قصص عن الحب والموت تشكل روايات غير مكتملة

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

قصص عن الحب والموت تشكل روايات غير مكتملة

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

شكل إصدار وتوقيع القاص المغربي أحمد بوزفور، لمجموعته القصصية الجديدة «إني رأيتكما معاً»، الصادرة عن دار النشر «توبقال»، ضمن سلسلة «نصوص أدبية»، مناسبة للحديث عن قيمة الرجل، وإبداعاته ومواقفه أيضاً.
وتفاعل عدد كبير من الكتاب والقراء المغاربة مع الإصدار الجديد لبوزفور الذي تم توقيعه أخيراً، ضمن فعاليات معرض الدار البيضاء للنشر والكتاب في دورته الـ26، الذي نقرأ على ظهر غلافه: «عليه أن يُدخل هذا الصوتَ في القصة التي يكتبها ليُخمده. يضعه في آخر القصة؟ سيبدو طافياً على السطح كأصبع زائدة. ينبغي أن يجعله في أول القصة. وربما خلالها أيضاً. على هذه الشجرة أن تتحرك قبل أن تترنح. عليها أن تصادق كل أشخاص القصة. أن تتجاوب معهم، وتصبح جزءاً من هويتهم. هل يجعلها تترنح؟ ولماذا تترنح؟ لأنها في مهب الريح؟ تتمايل إذن. في الترنح نوع من التداعي. المترنح آيل إلى السقوط. في مهب العاصفة؟ ربما. أو تحت فأس الحطاب؟ ربما. ربما زلزال؟ ربما. ولكنها تترنح على أي حال».
من جهته، كتب المسرحي عبد الجبار خومران: «كل إصدار قصصي جديد لسندباد القصة القصيرة بالمغرب، المبدع أحمد بوزفور... هو حدث أدبي وثقافي استثنائي، وحتماً إضافة مائزة للمكتبة المغربية والعربية». فيما كتب الباحث أحمد الجوهري: «إن بعض قصص بوزفور تعد روايات غير مكتملة، لكن أهمها تلك الخاصية التي أرقت الكبار من فلوبير إلى فرغاس: إدماج الحوار العادي العامي في النص الأدبي الجميل. بعبارة أخرى، سلاسة المزج بين الثقافة العالِمة في أرقى درجاتها اللغوية والبلاغية الفنية، والثقافة الشعبية في أدنى مستوياتها الشفوية والطبيعية والوحشية».
من جهته، توسع الكاتب فؤاد زويريق في الحديث عن بوزفور وجديده الإبداعي، فكتب: «من الكتاب والمبدعين العرب القلائل الذين نسعد بجديدهم في عالم الكتابة والإبداع شيخ القصة القصيرة أحمد بوزفور، يُجمع جميع من في داخل المغرب وخارجه على أن عمنا سي أحمد بوزفور استثنائي في مجاله، وكل إصدار جديد له هو شهقة إبداعية تبعث فينا روح الأمل من جديد، كل مجاميعه هي عوالم بوزفورية بامتياز، عوالم متفردة، تلتصق بمخيلتك، وتتشبث بأفكارك، عوالم تبحث عن إنسانية الإنسان داخل شخصياتها وأحداثها، تمنحك الاستمرارية في استيعاب الفكرة بتذوق راق دون أن تصاب بالتخمة... هذه العوالم البعيدة عن الضحالة والسطحية، التي تستخدم الخيال والتخيل بدون تواطؤ مع الكاتب نفسه، بعفوية إبداعية، وأسلوب متقن، ولغة مميزة راقية، هي التي جعلت من بوزفور أن يكون، وهي التي جعلتنا ننتظر جديده بفارغ الصبر، ألف مبروك لنا ولشيخنا إصداره القصصي الجديد (إني رأيتكما معاً)، وهنيئاً للخزانة المغربية والعربية».
من جانبه، اختار الكاتب والإعلامي ياسين عدنان، أن يخصص نصاً مطولاً، حمل عنوان «إنّي رأيتُكما معاً... العملاق بوزفور يصوغ الحلم جسراً نحو العبور»، فكتب: «صدور مجموعة قصصية لبوزفور حدثٌ أدبي كبير، لذا اعتبرتُ قراءة مجموعته أولويّة لا تحتمل التأجيل. تساءلتُ بدءاً، ومنذ العتبة: أعرف أحمد بوزفور أستاذاً سابقاً للشعر الجاهلي في الجامعة، عاشقاً للشعر القديم، فما الذي قاده إلى شاعر مصري حديث لا يُصنّف بين كبار مُجايليه هو كمال الشناوي؟ لعلها الأغنية... لكن بأي صوت وبأي حنجرة؟ محمد عبد الوهاب؟ عبد الحليم حافظ؟ أم نجاة الصغيرة؟ ثم ما الذي شدَّ القاص إلى القصيدة/ الأغنية: الحب أم الكذب؟ أم هما معاً؟ المهم أنّ العنوان كان (إني رأيتُكما معاً). وللقارئ أن يُراوح بين العين الكاذبة والدمع الجسور، بين الكذب المبارك والظن الملعون. لكن الأغنية كانت عن الحب، والكتاب أيضاً. بل إنه كتاب عن الحب والموت، معاً. الجزء الأول يضم ثماني قصص عن (الحب). والجزء الثاني عنوانه (الموت) ويتضمن إحدى عشرة قصة. القصص قصيرة جدّا، فالكتاب كلّه جاء في 90 صفحة. ومنذ القصة الأولى نلاحظ وَلع الكاتب بالتكثيف والاختزال وشغفه بالإيجاز، حتى أنه لم يتردد في قصته الأولى مثلاً في اختصار (تاريخ الحب) في صفحتين وسطرين. لكن ما إن نُتِمَّ القصة الأولى حتى نكتشف أنها عن الموت». ويعد بوزفور أبرز رواد القصة القصيرة في المغرب. بدأ مساره الإبداعي مع «يسألونك عن القتل»، القصة التي نشرها في 1971، قبل أن تتوالى أبحاثه ومجموعاته القصصية، من قبيل: «النظر في الوجه العزيز» (1983)، و«الغابر الظاهر» (1987)، و«صياد النْعام» (1993)، و«ديوان السندباد» (1995)، و«تأبط شعراً» (دراسة تحليلية في الشعر الجاهلي، 1996)، و«الزرافة المشتعلة» (قراءات في القصة المغربية الحديثة، 2000)، و«ققنس» (2002)، و«نافذة على الداخل» (2013)، و«النظر إلى بحيرة القلب» (تأملات وقراءات وحوارات، 2017).



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!