بعد 14 عاماً من النشاط في حي تشيلسي اللندني الأرستقراطي، أعلن الشيف توم آيكنز عن إغلاق مطعمه الشهير «تومز كيتشن» في بدايات عام 2020. وصرح آيكنز بأن أسباب هذا القرار كانت مزيجاً من «تحديات السوق مع نقص في المهارات والأيدي العاملة». ولكن آيكنز لم يخرج من السوق تماماً؛ حيث يمتلك مطعماً آخر اسمه «ميوز» في حي بلغرافيا، كما يمتلك مطاعم خارج بريطانيا في دبي وأبوظبي.
ويبدو أن ظاهرة إغلاق المطاعم الفاخرة مستمرة في لندن لأسباب متعددة، منها تراجع الإقبال على هذا النوع من المطاعم، وانتشار ظاهرة توصيل الوجبات إلى المنازل في كافة قطاعات الصناعة، من الوجبات السريعة إلى الفاخرة، وعدم جاذبية لندن للأيدي العاملة الأوروبية، بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كما أن أسعار وجبات المطاعم الباهظة أيضاً كانت وراء إغلاق كثير منها لعدم الإقبال عليها.
وعلى ما يبدو أن طموحات آيكنز كانت أكبر من قدرة السوق على استيعاب أسعار مطعمه الذي كانت الوجبة الواحدة فيه المحتوية على الكافيار تتكلف - في المتوسط - 175 جنيهاً (228 دولاراً) للفرد الواحد.
ومع ذلك تستمر المحاولات في الإبقاء على القطاع الفاخر من السوق، حتى من آيكنز نفسه الذي استبدل مطعمه المغلق بمطعم آخر فاخر هو «ميوز».
وكان آيكنز قد انسحب من مجال تقديم الطعام الفاخر في لندن منذ خمس سنوات، ولكنه عاد لتجربة حظه مرة أخرى في مطعم «ميوز».
ويعتبر آيكنز من أمهر الناشطين في إدارة المطاعم، وله خبرة طويلة في العمل في مطاعم باريس ولندن، وكان أصغر شيف حاصل على نجمتي ميشلان في عمر 26 عاماً، وهو من بين الطهاة الذين عانوا من لعنة النجوم التي أدت بهم إلى إغلاق مطاعمهم.
ولكن إغلاق «تومز كيتشن» له دلالات قوية على التراجع؛ حيث كان في أوج نجاحه يشمل مجموعة من خمسة مطاعم، أربعة منها في لندن والخامس في إسطنبول. وتراجعت المطاعم تدريجياً إلى مطعم واحد ظل يعمل في تشيلسي منذ عام 2006.
ويخلف آيكنز وراءه كثيراً من الموردين الذين لم يحصلوا على ثمن تعاقدات توريد لحوم ومواد غذائية إلى مطعمه المغلق. ولأن المطعم كان شركة محدودة المسؤولية أو «ليمتد» فإن كافة الديون والمستحقات للموردين تسجل ضد الشركة وليس ضد آيكنز شخصياً. ويصل عدد الموردين الذين خسروا أموالاً في مطعم آيكنز إلى نحو 160 مورداً، منهم من يعمل في شركات صغيرة. وقال أحد الموردين إنه يخسر سنوياً ما بين 50 إلى 100 ألف إسترليني، بسبب المطاعم التي تغلق أبوابها.
وتشير إحصاءات غير رسمية إلى أن عدد المطاعم التي أغلقت أبوابها في العام الماضي في لندن تخطى المائة مطعم، منها مطاعم مشهورة يملكها نجوم الطهي في بريطانيا، مثل جيمي أوليفر.
وذكرت صحيفة «فايننشيال تايمز» أن موجة إغلاق المطاعم في لندن هي الأعلى في العشر سنوات الأخيرة. وكان العام الماضي هو الأسوأ بسبب موجة توسعات غير مدروسة من بعض المطاعم. وتذكر الصحيفة أن 117 مطعماً أغلقت أبوابها في لندن عام 2018، بزيادة 40 في المائة عن العام الأسبق. واستقت الصحيفة معلوماتها من دليل «هاردن» لمطاعم لندن.
من الأسباب القوية لإغلاق المطاعم ما تذكره المراجع الرسمية من أنه عرض أكبر من الطلب. وفي حين تعتبر هذه المصادر أن المطاعم توسعت بلا حساب، فإن الأرجح هو أن الطلب تقلص على غير المتوقع، على نمط مشابه لما يحدث للمحلات الكبرى التي أغلقت أبوابها بسبب عدم الإقبال عليها. فالإقبال لم يتراجع في الواقع، ولكنه تحول من الذهاب للمحلات إلى التسوق على الإنترنت. ولم يعد الزبائن يأبهون بالذهاب إلى المطاعم الفاخرة في الوقت الذي يمكنهم فيه طلب الوجبات الفاخرة من الموردين مباشرة إلى المنازل، من دون الحاجة إلى المطاعم.
وهناك بالطبع عوامل أخرى، مثل ارتفاع تكاليف تشغيل المطاعم، وندرة الأيدي العاملة الماهرة، بعد أن جف تدريجياً قدوم العمال الأوروبيين إلى لندن. كذلك تعددت المحاولات العشوائية لافتتاح مطاعم في لندن التي تكاد تزيد في عددها على المطاعم المغلقة، لتجربة السوق في أنماط جديدة من الأطعمة، وبعد فترات وجيزة كانت هذه المطاعم تغلق أبوابها.
كما كان مطورو العقار في لندن وراء موجة توسع افتتاح المطاعم بلا دراسات جدوى، وذلك بتشجيعهم على افتتاح مزيد من المطاعم في مناطق التوسع العمراني الجديدة بتقديم حوافز، كما في شرق لندن، من أجل الإيحاء بأن المناطق الجديدة حافلة بالحياة الاجتماعية النشطة التي يتعين الانتقال إليها.
ويشكو أصحاب المطاعم من بعض المستثمرين الذين ينفقون مزيداً من الجهد والمال في افتتاح مطاعم جديدة، على الرغم من عدم حاجة السوق لها، وبدوافع لا تتعلق بالربح، وإنما بالسمعة والجاه في ملكية مطاعم.
وتنعكس هذه المطاعم التي لا تهدف إلى الربح على أنشطة المطاعم الأخرى التي يضطر بعضها إلى الخروج من السوق. واضطرت سلاسل مطاعم ناجحة إلى إغلاق كثير من فروعها مثل كارلوشيو وبريتزو وأوليفر.
والغريب أن شركات بطاقات الائتمان تؤكد أن الإنفاق في لندن زاد على تناول الوجبات في المطاعم بنسبة 7.7 في المائة، رغم تراجع أعداد المطاعم. ولا يدل هذا الإنفاق المتزايد بالضرورة على زيادة عدد الوجبات، وإنما على ارتفاع أسعارها. وما يؤكد ذلك أن الوجبات الرخيصة يتم دفع ثمنها نقداً، ولا تحتاج إلى بطاقات ائتمان لسداد ثمنها.
وتشكو المطاعم بدورها من زيادة التكاليف عليها من رسوم عوائد تجارية (Business Rates) وتضخم أسعار المواد الخام، وأجور العاملين، وصعوبة العثور على الخبرات اللازمة في السوق.
وعلى المطاعم أن تتأقلم على متغيرات السوق إذا كانت تريد أن تبقى مفتوحة أمام زبائنها. وتشمل مواكبة السوق توفير خدمات التوصيل إلى المنازل، وتقديم خيار الوجبات الخفيفة الرخيصة، والتوجه نحو تذوق الوجبات النباتية، والتفوق في الخدمة والوجود على الإنترنت.
مجموعة المطاعم التي أغلقت أبوابها في الشهور الأخيرة
ولعل المجموعة التالية من المطاعم التي أغلقت أبوابها في الشهور الأخيرة تذكر الصناعة بأن الاستمرار في السوق يلزمه مزيد من التخطيط السليم، والتأقلم على متغيرات السوق ومواكبة مطالب الزبائن:
> «ذا سكوير» في حي مايفير: وهو مطعم حاصل على نجمة ميشلان، وتم إغلاقه خلال تناول الزبائن لوجبة في منتصف اليوم، وذلك بعد إفلاس صاحبه. ووصفت زبونة في المطعم المشهد الدرامي، بدخول أربعة رجال في ملابس قاتمة إلى المطعم، وبعدها بدقائق خرج مدير المطعم بعيون دامعة يطلب من الزبائن المغادرة لأن المطعم أفلس، ولن يمنح عماله أجورهم عن الشهر الأخير.
> مطعم «غيزلينغ» في هولبورن: وأغلق أبوابه بعد ثمانية أشهر من افتتاحه، بسبب عدم تغطية تكاليفه. وتخصص المطعم في المأكولات والمشروبات الفاخرة، ولكن على ما يبدو أن المأكولات الشهية لا تضمن الاستمرار إذا كانت إدارة الحسابات لا تستطيع الموازنة بين الدخل والمصروف.
> «بوني غال» أشهر مطعم بحري في حي سوهو: اضطر هو أيضاً لإغلاق أبوابه. وكتب صاحب المطعم أليكس هانتر على «إنستغرام» أنه حتى الأشياء العظيمة تنتهي بعد حين. وانتهت قصة المطعم الشهير بعد ثلاث سنوات من النشاط في حي سوهو. واعتمد المطعم على تقديم السمك المشوي والمحار. ولم يذكر هانتر أسباب الإغلاق المفاجئ لمطعمه.
> مطعم «لامبرت» في حي بالهام: بعد 17 سنة من استقبال الزبائن، اضطر مطعم «لامبرت» إلى إغلاق أبوابه في حي بالهام اللندني. وعلل صاحب المطعم جو لامبرت قراره بأنه يعود إلى أحوال السوق الصعبة، وارتفاع تكاليف التشغيل، والروتين المفروض على المطعم من المجلس المحلي والحكومة، في صيغة عوائد تشغيل وضرائب. وعبر جو عن حزنه الشديد لما آل إليه حال المطعم؛ حيث كان يأمل أن يكمل فيه 20 عاماً من العمل المتواصل.
> مطعمان في حي ستوك نيوتن: وأعلن المطعم الأول «ذا لاست كرامب» عن إغلاقه على «إنستغرام»، بينما التزم المطعم الآخر «مويو» الصمت التام لدى إغلاق أبوابه منذ بداية العام الجاري، بعد عام كامل من النشاط في الحي. وكان المطعم الثاني يقدم مأكولات أوروبية غير عادية، مثل أطباق بحرية بها عنب مجمد، والشعير بدلاً من الأرز، ويقدم أطباق «فيوجن» بالرغوة المجمدة. ولكن طموحات الشيف لم تعجب الزبائن.
> «هيكس سوهو»: بعد 10 سنوات، أغلق مطعم «هيكس سوهو» أبوابه. وقال الشيف مارك هيكس إن ارتفاع الإيجارات وصعوبة أحوال السوق كانت وراء قرار الإغلاق. وكان هيكس قد حصل على وسام ملكي في عام 2017 لجهوده في تطوير المطبخ البريطاني.
> «غيلورد»: وهو من أقدم المطاعم الهندية في لندن، بسجل متواصل مدته 53 عاماً من موقعه في حي فيتزروفيا، ولكنه في النهاية قرر إغلاق أبوابه. ويتذكر زبائن المطعم الديكور الحديث وتروللي الحلوى بعد الوجبات. ولكن المطعم انسحب من لندن بهدوء، ومن دون ذكر الأسباب أو التعبير عن الحزن الشديد، مثلما فعل أصحاب المطاعم المغلقة الأخرى.