في مساء اليوم الأخير من شهر فبراير (شباط) عام 1986، كان رئيس وزراء السويد آنذاك أولوف بالمه، يغادر برفقة زوجته ليزبيت، دار «السينما الكبرى» وسط العاصمة استوكهولم نحو محطة «المترو» المجاورة، للعودة إلى المنزل، عندما اقترب منه شخص فاره القامة، يرتدي قبعة ومعطفاً طويلاً، وأطلق عليه ست طلقات نارية، أردته على الفور، وأصابت زوجته بجروح طفيفة، قبل أن يختفي عن الأنظار.
لم يكن أولوف بالمه رجلاً عادياً أو سياسياً مغموراً، كغيره من رؤساء الحكومات في السويد والبلدان الاسكندنافية؛ بل كان من أبرز وجوه الاشتراكية الدولية، وكانت مواقفه مدوّية ضد التدخّل الأميركي في فيتنام، ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وسياسة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وديكتاتورية الجنرال فرنكو في إسبانيا. وكان صوتاً مسموعاً وموقفاً وازناً في المحافل الدولية.
وقد أثار اغتياله صدمة قوية على الصعيدين الداخلي والخارجي، كما كثرت التساؤلات والنظريات حول الجهة التي تقف وراء تلك العملية التي بقيت طوال 34 عاماً أسيرة لغز يتعاظم، إلى أن أعلن القضاء السويدي أمس إقفال الملف، على خلاصة مفادها أن «رجل سكانديا» الذي توفِّي منذ عشرين عاماً هو «المشتبه الوحيد» في قضية مقتل بالمه؛ لكن من غير الإشارة إلى الدوافع أو الجهة المدبّرة لقتله.
نسي السويديون أمس شواغل أزمة «كوفيد- 19» وتسمَّروا أمام شاشات التلفزيون لمتابعة وقائع المؤتمر الصحافي الذي عقده المدَّعي العام كريستير بيترسون، لكشف هوية الشخص الذي «يكاد القضاء السويدي يجزم بأنه الفاعل» في قضية اغتيال بالمه الذي كان يومها في الثانية والخمسين من عمره.
وقال بيترسون إن الأجهزة الأمنية والقضائية ذهبت في التحقيقات إلى أبعد الحدود الممكنة، وإن الشخص الوحيد المشتبه به هو ستيغ أنغستروم، المعروف بلقب «رجل سكانديا»، نسبة إلى الشركة التي كان يعمل فيها، والذي توفي في عام 2000.
منذ سنوات والسويديون يطالبون بكشف ملابسات تلك الجريمة التي قارنها كثيرون باغتيال الرئيس الأميركي الأسبق جون كنيدي عام 1963، ولا تزال حتى اليوم مغلَّفة بالأسرار والألغاز.
أنظمة وحكومات عديدة لم تكن مرتاحة إلى مواقف بالمه الجريئة والصريحة من القضايا الرئيسية التي كانت تشغل العالم يومذاك، حتى أن عدداً من زملائه في الاشتراكية الدولية كانوا غالباً ما يشعرون بالحرج أمام مواقفه التي وصفها يوماً المستشار الألماني الأسبق ويلي براندت بأنها «مفرطة في المثالية».
وجاء في ملف التحقيقات التي استمرت متعثرة طوال أكثر من ثلاثة عقود، أن أنغستروم كان قد أعرب عن استيائه الشديد من سياسة بالمه قبل أيام من الاغتيال الذي يعتبره المحققون المسؤول الوحيد عنه، بعد أن ضبطوا بحوزته مسدساً من طراز «ماغنوم 357»، مطابقاً للمسدس الذي أطلق منه الرصاص على بالمه؛ لكن من غير أدلة ثبوتية تؤكد أنه الذي استُخدم في العملية.
وقد شكَّل اغتيال بالمه يومها صدمة عميقة في السويد التي تولَّى رئاسة حكومتها مرَّتين، الأولى من 1969 إلى 1976، والثانية من 1982 إلى 1986، وفارق الحياة فجر اليوم الأول من مارس (آذار) ذلك العام.
كما يستفاد من التحقيقات التي لم تكشف شيئاً عن دوافع الاغتيال أو الجهة التي يعتقد أنها كانت تقف وراءه، أن أنغستروم المولود في الهند من أبوين سويديين عام 1934 غادر مبنى الشركة التي كان يعمل فيها قرب دار السينما؛ حيث كان بالمه يشاهد وزوجته فيلم «الإخوة موزار» قبل نهاية العرض بدقائق، ثم تعقَّبه بعد الخروج، وأطلق عليه الرصاص من الخلف، قبل أن يتوارى عن الأنظار.
ورغم كثرة المعلومات التي تناقلتها وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، بأن الشرطة قد عثرت على السلاح الذي نُفذت به الجريمة، أكَّد النائب العام السويدي أمس أنه لم يُعثر على المسدس الذي أطلقت منه العيارات النارية على بالمه، وليس من معلومات تبيِّن الجهة التي خططت لعملية الاغتيال؛ لكنه أضاف أن أنغستروم كان عضواً في نادٍ للرماية، وأن المحققين على يقين بأن «أحداً من جيرانه» في استوكهولم هو الذي أمدَّه بالمسدس الذي «يُعتقد أنه كان بحوزته تلك الليلة».
وقال المدَّعي العام، إنه بعد سنوات من التحقيقات الدقيقة تبيَّن أن المعلومات التي أدلى بها أنغستروم قبل وفاته تتعارض مع المعلومات التي أدلت بها زوجته، وعدد آخر من شهود العيان.
وبعد الترقُّب الشديد الذي كان قد سبق ظهور النائب العام لكشف ملابسات أشهر جريمة في تاريخ هذا البلد الهادئ، أصيب السويديون بالخيبة والإحباط لعدم وجود أدلَّة دامغة أو قرائن ثبوتية أو اعترافات مؤكدة، ولا حتى شهادات جديدة. وكما قال أحد المعلِّقين السياسيين المعروفين: «في هذه الحال ليس من الأكيد أن أنغستروم هو القاتل، وتبقى الأسئلة ذاتها مطروحة حول هذه الجريمة ودوافعها».
وطوال سنوات كانت النظرية الأكثر رواجاً حول اغتيال بالمه هي وقوف مخابرات نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وراءها؛ لكن النيابة العامة السويدية أكدت أن المعلومات التي حصل عليها المحققون من مصادر شتَّى، بما فيها جهاز المخابرات في جنوب أفريقيا، ليست كافية لإدانة نظام بريتوريا بالوقوف وراء العملية.
ومن الجهات الأخرى التي قيل إنها دبَّرت تلك العملية، المخابرات السوفياتية، والمخابرات الأميركية واليوغوسلافية، وحتى حزب العمال الكردي.
ويقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة «غوتمبورغ» أولف بجيريلد: «سوف تستمر التخمينات حول لغز اغتيال الرجل الذي جعل من السويد (قوة أخلاقية عظمى) وبلداً منزَّها عن العنف السياسي؛ حيث كان رئيس الوزراء يعتقد أن بإمكانه ركوب المترو للذهاب إلى السينما في المساء من غير حراسة».
السويد تكشف هوية قاتل أولوف بالمه... لكن دوافعه تبقى لغزاً
رئيس الوزراء السابق اغتيل عام 1986
السويد تكشف هوية قاتل أولوف بالمه... لكن دوافعه تبقى لغزاً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة