تسلّم إلياس الفخفاخ وزير السياحة والمالية التونسي السابق والقيادي الاشتراكي الديمقراطي، رسمياً رئاسة حكومة تونس ما بعد انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2019. وهكذا، حسم لصالحه ولصالح حليفه الرئيس قيس سعيّد أزمة سياسية ارتفعت حرارتها خلال الأسابيع الماضية، وأوشكت أن تؤدي إلى حل البرلمان والدعوة إلى إجراء انتخابات جديدة.
يصف البعض الفخفاخ بـ«الفتى الذهبي» الجديد، ويشبهونه بسلفه يوسف الشاهد - الذي تولى رئاسة الحكومة بين أغسطس (آب) 2016 وفبراير (شباط) 2020 - ورئيس الحكومة الأسبق المهدي جمعة (خلال 2014) وبمجموعة من كبار المسؤولين التونسيين الذين دخلوا الساحة السياسية بعد سقوط حكم زين العابدين بن علي في مطلع عام 2011، الذين باتوا يعرفون بـ«الفتيان الذهبيين».
لم يفز إلياس الفخفاخ وحزبه اليساري المعتدل «التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات» في انتخابات سبتمبر (أيلول) الماضيين، إلا أنه فاز بمنصب رئيس الحكومة الذي يحتكر نحو 70 في المائة من السلطات التنفيذية في الدستور التونسي. أما السبب فهو أن الرئيس قيس سعيّد وصديقه القديم يوسف الشاهد، رئيس الحكومة المنتهية ولايته، وبعض المعارضين السابقين رشّحوه. وبناءً عليه، وصفه معلّقون بـ«الفتى الذهبي» وهذا لقب تطلقه الصحافة الرياضية الإيطالية سنوياً على أحسن لاعب كرة قدم، بصرف النظر عن نتائج ناديه في الملاعب.
في الوقت نفسه، يصف بعض النقابيين والسياسيين المعارضين هؤلاء «الفتيان الذهبيين» بـ«رجال فرنسا»، أو «حزب فرنسا»، مشيرين إلى أن معظمهم درسوا في الجامعات الفرنسية وتحمّلوا مسؤوليات على رأس مؤسسات اقتصادية فرنسية أو أوروبية، ولم يُعرَف لهم أي دور سياسي وحقوقي معارض لحكم الرئيس زين العابدين بن علي قبل احتجاجات أواخر 2010 ومطلع 2011.
في أي حال، يتميز الفخفاخ بصداقاته الكثيرة في باريس والعواصم الغربية لأسباب كثيرة، من بينها عضوية حزبه منذ عقدين للمنظمة السياسية الدولية في «الدولية الاشتراكية» التي تضم في عضويتها 160 من الأحزاب السياسية ذات التوجه «الديمقراطي الاجتماعي» أو «الاشتراكي» أو «العمالي»، من بينها الحزب الاشتراكي الفرنسي.
بطاقة هوية
إلياس الفخفاخ من مواليد 1972 في تونس، حيث تلقى تعليمه. وحصل على شهادة مهندس في الميكانيك وإدارة الأعمال من الجامعة التونسية عام 1995، ثم انتقل إلى فرنسا، وهناك حصل على درجة الماجستير في الهندسة الميكانيكية من مدرسة «إينسا» الجامعية بمدينة ليون، على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة الإيسون بضواحي العاصمة الفرنسية. ولم يعد من فرنسا إلا عام 2006 وذلك بعدما حصل على جواز سفر فرنسي.
وباشر الفخفاخ حياته المهنية في فرنسا مدير مشروع في البحث والتطوير بشركة متخصصة في تصنيع المطاط متصلة بميادين صناعة السيارات والطيران. ثم عين مسؤولاً عن تطوير عمليات التصنيع في الكثير من مصانع المجموعة، كما تحمّل مسؤولية إدارة مشروع شامل لتقليص تكلفة الإنتاج في 45 مصنعاً في جميع أنحاء العالم.
وعلى الأثر، تولى منصب مدير الإنتاج في الفرع البولندي للمجموعة الفرنسية الدولية نفسها، ونجح في وضع خطة لتحسين الأداء ومضاعفة الطاقة الإنتاجية للشركة في غضون سنتين.
العودة إلى تونس
بعد العودة إلى تونس عام 2006، أشرف إلياس الفخفاخ على فروع لمؤسسات فرنسية دولية وعين مديراً عاماً لشركة «كورتيل» المتخصصة في صناعة مكوّنات السيارات. وبعد الدمج بين الشركة الفرنسية ونظيرتها الإسبانية «فونفيرا» عيّن الفخفاخ للمؤسسة الجديدة.
هذا المشوار المهني مع الشركات الأوروبية مكّن الفخفاخ من التمتع بدعم فرنسي غربي وجعل منه «الفتى الذهبي» الجديد، مثلما سبق أن حصل لسلفه مهدي جمعة الذي عين وزيراً للصناعة عام 2013 ثم رئيساً للحكومة في 2014 بفضل مشواره في شركات فرنسية ألمانية، ولاحقاً، لصديقه يوسف الشاهد بعد مشوار فني مع مؤسسات أوروبية وأميركية.
والشيء الثابت، أن الورقة الفرنسية والدولية أسهمت في ترجيح كفة رئيس الحكومة الجديد من بين 8 من الشخصيات التي اقترحتها الأحزاب على الرئيس سعيّد، في أعقاب إخفاق الحبيب الجملي، مرشح حزب «حركة النهضة»، في الحصول على ثقة البرلمان بعد شهرين كاملين من المفاوضات.
وزير سابق وصديق لـ«النهضة»
لقد تميّز خطاب إلياس الفخفاخ إعلامياً وسياسيا خلال الحملة الانتخابية الرئاسية والبرلمانية لشهري سبتمبر وأكتوبر الماضيين رغم حداثة سن الحزب الذي رشحه، أي «التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات». ويعود الفضل لهذا الحزب اليساري المعتدل، الذي يتزعّمه رئيس البرلمان الانتقالي مصطفى بن جعفر والوزير اليساري خليل الزاوية، في دخول الفخفاخ إلى الحكومة ما بين أواخر 2011 و2014 وتولّيه حقيبة السياحة ثم حقيبة المالية في الحكومتين الائتلافيتين اللتين ترأسهما قياديا «حركة النهضة» حمادي الجبالي وعلي العريّض.
ولقد أورد الفخفاخ في الكلمة التي ألقاها خلال حفل تسلّمه مهامه من يوسف الشاهد أن علاقته بسلفه تعود إلى مرحلة دراسته وعمله في فرنسا قبل انفجار الثورات العربية. ومما قاله إنهما تحادثا بعد سقوط زين العابدين بن علي بيوم واحد، وناقشا فرضية دخولهما المعترك السياسي في تونس. وتابع قائلا إنهما اختلفا، إذ قرّر الفخفاخ دخول حزب «التكتل الديمقراطي» بعد جلسة عمل مع مصطفى بن جعفر، رئيسه وزعيمه التاريخي وحليف «النهضة»، بينما اختار الشاهد أن يؤسس حزباً جديداً مع عدد من رفاقه بينهم سليم العزابي الأمين العام الحالي لحزب «تحيا تونس» والمدير السابق لمكتب الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.
وهكذا، كانت النتيجة أن افترق «الصديقان» الفخفاخ والشاهد. الأول انحاز سياسيا إلى بن جعفر والرئيس السابق المنصف المرزوقي وبقية حلفاء «حركة النهضة» ما بين 2011 و2014 وأصبح وزيراً. والتحق الثاني بعدد من أعيان العاصمة تونس وبزعيم المعارضة - وقتها - الباجي قائد السبسي وحزبه «نداء تونس» فعيّن عام 2015 عضوا في حكومة الحبيب الصيد، ثم اختير رئيساً للحكومة «الائتلافية» منذ صيف 2016.
يومذاك، انتظم الفخفاخ وحزبه بالمعارضة «الديمقراطية الاجتماعية الحداثية» وتفرّغ لمؤسسة الدراسات والاستشارات الاقتصادية الدولية التي أسسها طوال 4 سنوات. إلا أنه بعد وفاة الرئيس السابق الراحل الباجي قائد السبسي عدّل ساعته مجدّداً سياسيا، وخاض السباق نحو قصري قرطاج (الرئاسي) والقصبة (الحكومي).
صديق النقابات ورجال الأعمال
كانت من بين مفاجآت كلمات موكب نقل السلطات من الشاهد إلى الفخفاخ على رأس الحكومة بحضور عدد كبير من كوادر الدولة والمجتمع المدني، أن تبادل الرئيسان السابق والتالي الورود. وأشاد الشاهد بخلفه في رسالة تدعو إلى تكريس «استمرارية الدولة». وفي الوقت الذي بدأ البعض يتحدث عن محاسبة الشاهد ووزرائه بتهم الفساد وسوء التصرف، قدم الفخفاخ تطمينات له وأثنى على إنجازات حكومته وجهودها لرفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
أيضاً، أعلن الفخفاخ تصميمه على «قيادة البلاد بحزم»، وسعيه الدؤوب لأن يكون رئيس «حكومة قوية تضمن الاستقرار السياسي وتواصل عملها حتى تنظيم الانتخابات البرلمانية القادمة» بعد 5 سنوات.
ومن جهة ثانية، سجل رئيس الحكومة الجديد أن من بين أسباب تراكم صعوبات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية تعاقب 7 رؤساء حكومة على قصر القصبة خلال فترة تقارب الـ8 سنوات. وحقاً، بدا الفخفاخ واثقا من تلقيه دعم قيادات نقابات العمال والصناعيين والتجار والفلاحين، باعتباره كان عضوا في الهيئة العلمية لـ«الاتحاد العام التونسي للشغل» ورجل أعمال في الوقت نفسه. وبالفعل، يلتقي الفخفاخ مع عدد من وزرائه في الفوز بصداقة كبار رجال الأعمال والقيادات النقابية في آن معاً، ما قد يمكّنهم من فرصة احتواء الاضطرابات الاجتماعية التي أرّقت الحكومات السابقة وأقضّت مضاجعها.
مرشح يوسف الشاهد
في هذه الأثناء، وصف عدد من وسائل الإعلام التونسية رئيس الوزراء الجديد بأنه «مرشح يوسف الشاهد»، لأن حزب الأخير «تحيا تونس» هو اقترحه على الرئيس سعيّد. ونوّه الشاهد في موكب تسليم مهام الحكومة الجديدة بخصال الفخفاخ، واعترف أمام الصحافيين والسياسيين الحاضرين أنه وحزبه كانا قد اقترحا على رئيس الدولة تكليف الفخفاخ بتشكيل الحكومة الجديدة. وللعلم، كان هذا الترشيح قد أثار جدلاً في صفوف معارضي الشاهد الذين أبدوا تخوّفهم من أن يكون ترشيحه جاء في نطاق «صفقة سريّة» بين الشاهد والفخفاخ من جهة وسعيّد من جهة ثانية.
إلا رئيس الدولة نفى بقوة خلال حوار تلفزيوني أن يكون خضع إلى ضغوط من أي شخصية أو جهة سياسية لترشيح الفخفاخ، بما في ذلك من قبل يوسف الشاهد. وأوضح سعيّد أنه اتخذ قراره بصفة مستقلة بعدما احتكم إلى ضميره، وأجرى تقييماً بينه وبين نفسه لمؤهلات كل المرشحين لرئاسة الحكومة.
نيران صديقة
مع هذا، ثمة مَن يشير إلى أن «النيران الصديقة» قد تؤرّق الفخفاخ، مثلما كشفته الجلسة العامة التي عقدها البرلمان للمصادقة على حكومته، وتداول خلالها على الكلام نحو 170 نائباً. ومع أن الحكومة الجديدة فازت بثقة 129 نائبا ولم يعترض عليها إلا 77 فإنها تعرّضت طوال 17 ساعة إلى «قصف لفظي» عنيف من نوّاب المعارضة، بل وحتى من نوّاب الكتل التي منحته ثقتها.
لقد كشفت جلسة منح الثقة أن «النيران الصديقة»، وليس فقط قيادات ورموز «النظام القديم»، ستهدد رئيس الوزراء الجديد وحكومته داخل البرلمان وخارجه. وتبين أن الانتقادات العنيفة الموجهة إلى الفخفاخ صدرت عن الكتل البرلمانية التي صوّتت لمصلحته، على رأسها نواب أحزاب «حركة النهضة» بزعامة راشد الغنوشي، و«الشعب القومي» العروبي بزعامة زهير المغزاوي، و«التيار الديمقراطي» اليساري بزعامة محمد عبو وغازي الشواشي وحزب «تحيا تونس» بزعامة الشاهد. ولقد كانت الرسالة واضحة، وهي: الدعم مشروط ومنح الثقة لا يعني «التوقيع على صك أبيض»، مثلما ورد على لسان رئيس مجلس شورى «حركة النهضة» الوزير السابق عبد الكريم الهاروني ورئيس كتلة الحركة في البرلمان الوزير السابق نور الدين البحيري.
تتزامن بعض هذه المواقف والانتقادات مع دعوات علنية لإسقاط حكومة الفخفاخ «بعد أسابيع أو أشهر قليلة» صدرت مجددا عن المرشح الرئاسي السابق نبيل القروي زعيم حزب «قلب تونس» ورئيس كتلة الحزب في البرلمان عياض اللومي. إذ انتقد كل من القروي واللومي ورفاقهما بحدة الفخفاخ واتهموه بالانحياز إلى الرئيس سعيّد وبالعمل معه على إقصاء حزبهم سياسيا على الرغم احتلاله المرتبة الثانية في الانتخابات.
وكان قياديون في «النهضة»، بينهم رئيس البرلمان راشد الغنوشي، قد انتقدوا بدورهم إقصاء الفخفاخ لحزب القروي، ورفضه مسايرة مشروعهم حيال «المصالحة الوطنية الشاملة» ولوّحوا بحجب الثقة عنه وعن حكومته. وأوضح الغنوشي أن الاستقرار السياسي يستوجب «طي صفحة الماضي وتحقيق مصالحة وطنية تشمل العائلات السياسية الثلاث: وهم اليسار والإسلاميون والدستوريون». وأورد أن المصالحة لا يمكن أن تستثني أنصار حزب «قلب تونس» الذي يُعد وريث الحزب الحاكم السابق في عهد الباجي قائد السبسي ومرحلة ما قبل ثورة يناير (كانون الثاني) 2011.
لكن الفخفاخ عارض هذا الخيار، ورفض توسيع التحالف مع حزب القروي وقياداته المتهمة بالفساد رغم تعيينه كوادر سابقة في حزب قائد السبسي ضمن فريقه الحكومي، بينهم رجل الأعمال علي الحفصي والمحافظ السابق شكري بن حسن، ومدير مكتب الرئيس قائد السبسي الوزير سليم العزابي.
وهكذا، يتساءل البعض هل سيشفع للفخفاخ وقوفه مع الرئيس سعيّد الذي يرفع بدوره شعارات «ثورية» مثل الانحياز للشباب والفقراء والجهات المهمّشة ومحاربة الفساد... أم يكون هذا الموقف سبباً في تشكّل جبهة سياسية اجتماعية ضده تؤدي إلى إسقاطه تحت ضغط الشارع أو عبر لائحة سحب ثقة يوقعها في البرلمان كتل حزب قلب تونس والنهضة وائتلاف الكرامة؟
في كل الحالات يرجح أن يكون مصير الفخفاخ وحكومته رهينة لتحسن الوضع الاقتصادي الاجتماعي والسياسي المتأزم داخلياً... والمستجدات الأمنية والسياسية والاقتصادية السريعة في ليبيا والجزائر. وعليه، فإن على رأس أولوياته توظيف نقاط قوته وصداقاته الخارجية وداخلياً مع «الفتيان الذهبيين» حتى لا تهب على مستقبله السياسي الرياح من كل الاتجاهات.