عبد الأمير جرص... رحيل مفجع وشعرية جارحة

صدرت أعماله الشعرية الكاملة بعد 17 عاماً من موته المبكر

عبد الأمير جرص... رحيل مفجع وشعرية جارحة
TT

عبد الأمير جرص... رحيل مفجع وشعرية جارحة

عبد الأمير جرص... رحيل مفجع وشعرية جارحة

هل يتنبأ الشعراء بموتهم؟ وهل تتساوى أعمار المبدعين فيرحلون بعمر واحد؟ ربما مصادفة؟ ربما قدر؟ ذلك ما كان عليه عبد الأمير جرص الشاعر العراقي ذو المزاج الحاد والمختلف، والذي حَسبَ عمرَه بعمرِ «السيَّاب» ووازنه ليرحل بعده بسنوات، ولكن بنفس عمر السياب، حيث الثامنة والثلاثون عاماً، وقد تنبأ «جرص» بموته قائلاً:
هكذا
يقسم وقته إلى قرون
ليموت في العقد الثالث
حيث العواطف عُرضة للتفتيش
والأحلام فراشاتٌ مغلَّفة
أعني مغفلة
يسهل اصطيادُها
وفعلا مات جرص وهو في نهايات العقد الثالث من عمره، في كندا، وتحديداً في «الثامنة والثلاثين»، ذلك أنّه من مواليد 1965 وتوفي في عام 2003 وبهذا يكون عمره بعمر السياب الذي توفي في الثامنة والثلاثين من عمره أيضاً.
ربما لا معنى لتقارب هذه السنوات، ولكنها تفتح شهية البحث عن أولئك الشعراء الذين عاشوا سنواتٍ قصيرة من حياتهم، ولكنهم استطاعوا أنْ يبقوا راسخين في الذاكرة، ولهم علامات دالّة في طريق الشعرية الطويل والمتعب، فمن طرفة بن العبد، إلى أبي تمام، إلى رامبو، إلى أبو القاسم الشابي، إلى السيَّاب، وما بينهم عشرات الشعراء الذين رحلوا مبكراً، إلا أنني ذكرتُ هذه الأسماء لرسوخها في التحولات الشعرية عربياً وعالمياً، وهنا نستطيع أنْ نقول إنَّ عبد الأمير جرص حاول اللحاق بهذا الركب الأبيض.
ما الذي ذكّرني بجرص وقد هاجر من العراق قبل أكثر من عشرين عاماً ليكون لاجئاً فيما بعد في كندا، ومن ثم يذهب ضحية حادثٍ تافهٍ، حيث تخونه دراجته الهوائية فيسقط منها على أرصفة كندا غريباً وحزيناً. إن ما ذكّرني بعبد الأمير جرص هو صدور الأعمال الشعرية الكاملة له، التي جمعها نجوان درويش وطبعتها دار «سطور».
لم أكن أتوقع أنَّ شعر عبد الأمير جرص سيترك في نفسي كل هذا الانفعال المحبب، ذلك أنَّ أعماله من أهم التجارب الشعرية العراقية، التي ذهبتْ مبكرة، نحو الموت، ولكنَّها ستبقى إحدى أهم التجارب المؤثرة والحية، ولا أريد أنْ أغالي وأقول: إنَّ تجربة عبد الأمير جرص في قصيدة النثر في العراق، تكاد تكون إحدى أهم التجارب العراقية ـ على جلالة قدرها وأهمية تجريبهاــ ولكن شعريته الممتلئة حرارة، والمشحونة عاطفة، والصاخبة في شوارع بغداد، والحادة كأحلام الفقراء، أكسبت شعريته هذا المزيج الهائل من الجموح والعفوية، ومن الخبرة في نفس الوقت، في أنْ يكون صانعاً ماهراً، حيث اللغة الرشيقة، والموضوعات المدهشة، والجرأة في الطرح الشعري، والأهم من ذلك هو تحوَّل الموضوعات السياسية إلى مادة شعرية طازجة، ذلك أن لغة جرص أسهمت بذوبان تلك الموضوعات، فهو أحد أكثر الشعراء المنتفضين على الوضع السياسي أيام نظام صدام حسين ولكن مهارته الشعرية لم تسمح له بأنْ يتحول إلى «هجَّاء» سياسيٍ، يشتم الأنظمة بوضوح فج، كما يفعل «أحمد مطر، أو مظفر النواب -في بعض نصوصه- السياسية الواضحة»، ولكن جرص اختلف أداؤه الشعري وسأحاول أنْ أبيّن وجه هذا الاختلاف.
أذكر قبل أكثر من 25 عاماً حيث كنَّا، ولم نبلغ بعدُ العشرين، وكان جرص يكبرنا بأكثر من 10 سنوات حيث اجتمعنا في مهرجان صغير أقامته رابطة «شعراء الكرخ» للشعراء الشباب أوائل عام 1995 وقرأنا مجموعة قصائد كان معظمها تقليدياً، بحيث يتطاير الغبار من حروفها، وحين وصل دور عبد الأمير جرص وكان آخر المشتركين، لم يقرأ أي نصٍ شعريٍّ، بل شتم الجميع، وشتم الشعر الذي قُرئ، فضحكنا في ذلك الوقت، للعصبية التي حملها، ولغيرته على الشعر، وواقعاً كان محقاً في معظم ما قاله، لأنَّ الشعر الذي قيل في ذلك الوقت، لا ينتمي إلى العصر، ولا إلى الشعر إلَّا ما ندر، بهذه الحساسية البالغة استطاع جرص أنْ يبني عالمه الشعري، ذلك العالم الذي تمكن من كتابة كل أشكاله الشعرية، فهو حين يغوص بمشروع قصيدة النثر، لم يكن غريباً على القصيدة «الكلاسيكية» بل جرَّب كتابة النصوص العمودية، ومن ثم تجاوز ذلك المشروع لينهمك في كتابة قصيدة النثر، بل إنّ عدداً من نصوصه العمودية، ما زال متداولاً بين زملائه وأصدقائه، ففي أعماله الشعرية نصٌّ سمّاه «عمودي» كأنه يخجل من تدوينه، فلم يضع له عنواناً كباقي عناوين قصائده، إذ يقول في جزءٍ منه:
أطعتُ نفسي على نفسي وأعترفُ
إنَّي معي دائماً في الرأي أختلفُ
إذ غالباً ما أرى ما لا ترى مُقَلي
ولا يرى البؤس والحرمان يكتشفُ
وقفتُ ضدَّي وكان الكل يحفر لي
فهل رأيتَ وحيداً ضدَّه يقفُ؟
فهو حتى في النصوص الموزونة والعمودية منها، على وجه التحديد، لم يكن تقليدياً إنَّما اشتغل على أسلوب المفارقة بشكل واضح، وعمل على فكرة التلاعب اللغوي بمهارة عالية، علماً بأنَّها لعبة لغوية وإنْ غلّفها بشيءٍ من الفكرة، حيث الموقف الذي تتضح فيه حيرة الشاعر في ذلك الوقت، وتردده وضياعه ووحدته التي تقف ضده في الكثير من الأحيان.
إنَّ واحدة من أهم ميزات شعر عبد الأمير جرص أنَّ له عدداً من الجمل الشعرية سارت في الأوساط الثقافية مسار الأمثال، كأنها من دون قائل، ولكننا نرددها دائماً بوصفها أمثالاً قيلت، ولم نعرف قائلها، ولكن حسنة هذه الأعمال الشعرية التي جمعت شعره، وضعت بين أيدينا تلك الجمل الشعرية التي كأنها رجعت له، ومنها على سبيل المثال:
كثيراً ما سبقني الذباب
إليك
أيتها الأيام الحلوة
ومنها على سبيل المثال في قصائد ضد الريح يقول:
وأنت منكسرٌ تجرح أكثر
أيُّها الزجاج
أذكر أنّي كنتُ أحفظ هذه المقاطع، ولكن لم أعرف قائلها، ولم يصادفني أحدٌ من أصدقاء جرص ليدلَّني عليها، ولكنّ هذه الأعمال فتحت الكثير من الأسرار -على الأقل بالنسبة لي- لهذه التجربة الغنية التي رحلت مبكرة، والتي كان متنبئاً بها قبل سنوات.
أعود إلى شعر جرص السياسي، وجزافاً أسميه «سياسياً»، لكنَّه شعر فيه منسوب عالٍ جداً من الاحتجاج، غير أنه لم يتنازل عن رهان شعرية الاحتجاج، حيث يقول في نص تشهير:
نريد من العراق الذي هو ابننا البكر
أنْ يُعيننا على الشعر
الذي يتفتح كل مساء بنا
بينما العراق نائمٌ بين أحضان
حبيبته الحرب.
ويقول في قصيدة أخرى:
نحن لم نشبع جوعاً
لم يتمكن الجوع من مفاصلنا بعد
ما زال لدينا ما نسد به ثغور الكلمات
ما زال لدينا ما نستر به أحزاننا
وهكذا نرى، أن لجرص صوتاً شعرياً محتجَّاً على الشأن السياسي، شأن الكثيرين من الشعراء في ذلك الوقت، ولكنَّه موارب بالشعرية التي يغلف بها نصوصه، ومع هذا فإنَّ هناك خيطاً متقارباً مع محمد الماغوط في بعض النصوص، وهو لا يخلو من خيط الغنائية، ومن فكرة الوطن الرومانسية، وهاتان الفكرتان تتقاطعان مع فكرة قصيدة النثر، لأن الروح فيها روح عمودية وليست روحاً حداثية، فهو يقول في «أحزان وطنية»:
مرة استيقظنا
فلم نجد الوطن
قيل لنا: لمَّ الوطن جميع حاجاته
جمعها شجرة شجرة
ونهراً نهراً
ورحل بعيداً
أوطان كثيرة لن تجد لها مكاناً
أوطان كثيرة تفكر بالهروب
من الخريطة
ولكنه يبقى صوتاً حاداً وشعرية مختلفة طازجة وجارحة في نفس الوقت، شكراً للشاعر الفلسطيني نجوان درويش الذي جمع هذه الأعمال التي ستكون مائدة متوفرة للدارسين.



شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.


أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
TT

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

تصدُّر بطولة فيلم افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» ليس أمراً بسيطاً، بيد أنْ يترافق ذلك مع اختيار فيلم آخر للبطل نفسه ضمن دورة واحدة، فهذه حالة لا تحدُث كثيراً في مسيرة أي ممثل. هذا ما يعيشه حالياً البريطاني - المصري أمير المصري، بطل فيلم «العملاق» الذي افتتح الدورة الخامسة للمهرجان، وحظي باهتمام واسع، وهو أيضاً بطل فيلم «القصص» للمخرج أبو بكر شوقي، أحد أبرز المنافسين في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً، ليروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل التجرية، قائلاً: «عندما تحدَّث معي الرئيس التنفيذي للمهرجان الأستاذ فيصل بالطيور عن فيلم (العملاق)، لم أكن أعرف أنه سيختاره ليكون فيلم الافتتاح. فقد كان من الممكن أن يختار فيلماً تجارياً لبطل هوليوودي مثلاً، لكنه أبدى اهتماماً بإظهار أناس مثلي على المسرح أمام نجوم عالميين مثل مايكل كين وإيشواريا راي».

ويصف المصري تلك اللحظة بأنها علامة فارقة في مسيرته، ويضيف بنبرة إعجاب واضحة: «أنا منبهر بالمهرجان، وعاماً تلو آخر نرى أنّ كلّ دورة أفضل من التي سبقتها». ويتابع موضحاً خصوصية هذا العام: «مستمتع جداً بالمرحلة الحالية التي أعيشها فنّياً، خصوصاً مع ندرة أن يحظى ممثل ببطولة فيلمين مشاركين في مهرجان بحجم (البحر الأحمر)».

أمير المصري... عام مفصلي يُبدّل موقعه بين البطولة والهوية الفنّية (المهرجان)

«العملاق»... المدرّب أم الموهبة؟

وإنما حضور المصري في «العملاق» يتجاوز مجرّد البطولة، فالفيلم نفسه يحمل تركيبة حساسة تستدعي أداءً واعياً لطبيعة الشخصية التي يجسدها: نسيم حميد، المُلاكم الذي أحدث ثورة في صورة الرياضي المُسلم في بريطانيا التسعينات، بقدر ما أثار جدلاً لا ينتهي حول علاقته بمدرّبه الأسطوري الذي يجسّد دوره النجم بيرس بروسنان. وبسؤال أمير المصري عن تقاطعات ذلك مع حياته، يرد بحماسة: «جداً... كلانا يتجاهل الآراء السلبية ويُكمل طريقه بإصرار».

ينطلق الفيلم من مشهد صغير في شيفيلد البريطانية، حيث تطلب والدة طفل في السابعة من المدرّب أن يُعلّم ابنها الدفاع عن نفسه ضدّ التنمُّر، لحظة تبدو عادية لكنها تتحوَّل إلى حجر الأساس لأسطورة. يلتقط المدرّب الموهبة من النظرة الأولى، فيأخذ نسيم مع 3 من إخوته إلى الحلبة، ليكتشف فوراً أن الطفل النحيف يحمل شيئاً لا يُدرَّس. ومن هنا يمتدّ الخطّ الزمني للفيلم عبر محطات تنقل نسيم من شوارع الحيّ إلى لقب بطل العالم، قبل أن تبدأ الانهيارات التي ستفضح هشاشة العلاقة بين المُلاكم ومدرّبه.

يطرح الفيلم بذكاء شديد السؤال: مَن هو «العملاق» الحقيقي، المدرّب أم الموهبة؟ هذا السؤال يصل ذروته في مشهد صادم يتواجه فيه الطرفان، فيقول نسيم: «هذه موهبة من الله، وعليَّ أن أستثمرها من دون أن أدين بالفضل لأحد». فيردّ المدرّب: «موهبتك بلا قيمة لو لم أكتشفها وأطوّرها طوال 16 عاماً».

ولأنّ الفيلم يعيد طرح الأسطورة على الشاشة، كان حضور نسيم حميد الحقيقي في عرض الفيلم حدثاً إضافياً، إذ ظهر المُلاكم المعتزل في المهرجان بعد سنوات من الغياب، مُبتسماً ومُتأثراً، وقال لأمير المصري: «هذا الفيلم يقول لك: (باسم الله... ابدأ مسيرة جديدة!)». وكأنّ الأسطورة سلّمت شعلتها الرمزية للممثل الذي أعاد بناءها.

المصري يتوسّط المُلاكم المعتزل نسيم حميد والرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور (المهرجان)

مرحلة جديدة... مشروعات بالجُملة

وبالنظر إلى كون الهوية الفنّية لأمير المصري وُلدت من تداخُل الثقافتين العربية والغربية، تماماً كما جاء في فيلم «العملاق»، يبدو السؤال عن تأثير هذا المزج حاضراً بالضرورة، ليُجيب بتأمّل واضح في جوهر اختياراته قائلاً: «الأهم أن أركّز على المشروع، أيّاً كان، في العالم العربي أو خارجه». ويشرح: «دائماً تشغلني الأسئلة: هل هذا العمل من شأنه تحريك شيء داخلي؟ هل يمكنه إيصال رسالة؟»، مشيراً إلى أنّ فيلم «العملاق» يأتي ضمن هذا الإطار بشكل واضح.

الزخم دفعه لاتخاذ خطوة طال تأجيلها، وهي تأسيس شركة إنتاج في بريطانيا، فيكشف: «اتجهت مؤخراً لتأسيس شركة إنتاج افتتحتها قبل نحو 3 أشهر، وأعتزم في المرحلة المقبلة أن أنفّذ أعمالاً ليست لي فقط، بل كذلك لأناس يُشبهنوني». يتحدَّث المصري عن مشروعه الجديد كأنه يضع حجر الأساس لهوية إنتاجية مقبلة تُكمِل ما بدأه أمام الكاميرا.

أمير المصري يتحدّث عن الزخم والتحوّل وبداية مشروعه الإنتاجي (الشرق الأوسط)

وعن أحدث مشروعاته، يقول: «ثمة فيلم أنهيته للتو في ألمانيا، ولو عُرض في مهرجان مثل (البحر الأحمر)، فهذا يعني أننا سلطنا الضوء على قضية مهمة جداً في موضوع لامسني جداً عندما قرأته. فيلم سيكون مهماً جداً». ورغم تحفُّظ المصري على ذكر القضية التي يتناولها، فإنّ حديثه يوحي بموضوع ثقيل لمرحلة أكثر التزاماً في خياراته السينمائية.

وفي ختام حديثه، يفتح نافذة على مشروع جديد ينتظره جمهور الدراما، مؤكداً أنه يستعدّ لبطولة مسلسل «سفّاح» مع المخرج هادي الباجوري، الذي من المنتظر عرضه عبر منصة «شاهد»، وهو عمل يستلهم من قصة حقيقية لقاتل متسلسل حصلت في قلب القاهرة، ليذهب هذه المرة نحو الغموض والعوالم السوداء.