بنفسه فيقتل مستبداً أو محتلاً؟).
كان لدى مبدعي «ألف ليلة» الحساسية التي تحدد القدر المناسب من الفنتازي الذي يدخلون به إلى السرد والمدى المناسب لحياة الفنتازي في القصة، ثم الخروج الآمن. سفينة تجري باطمئنان فوق الماء تقصد مكاناً ما، فجأة تهتز بهجوم جني أو حجر يسقط من بين مخالب رُخ يحطمها، أو تدخل بحيرة بين جبلين من المغناطيس فتنجذب مساميرها لليابسة، وتتفكك السفينة من تلقاء نفسها، لكننا بحاجة إلى نجاة بطل القصة. هنا تتمخض الأحداث عن خيط واقعي يتمثل في لوح أخير من خشب القارب يتعلق به البطل، ويجد القارئ نفسه مجدداً على يابسة صلبة تعيد إليه الأمان.
القراءة من الأعمال القليلة الحرة في الحياة، والقارئ الذي اختار أن يُكمل رواية، لا يمنح تعاطفه لشخصيات الرواية من موقع المتفرج، لكنه يتورط داخل الحكاية، ومن الضروري أن يترك له الكاتب ممراً آمناً للعودة إلى الواقع.
ودون لمسة من الواقعية تبقى ألعاب الفانتازيا قابعة في الماضي، مهما كان الكاتب متقناً في صناعة العجائبي أو الأسطوري. ولن تحظى كتابته من القراء إلا بالإهمال الهازئ، مثل من يكتب قصيدة اليوم، بصور ولغة وموسيقى امرؤ القيس على ما لامرئ القيس من عظمة.
الكاتب حر في الذهاب لخيار الفنتازيا الخطر إرضاءً لولعه الخاص والتماساً لصحبة حسنة مع القارئ الحبيب، لكن عليه أن ينتبه للقارئ العنيد. الطاهية/ الطاهي الذي يطبخ لصحبة حميمة في أمان أكثر من الكاتب؛ فالأحبة لديهم استعداد للهتاف «فنتاستيك»، بمجرد أن يحسوا بلمسة بسيطة، كأن يداعبهم عطر الزنجبيل بحرارته الخفيفة التي تنعش بلادة البصل المطبوخ في شُربة البيض.
الطاهي الذي يجب ألا نحسده هو الطاهي في المطاعم الراقية التي يتهافت عليها الرواد ويحجزون لعشاء فيها قبل أسابيع وشهور. لو لم توجد هذه المطاعم لمات الأثرياء كمداً. كيف يشعرون بقيمة ملايينهم إذا لم يجدوا مطعماً يدفعون فيه ألفاً أو ألفي دولار، وكيف سيشعر الزبون بتميز هذا المطعم عن مطاعم العامة إذا لم يخف له ماسة صغيرة بين مزيج البيض والبصل؟
الفنتازيا إجبارية في تلك المطاعم، وليست خياراً من الخيارات. أتذكر الآن أحد خيالات طفولتي عن طعام الملك فاروق، وقد صورته لنا دعاية الضباط الذين أزاحوه عن العرش باعتباره شرهاً للطعام. هكذا سرت بين الأطفال أسطورة أنه لشراهته كانوا يعصرون له الخروف ويكثفونه في كوب.
بعد نحو ثلاثين عاماً على سماعي هذه الأسطورة نُشرت مذكرات سكرتيره الصحافي كريم ثابت، ورأينا فيها صورة لملك شديد التواضع وبائس في مسلكه الغذائي، حيث يروي ثابت أن فاروق كان يمر عليه بسيارته في بيته بحي الزمالك ليذهبا معاً إلى سهرة، وأنه كان أحياناً ما يصعد وينتظره ريثما يحلق ذقنه ويرتدي ملابسه، وفي وقت الانتظار يفتح الملك الثلاجة ويأكل مما يجده فيها مباشرة.
ليس من المنطقي أن يعصر الطباخ خرافاً للرواد الأغنياء يشربونها في أكواب، لكن لا بد من فنتازيا ترفعهم فوق مستوى مرتادي المطاعم الواقعية.
هناك سلطة قلب النخلة، التي لا يمكن تقديمها في المطاعم العادية؛ فلن تكفي غابات النخيل في العالم لتحقيق هذه النزوة لكل مرتادي المطاعم. وتبقى التضحية بحياة شجرة تمر لاستخراج جُمَّار قلبها، طقس فداء مقدس لنزوة زبون مدلل في مطعم أميركي. وقد يوغل النادل في العجائبية فيهمس في أذن الزبون بأن ما يتناوله الآن جاء من آخر شجرة نخيل في الأندلس تنتمي لسلالة الفسيلة التي حملها معه عبد الرحمن الداخل وزرعها هناك حتى لا يشعر بالغربة!
لا تفرغ جعبة تلك المطاعم من الأساطير. قطرات العسل على سطح قطعة حلوى استنقذتها فرقة مغامرين تصل إلى أعالي جبال أفغانستان، وتنقب عن بيوت النحل في الممرات الضيقة الفاصلة بين معسكرات المتحاربين.
حتى شوربة البيض البائسة التي استقبلتها السيدة ذات المزاج الطيب بصيحتها «فنتاستيك» يمكن أن تجد مكانها على موائد المطاعم الفنتازية، بإضافة بضعة رقائق من كمأة سوداء نادرة تسبح على المزيج. وهي ليست أي حبة فطر؛ فالمطعم يحتكر الحبة الوحيدة التي تتطفل كل ربيع على جذر شجرة كانت سيدة نيبالية تستظل بها بينما تُرضع طفلها الذي صار بوذا فيما بعد.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!