الشرق الأوسط في عام 2019... مسارات نهاية العقد

الشرق الأوسط في عام 2019... مسارات نهاية العقد
TT

الشرق الأوسط في عام 2019... مسارات نهاية العقد

الشرق الأوسط في عام 2019... مسارات نهاية العقد

بانقضاء العام 2019 تكون قد مرت 8 سنوات على الانتفاضات العربية عام 2011، و16 عاماً على حرب العراق، و18 على هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، وإذا شئنا التوغل أبعد، فإن هذا العام يختتم مرور 40 عاماً على ثورة إيران، وعلى الغزو السوفياتي لأفغانستان، والسلام المصري الإسرائيلي المنفرد.
وعلى مستوى المنطقة سُجل في هذا العام اندلاع 5 انتفاضات، واستمرار 4 حروب أهلية، وإجراء 3 انتخابات مفصلية.

خمس انتفاضات
الدولة الوحيدة التي شهدت عملية انتقالية واعدة هي السودان، فيما يزال النظام الحاكم في الجزائر يحاول تسويق نفسه. أما في إيران فقد توحدت أجنحة النظام لقمع الانتفاضة، مستلهمة الإرشادات التي اعتمدتها في سوريا من قبل، وامتنعت عن تقديم أي تنازلات سياسية.
في العراق ولبنان، وبعد مرور عام على الانتخابات النيابية، لم تنجح السلطتان في تحقيق أي تقدم، ووجدتا أنفسهما في مواجهة جيل صاعد يتبنى سردية تستند إلى الوحدة الوطنية وتنبذ الطائفية، وتعزز القيم المدنية. وقد نجحت الانتفاضة في كلا البلدين في فرض نفسها لاعباً أساسياً، وأثرت على مساري التشكيل الحكومي، وفرضت تجديد البحث عن تنظيم انتخابات برلمانية مبكرة.
لكن الجيل الصاعد في العراق ولبنان ما زال يواجه تحدياً كبيراً يتمثل في تحويل اللحظة التاريخية الثورية الواعدة إلى حركة سياسية مستدامة، تستطيع أن تنتزع حصة لها في الحكومة والمجلس النيابي.

أربع حروب أهلية
رغم أن الحل السياسي في اليمن ما زال بعيد المنال، فإن تقدماً مهماً تحقق على طريق الاتفاق بين حكومة عبد ربه منصور هادي والمجلس الانتقالي الجنوبي، فيما تراجعت حدة التصعيد بين الحوثيين والمملكة العربية السعودية.
لكن القسط الأوفر والأعنف من التصعيد شهدته ليبيا. وقد تلقى الجنرال خليفة حفتر جرعة دعم دولية إضافية، تمثلت بإرسال روسيا قوات خاصة لدعم قواته التي تهاجم العاصمة طرابلس، فيما لم تتلقّ حكومة الوفاق في طرابلس، المعترف بها دولياً، إلا وعداً يتيماً بالدعم من قبل تركيا.
وإذا صحت الحسابات الروسية، فقد يتمكن الجنرال حفتر من تحقيق انتصارات، وتتمكن روسيا، عبره، من تأمين حضور أساسي لها في شمال أفريقيا والضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط.
في يوميات الحرب السورية، بقيت الجهود الروسية لإحراز تقدم في مناقشات اللجنة الدستورية، مجرد عرض هامشي. مسرح التطورات الرئيسية تموضع في شمال شرقي سوريا حيث شكل الغزو التركي في هذه المنطقة الحدث الأكثر أهمية. وهو الحدث الذي مكّن أنقرة من إنشاء منطقة آمنة تحت سيطرتها. كما شهد هذا الجزء من سوريا أيضاً نجاح قوات النظام السوري وحلفائه في إعادة الانتشار في بعض المناطق. أما في إدلب فقد راوحت محاولات النظام وحلفائه لاستعادتها في إطار الكر والفر، ولم تحقق تقدماً ملموساً.
في أفغانستان كان المشهد الرئيسي هو المفاوضات بين الولايات المتحدة وحركة «طالبان». وقد بدت المحادثات على وشك النجاح لعدد مرات في النصف الثاني من العام المنقضي، لتعود حظوظ النجاح إلى التراجع مرة أخرى.

ثلاثة انتخابات مفصلية
مسارح هذه الانتخابات شهدتها تركيا وإسرائيل وتونس.
في تركيا، خسر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مرتين الانتخابات البلدية في المدن الرئيسية في البلاد. وهذه الخسارة هي مؤشر جدي إلى بداية غروب زمن هيمنته على السلطة، رغم أن رحلته إلى الأفول النهائي قد تستغرق بضع سنوات.
وفي جهة أخرى من المنطقة، يبدو أن نتائج الانتخابات - وكذلك لوائح الاتهام – سرعت من رحلة بنيامين نتنياهو نحو الأفول. رغم أنه ما زال قادراً على اتخاذ بعض القرارات الصادمة. وقد تشمل هذه القرارات ضم أجزاء من الضفة الغربية.
جرت الانتخابات المهمة الثالثة في تونس؛ حيث واصلت تلك البلاد انتقالها الديمقراطي. وتوجت نتائج هذا الانتقال بانتخاب أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد للرئاسة، وهذا على الرغم من الصعوبات الاقتصادية الكبيرة التي ما زالت تواجه تونس، واستمرار التهديدات التي تشكلها المجموعات الجهادية داخل البلاد.

ديناميات إقليمية: تركيا وإيران وإسرائيل
ودول مجلس التعاون الخليجي
وجّه التوغل التركي في شمال شرقي سوريا ضربة قاصمة للأحلام الكردية في سوريا، ولمصداقية الولايات المتحدة في الوقت نفسه، بعدما ألقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأكراد تحت عجلات الحافلة التركية.
تنامى التصعيد الإيراني ضد واشنطن وحلفائها في المنطقة بشكل خطير، تمثلت ذروته بالهجوم بطائرات مسيرة وصواريخ كروز على شركة «أرامكو السعودية». وبدءاً من شهر ديسمبر (كانون الأول)، انتقل التصعيد إلى العراق. ونفذت الميليشيات العراقية هجمات على القوات الأميركية، من دون أن تواجه بأي رد.
على صعيد الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، برزت تساؤلات مشروعة حول مصير عملية السلام، وإذا كان صعود نجم بيني غانتس، وأفول نجم نتنياهو قد يفتحان طريقاً جديداً نحو الحل.

المسرح الدولي: روسيا والصين والإدارة الأميركية
إرسال روسيا قوات خاصة إلى ليبيا لدعم الجنرال حفتر قد يوفر لها موطئ قدم في شمال أفريقيا، ويعزز حضورها في الإقليم بعدما ثبتت وجودها في سوريا وعززته.
لكن الدولة التي يجدر الانتباه جيداً إلى ما يجري فيها هي العراق. فهناك، ما زال وكلاء إيران يصعدون ضغطهم على الولايات المتحدة. وأخذاً لأهواء الرئيس الأميركي دونالد ترمب في اعتبارنا، فإن احتمال سحب واشنطن لقواتها من العراق في المستقبل المنظور هو احتمال جدي. وقد تنجح موسكو مدعومة من طهران في ملء بعض الفراغ الذي قد تتركه واشنطن وتعزز موقعها في المنطقة أكثر وأكثر.
من جهتها، استمرت الصين في لعبتها ذات النفس الطويل، وما زالت تركز على العلاقات التجارية وشؤون الطاقة، وتقديم القروض والاستثمار الطويل الأجل في البنى التحتية، على الصعيدين المادي والافتراضي (التكنولوجي) في المنطقة. وتعمل على نسج خيوط متينة تربط الشرق الأوسط بالعملاق الأوراسي المستقبلي، وعاصمته الصين.
أميركياً، كان 2019 عاماً آخر للاضطراب السياسي. ما زال ترمب يقرأ في صفحة مختلفة عن الصفحة التي يقرأ فيها معظم مستشاريه. في سوريا، فاجأ ترمب مستشاريه بتخليه عن الأكراد، وفي ليبيا، أبدى ميله للجنرال خليفة حفتر علناً. وفيما ‏يتعلق بإيران حافظ ترمب على أقصى قدر من حملة الضغط، لكنه قاوم نصائح مستشاريه ولم يرد عسكرياً على هجمات إيران ووكلائها في الخليج.
‏على صعيد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، اندلعت نزاعات بين إسرائيل والجماعات المسلحة في غزة مرتين هذا العام. ولم تخف حدة الحصار على القطاع للعام الثاني عشر على التوالي؛ حيث يعيش مليونا شخص في ظروف مروعة، وفي هدنات قصيرة تفصل بين نزاع مسلح وآخر. وعلى المستوى السياسي، أهيل تراب إضافي على عملية السلام. حيث اعترفت الولايات المتحدة بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان السورية، وأعلنت أن المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية في الضفة الغربية، لم تعد غير قانونية بالنسبة للولايات المتحدة. أما «صفقة القرن» الغامضة التي أعلنت عنها واشنطن فبقيت مجرد شائعة ولم ترقَ إلى مرتبة الحقيقة.
ختاماً، ومع نهاية هذا العام الذي يقفل الباب على عقد حافل، دعونا نأمل أن تفتتح السنة المقبلة عقداً جديداً يحمل في طياته تطورات إيجابية، تفتح الباب أمام مستقبل أفضل لشعوب هذه المنطقة.

* كاتب وأكاديمي لبناني - رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.