تستند الشاعرة عائشة بلحاج، في ديوانها «قبلة الماء» الصادر حديثاً عن دار «روافد» بالقاهرة، على حجر الذات، فمنه يبدأ عالمها وإليه يؤوب، في ترحال شعري شيق، يحفه فراغ الفقد، وتطوحات الأزمنة والأمكنة، والحنين إلى البئر الأولى حيث ملامسة الأشياء في دفقها البكر. وتبدو مراوحة العمى والبصيرة، كأنها التمثيل الأقوى، والشقي للذات في مواجهة العالم، فصداه يتردد بخفة في ثنايا النصوص، من خلال علاقة مشابهة لا تذعن كثيراً للمقابلات الضدية، وإنما للمشترك المستتر فيما بينها، فهناك عمى يشبه البصيرة، وبصيرة تشبه العمى؛ بينما يمارس الحجر غوايته وانزياحاته مشكلاً علاقة حميمة مع الظل؛ ظل النص في الوجود، وظل الوجود في النص، في حركة صاعدة تتنوع دلالتها ورمزيتها صعوداً وهبوطاً.
بديهياً، لا يشبه حجر الذات حجر الفلاسفة، فالأول مقوم شعري مجازي لإكساب الذات القدرة على العيش والانغماس في الحياة، والثاني مقوم مادي مسكون بروح الأسطورة، يستهدف تقييم الفلاسفة وتشبيههم بالمعادن، وتحولها في عملية الانصهار من الرخيص إلى النفيس. لكن، رغم هذا الفارق بين الحجرين، ثمة خيط شفيف يجمع بينهما، يتجسد في أن كليهما بمثابة قناع لحَجره الذي يتكئ عليه. الذات الفلسفية تسعى من ورائه إلى الوثوق والرسوخ وتثبيت الحجج والبراهين العقلية في تفسير ظواهر الوجود. بينما تتخذه الذات الشعرية نواة لولادة جديدة، وتتخفى تحته لدرء أذى العالم ومفارقاته الموحشة، كما تحوله أحياناً إلى لعبة، لكسر علاقة الوجود بالتضايف التي يفرضها منطق الأشياء والعناصر، ويضمرها عنوان الديوان، بين القبلة والماء، ويعمل على زحزحتها من سياقها النمطي المعتاد (شرب الماء) وابتكار علاقة فنية تتجاوز كل هذا، وفي الوقت نفسه، تسعى للخروج بالذات من حيز التضايف الضيق، إلى براح المغامرة، حيث الماء رمز للحياة والنماء، وهو أيضاً رمز للغرق وانخطاف الحياة، لكن قبلته ابنة الصيرورة، قادرة على أن تجدد نفسها في انخطافات أخرى يؤسسها حجر صغير، كعتبة لوجود مغاير، وولادة جديدة، يستقي منها النص حيويته، ناهيك بأن الماء يبرز كدال مركزي في الديوان، يملأ فراغ الشقوق والفجوات، في الجسد والروح والعناصر والأشياء، مثلما تقول الشاعرة في نص «رائحة موتي، أعرفها»:
«أُشرع جسدي للماء
جثة تحتضر
وأطفو.
رائحة موتي، أعرفها
على تمثال أبيض يظلله أخضرُ نهريٌّ
يتفرج بحارةٌ عابرون
من الماء إلى الماء أطفو
من المحيط إلى أبعد يابسة
بحارة بلغوا عن امرأة تغرق
حين اقتربوا... ضحكوا
رددوا في أجهزة الرادار: it,s Joke،
ثمة غبي أسقط دميته».
تؤطر دلالة الماء كمفتاح للحياة لدلالة أعمق ينصب فيها جوهر الرؤية في الديوان، فثمة حلم دائم بميلاد مغاير يومض في أفق النصوص كزمن هارب، مهمش ومنسي، مشكلاً جوهر المعنى وما وراءه، ويبرز وعي الذات بذلك منذ لطشة الإهداء، حيث تهدي الشاعرة الديوان لطفل لم تنجبه، وإلى أمها أيضاً: «إلى روح طفلي الذي لم أُنجب، أيمن، وإلى أمي عالية». يتقدم الطفل مقام الأم، وفي الصفحة التالية تردف الإهداء بمقولة للكاتبة الروائية الأميركية الراحلة سوزان سونتاج: «كل شيء، يبدأ من الآن - أنا أولد ثانية».
يوحي تفكيك الإهداء وما يرشح به من علائق مستترة في اللاوعي، بأن الذات الشاعرة تريد أن تقول لقارئها: هذا هو الديوان، ولادتي الجديدة الثانية، بعد ولادتي الأولى من رحم أمي، إنه طفلي المتخيل الذي لم أنجبه بعد في العالم الواقعي، هنا أستطيع أن أحبو عليه، أعلمه اللعب مع الحياة، فوق هذا الحجر الصغير، لينمو ويكبر في ظلاله الوراقة... يبرز هذا على نحول لافت في قصيدة «قبلة الماء» التي وسمت عنوان الديوان، ومثلما تقول:
«ولدت لأرطِّب
جفاف ريقي
بقبلة الماء.
من الذي يتنفس
التراب باسمي:
بخفة سمكة
اكتشفتْ أصلها المائيِّ
أنزلُ خطوة خلف أخرى
أطفو على الكؤوس
ولا تفيض بي».
يستعير النص روح السوناتا الموسيقية في دفقات شعرية حانية، مشرّبة بنبرة من الشجن الداخلي، تنداح في نغمات تبدو مبعثرة على السطح، لكنها منذغمة في التكوين الداخلي لبنيته الصورية والنفسية، تشد ثقلها وخفتها، فيما تشتبك الذات بحجرها الصغير مع أحجار أخرى جارحة وقاسية. وتلجأ الشاعرة لتنمية كل هذا إيقاعياً، بتقطيع امتداد الجملة المتصلة، فتكتب على سبيل المثل «ولدتُ لأرطب» ثم في السطر التالي، تكتمل الجملة بلام التعليل في «جفاف ريقي».
إن الأمر لا يتعلق بصرياً هنا بشكل الطباعة والفراغ في الصفحة، وإنما بمحاولة قطع النص حتى لا يصبح مرثية للذات المثقلة بالعطش وشح الآخر، وإيثاره لنفسه، وعدم مبالاته بالصمت المكبوت المتخفي وراء الكلام.
يحتفي الديوان في عدد من النصوص بما يمكن تسميته «مرايا الوجوه» يدفع بها فوق حجر الذات، وعبر سياقات خاصة مشحونة بعوالم الطفولة والذكريات، من أبرزها صورة الأب والأم، ففي نص بعنوان «أحاول إيقاد نار أخرى في أحجاري» تستحضر صورة الأب، في حوارية يمتزج فيها تأمل حقائق البشر والحياة الصعبة، بلحظات من الانكشاف الخاصة مجدولة بنفس صوفي حار، تطل رائحته من نوافذ العمى والبصيرة، كأنها محاولة لملء فراغ بارد، خمدت ناره، ولم يعد ملاذاً للروح والجسد.. تقول في هذه الحوارية:
«كل شيء يغادر في آخر الممر.
ولا يبقى سوى الندم، ولا يعانق الفراغ سوى خوائه
لكن ليس للفراغ ذراعان تعانقان. ليس له فم يقبل ولا قلب ينبض
إنه ما لم يكن في الحسبان، جاء ليملأ المساحات التي ظننا أنها لن تبقى
قال: ليس ذنبه أن الأمكنة فقدت صفاءها
وتلك قصة قديمة، لا وقت لحكيها
ادخلي بسرعة قبل أن يروكِ
لكنهم عميان، قلت».
ومن مرايا الوجوه، وجه الشاعرة نفسها، حيث تحاور أحرفه، كأنها تجسيد لملامح أخرى وراء الوجه نفسه، كما تستحضر ملامح شعراء معينين على سبيل التناص، لكنه تزييني عابر لا يثري النص بعلاقات جديدة: بسام حجار، وديع سعادة، سليم بركات، عبد الله زريقة، وغيرهم، وتنتصر للمرأة وتدافع عن هويتها كأنثى، بعيداً عن صخب النسوية والعنصرية الذكورية وغياب العدالة الاجتماعية، وهو ما يتجسد على نحول لافت في نصي «أكتب على ساق واحدة» و«أحمر شفتيها قبلات لا تتكرر»، وهو آخر نصوص الديوان، موحدة ببن خصوصية المرأة والرائحة والحنين، والذهاب إلى العمل والسوق، حتى الجنون والوقوع في الحب، كما يطل الموت كمرثية للأمل في «تستفز الموت» وهو مهدى إلى «أيمن» الطفل الذي لم تنجبه، تتخيله في البيت يداعبها ويطوق عنقها، وتمطره بالقبلات، كمل يطل الموت مسكوناً بالسخرية والتهكم في «هيكل عظمي لوردة» و«جارتي المقبرة» و«اختاري وجهاً للموت»... تقول الشاعرة في معرض اللعب مع مرآة اسمها، عبر «عجلة الأيام»:
«ها اسمٌ، أعصره لأخرج بين العين والشين
ألفاً مائلة
همزةً رخوة بكسل السكارى المغمى عليهم
لا الجدران جدراناً
لا مفاتيح تجد طريقها إلى أبواب
أخرج...
كأني لم أركض قبل الألف/ بعدها
لم أتعلق بها
لم أتدحرج على أفقها
لم أرقص معها في ذبح
يمتد من الألف إلى التاء».
في الختام يبقى أن أقول إن هذا الديوان يعبق برذاذ رومانسية ناعمة، تبدو لطيفة وشيقة، لكنها تجعل صخبه وضجيجه المشبوب في كثير من النصوص لا يبرح السطح، ومن ثم لا يتحرك حجر الذات أبعد مما يعتمل في مرآته الخاصة، ومع ذلك يؤكد الديوان صوت شاعرة لها حضورها المتميز، آمل أن يشاكس السطح والعمق معاً في أعمالها المقبلة.