مذكرات عربي في الأمم المتحدة (الحلقة 2 والأخيرة): سمير صنبر لـ «الشرق الأوسط»: بين الصحافة والسياسة الدبلوماسية حاجز من ورق

قال إن تلاشي دور الأمم المتحدة انعكس على قضايا المنطقة العربية

سمير صنبر مع الأمين العام الأسبق د.بطرس غالي في عام 1997
سمير صنبر مع الأمين العام الأسبق د.بطرس غالي في عام 1997
TT

مذكرات عربي في الأمم المتحدة (الحلقة 2 والأخيرة): سمير صنبر لـ «الشرق الأوسط»: بين الصحافة والسياسة الدبلوماسية حاجز من ورق

سمير صنبر مع الأمين العام الأسبق د.بطرس غالي في عام 1997
سمير صنبر مع الأمين العام الأسبق د.بطرس غالي في عام 1997

ستة أشهر من العمل التجريبي وصلت إلى 44 سنة أمضاها سمير صنبر في مكتب الأمم المتحدة. شهد خلالها عدم رغبة الدّول الكبرى والنّافذة في إيجاد حلٍّ للنزاع العربي - الإسرائيلي، رغم جهود كورت فالدهايم، الذي رافقه عام 1980 إلى طهران لمحاولة إطلاق سراح الرهائن الأميركيين، ليرحل الأمين العام ويبقى هو وحده مستمراً بالمحاولة. ربطته علاقة صداقة مع كوفي أنان، وبقي إلى جانب بطرس غالي لآخر يوم في ولايته، بعد تخلي الكثيرين عنه بسبب تقرير رسمي طال الهجوم الإسرائيلي لمقر «اليونيفيل» في بلدة قانا اللبنانية الجنوبية. وكما لعبت الصدفة دوراً في بداية حياته المهنية، سؤال طرحه على نفسه جعله يتّخذ قرار الاستقالة: «هل سأمضي ما تبقى من العمر على هذه الحال؟ أم سأحاول أقله الاستمتاع بالحياة؟». ومع ساعات الصباح ذهب إلى المكتب ليلقي تحية الوداع. وفيما يلي نص حوار الحلقة الثانية والأخيرة:
> شهدت الأمم المتحدة في عهد كورت فالدهايم ملفات ملحة في منطقة الشرق الأوسط. أطلعنا على أبرز ذكرياتك وقتها...
- حاول فالدهايم لعب دور فعال لحل النزاع العربي - الإسرائيلي على أساس الشرعية الدُّولية والقرار 242 ابتداء من جمع الأطراف في جنيف، ولم يحصل على نتائج عملية لأنّ الدّول الكبرى لم تكن ترغب في إيجاد حل متوازن. ذهب إلى إيران بعد الثورة ولم يستطع البقاء أكثر من أيام، خصوصاً بعدما أحاط به الجموع وهو يحاول وضع إكليل من الزهور في «مقابر الشهداء» وحاصرت المظاهرات سيارته، وكان من الواضح أنّ هناك صراعاً داخلياً على السلطة لم تكن معالمه قد اكتملت بعد. غادر حينها وتركني أحاول إجراء اتصالات بالتعاون مع سفراء كندا والجزائر للبحث عن مخرج لائق. الحرب العراقية - الإيرانية استمرت حتى اتفاق وقف النار في أيام الأمين العام الذي تلاه.
> سافرت إلى طهران في أوج الثورة. ما ذكرياتك عن تلك المرحلة؟
- لم تكن مقاليد الحكم قد حسمت، فحاولت الوصول إلى صاحب القرار واكتشفت أنّها توزعت على أطراف عدّة والجميع تحت إشراف الخميني. علمت أنّ اللقاء معه يقتضي الجلوس على الأرض وعدم المبادرة بالحديث أو إثارة أي موضوع سياسي.
وسمعت أنّ المنافسة احتدمت بين اللاجئين إلى الخارج والثائرين في الداخل والأتباع القدامى للرئيس السابق مصدق وبعض جماعة اليسار والحركات الجديدة التي انطلقت مع الذين احتجزوا الرهائن بالسفارة الأميركية. حاولت عقد ندوات صحافية مع العدد المحدود من المراسلين الأجانب. واستفدت من تجربة سفراء الجزائر وكندا واستمر الاتصال بيننا حتى الإفراج عن الرهائن.
> ما الدور الذي لعبته في الإفراج عن الرهائن الأميركيين المحتجزين في السفارة؟
- رافقت فالدهايم إلى طهران خلال الوساطة لإطلاق الرهائن ووصلت صباح أوّل يوم من عام 1980. كنا نستمع لأحد الخطباء في طهران عندما همس لي الأمين العام، بأنّه يشعر أنّ أحد المسلحين قد وضع سراً رشاشاً قرب ظهره للتهديد المبطن. غادر بعد يومين وبقيت للاستمرار في المحاولة.
> ما أبرز التحديات التي واجهتك خلال عملك مع الأمين العام خافيير دي كويلار، خصوصاً في ملف الصحراء المغربية والبوليساريو؟
- ارتبط ملف الصحراء الغربية ودور البوليساريو بالخلاف بين السلطات في المغرب والجزائر. حاول كويلار جهده وعين زميلنا البريطاني - الدنماركي اريك جنسن مبعوثاً خاصاً للإقامة هناك ومتابعة الاتصالات. واستقبل زعماء البوليساريو في نيويورك بعد تنسيق مع حكومة المغرب. ولم تؤدِّ العناوين الصحافية عن مبادرات متجددة إلى نتيجة للتوافق. وكادت مدينة العيون تتحول إلى بعثة للتقاعد المؤقت لعدد من الدبلوماسيين الذين انتهت مهمتهم لتمثيل حكوماتهم بالأمم المتحدة.
> وماذا عن دوركم في مرحلة إدارة بطرس غالي للانتخابات المستقلة الأولى بإريتريا؟
- تسلم غالي الأمانة العامة مع ظهور ملامح إيجاد مخرج سلمي للثورة المسلحة التي ناضل خلالها الإريتريون ضد إثيوبيا من أجل الاستقلال. واتخذ مجلس الأمن القرار باستقصاء مطالب الشعب الإريتري حقوقاً مع تبديل نظام الحكم. كانت شؤون الدول الأفريقية المجاورة من المسائل المباشرة التي أشرف عليها عندما كان وزيراً للخارجية العربية. إثيوبيا تشارك في منابع النيل وإريتريا تطل على الجانب المقابل لدول الخليج وتشرف على باب المندب. هناك من اقترح إرسال «خوذ زرقاء»، أي جنود دوليين للإشراف على التنفيذ، واقترحت «القمصان البيض» بديلاً لإشعار الإريتريين باحتمال توفير حرية التعبير لهم مستقبلاً.
صدف أنّ أكثرية مجموعة الاتصال كانت من النساء، وفي يوم المرأة العالمي نزلن إلى الشارع لتقديم أنفسهن للإريتريات والاحتفاء باليوم المشترك. كنا نرتدي قمصاناً بيضاء كتب عليها بالأزرق «استفتاء حر وعادل لإريتريا». اكتسبنا قاعدة شعبية في يوم واحد. التقيت كل الأطراف السياسية وفي مقدمتها القائد الميداني والرئيس الحالي أسياس أفورقي. طفت القرى والمناطق قرب حدود السودان، وزرت بطريرك الأقباط وشيخ دار الفتوى. أنهينا المهمة. وأُعلنت النتيجة رسمياً من مقر الأمم المتحدة، فاقترحت على الرئيس أن يتقدم بطلب انضمام إلى عضوية الأمم لتأكيد الاستقلال. وعلمت أنّ إمارة موناكو تفكر أيضاً بالانضمام، فاقترحت تقديم الطلبين معاً بالجلسة نفسها ليبدو التوازن الدولي بين دولة نامية ودولة أوروبية.
> أخبرنا عن دورك في الملفات الملحة تحت إدارة بطرس بطرس غالي.
- عندما هاجم الجيش الإسرائيلي بلدة قانا، مقر القوة الفيجية لليونيفيل بجنوب لبنان، أُثيرت أزمة سياسية حول التقرير الرسمي. هل ينشر أم لا؟ لبنان طالب بالنشر وإسرائيل طالبت بحفظ الملف. كان الأمين العام في ألمانيا عندما عُقد اجتماع داخلي. تدخلت مادلين أولبرايت مندوبة الولايات المتحدة مطالبة بعدم النشر. سايرها كوفي أنان، الأمين العام المساعد لعمليات حفظ السلام. شرحت له أنّ التلفزيون البريطاني (بي بي سي) قد أشار إلى النقاط الرئيسية ومن الصعب لفلفة الموضوع. عاد غالي ووصل الرئيس اللبناني إلياس الهراوي لعرض القضية على الجمعية العامة. وخلال اجتماع في مكتب الأمين العام شرح الهراوي التفاصيل وهو يشير إلى «قانا الجليل». التقط غالي الإشارة واتخذ القرار بالنشر. اتصل رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز واقترح التأجيل بضعة أيام يرسل خلالها قائد الجيش الجنرال إيهود باراك للاطلاع عليه. تدخلت أولبرايت من جديد؛ لكن القرار حدد بالتنفيذ. بعدها بدأت أولبرايت حملة ضد التجديد لغالي، وحملتني مسؤولية خاصة عندما دافعت عنه عبر وسائل الإعلام، خصوصاً في «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» ومحطات التلفزيون الرئيسية. بل ازدادت حملتها علي بعد ترشيح أمين عام جديد. مع أنّ كوفي أنان كان زميلي وصديقي طوال الأعوام. شرحت أنّ هناك أميناً عاماً واحداً وأنّ ولائي الوحيد له، حتى نهاية ولايته في آخر السنة. وتوجهت إلى مكتبه بعد أن بدأ كثيرون التخلي عنه.
> تقاعدت من الأمم المتحدة تحت رئاسة كوفي أنان، في الفترة التي قررت الولايات المتحدة الأميركية اجتياح العراق رغم رفض الأمم المتحدة. ما كواليس هذه الأزمة؟ وكيف تتذكر آخر أيامك في المنظمة؟
- شعرت أنّني أرتاح في العمل الميداني أكثر من الإشراف الإداري. أشعر لدى مساهمتي بتوفير الغذاء للأطفال والتعليم المشترك، وتعزيز كرامة الإنسان في المجتمعات النّامية والمساهمة في حرية استقلال الشعوب كأنّني ولد بسيط.
اقترح كوفي أنان التّعاون المستمر كما كنّا طوال عقود، ورغم مسايرة الجميع والانقسام الدّائم، كنت أدرك مشاعره الدّاخلية من بعض الملامح. وبعد أيام من اجتياح القوات الأميركية للعراق من دون موافقة الأمم المتحدة، لاحظت خلال لقاء معه، بعد اجتماعه مع وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، أنّ أجفانه ترفّ بسرعة وصوته يبح خوفاً ونحن نشاهد طائرات الهليكوبتر العسكرية تطوف حول مبنى الأمانة العامة. عندما أشرت إليها كأنّها سترتطم بالمكتب مثل مركز التجارة العالمي، ضرب قبضته على يدي. فشرحت رأيي له أنّهم دخلوا العراق من دون إذن شرعي من المنظّمة، ولكنّهم لا بدّ سيحتاجون إلى قرارها بخروج اللائحة.
كنت أسكن على بعد دقائق من باب البيت إلى المكتب. وبعد يوم طويل من الاستماع إلى خطابات السفراء ومطالب الموظفين مررت على دكان قريب من منزلي لشراء بعض الأغذية وجدته قد أقفل وأنّ الساعة قد بلغت العاشرة والنصف مساءً. فتساءلت هل سأمضي ما تبقى من العمر على هذه الحال؟ أم سأحاول أقله الاستمتاع بالحياة؟ وفي اليوم التالي توجّهت إلى المكتب للوداع. كنت قد بدأت العمل في الأمم المتحدة عندما جئت من روما، على افتراض أن أبقى 6 أشهر فقط، وبقيت 44 سنة.
> ما نصيحتك للصحافيين الشباب؟
- أشجعهم على التطلع نحو الإعلام الدبلوماسي، وأقترح عليهم تحديد الهدف على قدر الموهبة المناسبة وتخطيط أسلوب للتنفيذ. والأهم أن يستمعوا قبل أن يتكلّموا، ويفكروا قبل أن يكتبوا. وألا يستجدوا بل يتقدموا بالموهبة الخلاقة والرأي الحر المستقل. فالمصداقية ثروة. والتّعرف على الآخرين بلا مكابرة ولا ادعاء. اكتشفت بالتجربة أنّ الاتصال بالآخرين يوفّر ثقافة حضارية واحترام كرامة الإنسان تبدأ بالنفس أولاً. وألّا يتخلوا عن جذورهم مهما كبرت الإغراءات.
> كيف كانت علاقتك مع الصحافيين ومراسلي الأمم المتحدة؟
- بين الصحافة والسياسة الدبلوماسية حاجز من ورق وجسر من الاهتمام المشترك، ساعدت خلفيتي الصحافية في تفهم احتياجات الصحافيين والمراسلين بمختلف المواقع والمهمات. كانت هناك 3 مراحل.
الأولى عند بدء عملي الصحافي في بيروت. كنت طالباً في الجامعة أطمح للعمل الصحافي، وأشاهد أكبر المراسلين الأجانب وألمعهم من على شرفة فندق السان جورج. فرحتي كانت كبيرة عندما حصلت على أوّل حديث صحافي من الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك داغ همرشولد.
المرحلة الثانية عندما تسلمت عملي بالأمم المتحدة في الجنوب «اليونيفيل» والاتصالات مع دول المنظمة العربية، وعندما انتقل تجمّع المراسلين إلى فندق «الكومودور» قرب منزل عائلتي في رأس بيروت، أصبحت أتردد على بهو الفندق أو أستقبلهم في مكتبي القريب بالمنارة. وقتها انطلق عدد من المراسلين للشهرة الإعلامية من بينهم توماس فريدمان، المعلّق الأسبوعي في «نيويورك تايمز» الذي بدأ في مكتب «أسوشييتد برس» في مبنى النهار شارع الحمرا؛ وروبرت فيسك وكان مراسلاً لـ«التايمز» اللندنية، ولورين جانكينز الذي فاز بجائزة «بوليتزر» الإعلامية لتغطيته أحداث بيروت عام 1982.
المرحلة الثالثة في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، حيث يعمل المراسلون بمكاتب في المبنى نفسه. ومهمتي كانت تقديم رؤساء الدّول والحكومات في المؤتمرات الصحافية، أسهمت خلالها بنسج علاقات ودّية مع وبين الطرفين. بعض الرؤساء كان يحاذر اللقاء مع الصحافيين، كما أنّ بعض المراسلين كان يشكّ في فائدة الحوار المثمر مع عدد من الرؤساء، أفادتني التجربة بالوصول إلى توازن عملي بين اللياقات الرسمية والنتائج المهنية. اكتسبت أصدقاء العمل من خلال الممارسة اليومية مع المراسلين. وتأكدت بعد عمل دولي لثلاثة عقود أنّني في نهاية الأمر صحافي.
> كيف ترى الأمم المتحدة اليوم كمنظومة؟
- كانت المركز الرئيسي للعلاقات التفاوضية بين الدّول الأعضاء، لكنّ دورها تلاشى في العقدين الماضيين. وبعد أن حازت جائزة نوبل للسلام لوقفها إطلاق النار والمراقبة الفعالة للنزاعات المسلحة في القارات الخمس، باتت الصحافة تتحدّث اليوم، عن فضائح الاستغلال الجنسي لعدد من المراقبين في أفريقيا الوسطى والغابون وهايتي. إنّها بحاجة للدول الكبرى لتستمر والصغرى لتنجح.
نتذكّر مثلاً، كيف أوقف الأمين العام الأسبق داغ همرشولد احتمالية اندلاع حرب بين الولايات المتحدة والصين بسبب اختطاف طيّار في آسيا لوقف حرب السويس. وكيف قتل بعد تحطّم طائرته أثناء محاولته تدبير وقف القتال في الكونغو. ونجح يو ثانت بعده في ترتيب تسوية لتجنيب الحرب حول تشيكوسلوفاكيا، ومنع حرب عالمية ثالثة حول كوبا. وطرح أسس حل لمشاكل الشرق الأوسط على أساس الشرعية الدّولية. وكيف استطاع خافيير بيريز دي كويلار إنجاز مهمة وقف المعارك في سان سلفادور وغواتيمالا، ووقف إطلاق النار بين العراق وإيران. ولا ننسى الدور الأساس الذي لعبه الدكتور بطرس غالي في تفادي المعارك بين صربيا وكرواتيا والبوسنة.
تعكس الأمم المتحدة عادة حال العالم، الذي تبدّل مع الألفية الثالثة فاختفت وانقسمت دول أعضاء، وبرزت أخرى جديدة وتبدّلت أسماء بعضها، كما تبدّلت مفاهيم القيادة، ودور المؤسسات. عالم جديد غاضب وغامض لم تتضح معالمه بعد، يحتاج إلى تحوّل واقعي للإطار الدّولي الشّامل. أمّا بالنسبة للمنفعة العربية فانعكس تلاشي دور الأمم المتحدة على أصحاب قضايا المنطقة. وبات التمثيل العربي بحاجة لمراجعة واقعية. فليس من عربي واحد في مركز نافذ داخل الأمانة العامة، على عكس ما كان في السابق حين ترأس 3 من بينهم امرأة عربية، دوائر مهمة كالإعلام وإدارة الاجتماعات وصندوق التنمية السّكانية.



استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».