نحو رؤية أكثر موضوعية

فولتير
فولتير
TT
20

نحو رؤية أكثر موضوعية

فولتير
فولتير

لا أعتقد أن فولتير كان مخطئاً عندما قال «إن المنطق المألوف لم يعد مألوفاً بين العامة»، وهي جملة تهكمية من الطراز الأول، تؤكد على الحياد الواسع عن الفكر القويم في معالجتنا للأمور والأشخاص والتفاعل اليومي معهما، وكل ما نحتاج إليه هو التركيز أمام الفضائيات، وعلى رأسها بعض القنوات الإخبارية، لندرك أننا أمام مشكلة متكررة في كثير من الأحيان، تكمن في التشويش على الرأي العام من خلال طرح مغالطات واستنتاجات فكرية تُخدم على أهدافها السياسية، بما يحيد بالمشاهد عن الموضوعية. ونظراً لصعوبة التعريف الدقيق لمفهوم الموضوعية المرتبط بالتطبيق المنطقي السليم للاستنباط والاستقراء، وغيرهما من أدوات تحصيل المعرفة والتحقق منها، فسنركز هنا على ما يجب تحاشيه لنكون أكثر موضوعية، وذلك بتجنب ما هو معروف باسم «المغالطات المنطقية»، التي هي نتاج لجهد ممتد لفلاسفة عظماء، على رأسهم أرسطو.
ولعل أكثر هذه المغالطات شيوعاً هي «الحجة على الذات Ad Hominem»، وتحدث عندما نبعد عن مضمون الحجة، فنهاجم أو نؤيد صحتها استناداً لقائلها، فإذا ما كرهنا شخصاً رفضنا رؤيته، والعكس صحيح. وهنا، نحيد عن الموضوعية تماماً، استناداً لرؤى شخصية لا علاقة لها بصحة المقولة، فنرفض حقيقة علمية مثلاً لأن قائلها على غير هوانا السياسي. وعلى مستوى أوسع، فهناك مغالطة «الحجاج الجماهيري»، وتحدث عندما نستخدم الاعتقادات العامة لدى الأغلبية كسند منطقي لقبول طرح أو رفضه، فقبول فئة عريضة من الشعب لفكرة ما ليس معناها أنها فكرة سليمة، وهي مغالطة نراها كثيراً عند مشاهدة البرامج الإخبارية، خصوصاً في المجتمعات التي تمر بالثورات.
وتؤكد مغالطة «تجاهل الموضوع» الخطأ الذي نقع فيه بتجاهل عناصر صحة الموضوع، واتصالها بالاستنتاج الذي وصلنا إليه، وكثيراً ما يقترفها الساسة والمؤلفون عند التحدث إلى الحشود، وتهدف إلى تضليل المتلقي عن الاستنتاج، بإغراقه بمعلومات ثم الخروج باستنتاج مختلف تماماً عن خط سير متن السرد. أما مغالطة «الحجة بالسلطة»، فتشير إلى التحجج بسلطة معنوية أو سياسية لإقرار استنتاج محدد وإصباغ الحقيقة عليه، ولعل الله سبحانه وتعالى قد أورد في كتابه العزيز مثالاً لهذه المغالطة عند الكفار في قوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شيئا وَلَا يَهْتَدُونَ». وهنا، يخاطبهم القرآن لرفض هذه الحجية لأن آبائهم غير موضوعيين، ومن ثم لا يجب اتباع عقيدتهم لمجرد أنها جاءت من سلطة الآباء.
وتشير مغالطة «الحجية بالتهديد باستخدام القوة Ad Baculum» إلى قبول صحة المقولة استناداً إلى التهديد المباشر، وهو ما حدث على سبيل المثال مع العالم الفلكي «برونو» في القرون الوسطي، عندما طالبته الكنيسة بأن يعلن مغالطته العلمية بأن الأرض تدور حول الشمس، وعندما رفض التهديد تم إحراقه حياً. وهنا، فإن منطقية الاكتشاف العلمي لم تقابله الكنيسة بالموضوعية، بل بالتهديد بالقوة ثم اللجوء إليها.
وتعد مغالطة «الحجية بالعاطفة Misericordiam» أكثر الأنواع شيوعاً، عندما تلجأ قناة لاستخدام عاطفة المشاهد لنقل رسالتها دون الاستناد إلى الموضوعية، فتبرز على سبيل المثال مشهداً درامياً يؤثر فيناً، فتركبه على أهدافها السياسية لجذب التعاطف، أما مغالطة «المصادرة على المطلوب» فهي نوع شائع من المغالطات الفكرية المبنية على المجادلة الدائرية، وهي تحدث عندما نضع الاستنتاج في الأول، ونجادل على أساسه لنصل إليه، ولعل أكثر الأمثلة شيوعاً تحدث عندما نقول على سبيل المثال: «إن أفضل كاتب هو فلان لأن كتبه هي الأكثر مبيعاً»، فنحن هنا نضع الاستنتاج أولاً، ونبرر صحته بمبرر قد لا يكون ضرورياً أو منطقياً.
كذلك فإن «مغالطتي القسمة والتكوين» منتشرة أيضاً على النحو نفسه، فالأولى تحدث عندما نربط الجزء بالكل، فنقول مثلاً: «إن السيارة ثقيلة الوزن، وبالتالي فكل مكوناتها ثقيلة»، وهذا غير صحيح لأن بعض المكونات قد تكون خفيفة. والعكس يحدث في مغالطة التكوين، عندما نقول مثلاً: «إن كل اللاعبين عظماء، ومن ثم فالفريق عظيم»، وهذا غير ضروري فقد يكون كل لاعب عظيم، ولكنهم كفريق غير متفاهمين.
ومن المغالطات الشائعة إعلامياً مغالطة «الأسئلة المركبة»، وهي تحدث عندما نفرض على البعض سؤالاً، ونجبره على الرد إما بالنفي أو الإيجاب بما يخفي أو يُلبس الحقيقية، فالاستدلال سيكون خاطئاً بما قد يدفعنا إلى استنتاج خاطئ تماماً، ومثال ذلك عندما نسأل شخصاً بالرد سلباً أو إيجاباً على سؤال: «هل أقلعت عن التدخين؟» فلو أجاب بنعم فهذا معناه أنه كان مدخناً من قبل فأقلع، ولو نفى فهذا معناه أنه لا يزال مدخناً، بينما الحقيقة هي أنه لم يكن مدخناً قط، وهذا النوع من الاستجواب كثيراً ما يُستعان به خلال المحاكمات، أو عندما نريد أن نفرض حجية معينة عنوة.
لقد دارت كل هذه المغالطات وغيرها في ذهني أمام بعض الفضائيات ورسائلها المُبطنة، وهو ما يدفعنا لأهمية تشييد دفاعاتنا الفكرية لنشكل رؤية أكثر موضوعية ودقة في حُكمنا على ما نتناوله فكرياً حتى لا نقع فريسة للمغرضين منا أو الجهلاء.



من يكشف عن الغامض وراء قصة الستينيات الأدبية؟

جمعة اللامي
جمعة اللامي
TT
20

من يكشف عن الغامض وراء قصة الستينيات الأدبية؟

جمعة اللامي
جمعة اللامي

كان هناك جيلان متزامنان في العراق الحديث، تشكلا بعد عام 1958، الأول سياسي، جاء في سياق بواكير تشكيل الدولة الهجين، أحزاباً وزمراً عسكريةً، وتوّج أخيراً بأعتى ديكتاتورية في المنطقة، والثاني ثقافي وأدبي قصصي، خاض صراعاً تقنياً وفنياً في النفق الديكتاتوري نفسه، وجاء ضمن تدرّج وتطور الريادة القصصية في سبيل ترسيخ النوع الأدبي، وكلاهما في الغالب يشتركان معاً في قاعدة الحلم الثوري، وينطلقان منها في التعبير عن سلوكهما السياسي والأدبي.

من المفارقات شديدة اللبس والتعقيد أن النزاعات الشرسة للأحزاب والتنظيمات السياسية وألويتها الأدبية في ما بينها التي أعقبت العهد الجمهوري من 1958 وحتى عام 2003، ارتبطت عضوياً بصيغة الحلم الثوري الزائف بوصفه منهجاً آيديولوجياً صارماً، يمزج بين السعي إلى تسلم إدارة الحكم وتطبيق التصورات القومية والوطنية وإغواء حركة التحرر الدولية والأممية وما سمّي بالمعسكر الاشتراكي آنذاك، الحلم الذي يفرض على الأدباء أو نصوصهم، ولا يأبه من الجانب السياسي بالعنف أبداً مهما بلغ من تنكيل وقتل وإبادات ما دام الوصول للهدف وسدة الحكم هو الأول.

محمد خضير
محمد خضير

بعد عقود من خوض التجربة المرّة، وصل العنف إلى ذراه في الصراع داخل الحلم الثوري نفسه في الغالب بين الأحزاب الثورية على وجه التحديد، سواء كانت في السلطة والمعارضة، أو قريبة منهما إلى الحد الذي شطر الأحلام الثورية في معادلة متوازنة ومتضادة ومنعكسة من العنف بينهما، بين سدة الحكم وأبواب السجون، فالاثنان الجلاد والضحية، ثوريان، يشتركان في تقمص الحلم نفسه وتبني فراديسه المنشودة وتبادل الأدوار بين السلطة والسجن، وكلاهما صادق في التعبير والسلوك، وربما كلاهما متواطئ مع الآخر في لعب الأدوار حتى أن السلوك العنفي والميليشياوي الذي تمارسه السلطة من وقت لآخر في تصفية خصومها الثوريين المعارضين على شاكلتها هو نفسه ما تمارسه الفئات المهيمنة للسجناء أنفسهم ضد بعضهم داخل أسوار السجن.

والواقع كان للجلاد أسماؤه الأدبية والثقافية المنظمّة معه مثلما كان للضحية أسماؤها التي لا تخفى، ومنهم من غادر دور الضحية وأصبح جلاداً، والعكس صحيح، وتظل قاعدة الحلم الثوري مشتركة بينهما.

في ظل هذه المفارقة الشرسة، ولد هذان الجيلان المتزامنان في الستينيات من القرن الماضي، أحدهما تمثل في ارتقاء الديكتاتورية، وثانيهما أدبي وثقافي لم يخرج عن الإجهاز الكلي على الأدب والثقافة من قبل السلطة قبل وأثناء ارتقاء الديكتاتورية، الأول، لم يتخط مخاضات القتل والتنكيل فقط إنما أوصلها إلى ذراها في الحروب والهجرة والحصارات الاقتصادية، والثاني، الجيل الأدبي الذي نشأ بين السلطة والمعارضة والسجن والمهجر وما بينهم، وشهد اصطفافاً واستقطاباً ضمنياً هنا وهناك.

في غضون ذلك، استطاع الجيل الستيني الأدبي أن يحيا ربيع النشر والانتشار في بداية السبعينات إذ كان عدد يسير من الأحزاب الثورية متحالفة بهشاشة مع السلطة، وتيسر لها عن طريق دور النشر الخاصة بها أن تصدر عدداً من المجاميع القصصية لأدباء يحسبون منها وسط احتراز ومراقبة السلطة.

وفي ظل هذه المعادلة السياسية للأدب، استفحلت أزمة هذا الجيل الأدبي والقصصي بالتعبير عن نفسه داخل المنظومة الحزبية، سواء في السلطة أو المعارضة، وشعر البعض من القاصين بأنهم سوف يفقدون النسق الإنساني كلياً في قصصهم طالما كان التعبير جارياً ومتعسفاً على وفق الحلم الثوري المنشود الذي هو مجرد تلقين لفكرة استشراف مستقبلي للناس والمجتمع، وشرعة أمل زائفة، وكان العمال والكادحون والفقراء هم إشارات سياسية ملقّنة أكثر منها مصائر واقعية في ظل مجتمع شبه تحولي بين الريف والمدينة.

جهاد مجيد
جهاد مجيد

وللخروج من هذا المأزق، طفق القاصون والروائيون محمود جنداري وجمعة اللامي ومحمد خضير وجهاد مجيد وعبد الإله عبد الرزاق وآخرون، يستخدمون التشفير والتجريد والترميز والأسطرة والمكابدة الصوفية ومحاولة استيقاف الحاضر والمستقبل الزائفين والعودة إلى الماضي بوصفه منطقة تقنية آمنة لبناء قصصهم ورواياتهم.

وعبر تلك المناورة الأسلوبية البارعة، تمكن القاصون والروائيون من التسامي والتعالي على أزمتهم السياسية والفنية، واستطاعوا على نحو معين من تضليل الرقيب المؤسساتي ونشر نتاجهم وتلقيه على مستوى عام ومقبول داخل النفق الديكتاتوري نفسه.

ولعل هذه المناورة الأسلوبية، لم تكن نابعة عبر شكلها الطبيعي ضمن سياقات نشأة ونمو القص والروي في البلاد، وحسب قدر ما كانت تخفي خلفها كواليس وندوب تعرض هؤلاء الأدباء للتنكيل والاحتواء السياسي التي كانت تمارسه المؤسسات المتسلطة بمعنى أن التقنية التي نشرت فيها مجاميع مثل «المملكة السوداء» و«لأوفيليا جسد الأرض» و«الثلاثيات» و«حكايات دومة الجندل» وغيرها كثير، تتضمن مضمراً مستتراً من حجم صراعها الفني مع الرقيب السلطوي، وبحاجة إلى الكشف والتحليل بعد سقوط الرقيب، ولا يعني ذلك الاعتراف بل وضع المعادلة الأدبية في مواقعها الصحيحة بين المجتمع والثقافة وليس قاعدة الحلم الثوري واحتكار السلطة للأدب.

بعد عام 2003 الذي يمثل نهاية الجيل الستيني السياسي، وخروج الجيل الستيني الأدبي من نفقه المعتم، لم يستعد أحد من الأدباء الستينيين إلا في حدود ضئيلة المعادلة الواقعية للأدب الحقيقي بين المجتمع والسلطة، لم يلق أحد منهم أردية النفق الآيديولوجي الخانق ويعيد وصفها على نحو جديد، يتصل بالمرجع والمحيط الأدبي الاجتماعي والإنساني حين كانت السلطات تصادره باسم الحلم الثوري السائر في رسم هزيل للانعطافات المجتمعية الموهومة المقبلة، وما كانت المرحلة التي أسدلت الستار على هذا الجيل مجرد طور زمني عابر، يمكّن الأدباء الستينيين من التواصل والإنتاج بنفس القدرة السابقة.

وإذا كان الجيل السياسي على نحو عام قد تمخض عن دنس التجربة، فإن مخاض الطهر الأدبي لدى الأدباء على نحو عام أيضاً، يساويه في نتائج الخيبة والفشل العميقين لكل التجربة اليسارية عربياً ومحلياً طالما أصيب الحلم الثوري بالإخفاق المريع، وهذا ما جعل القاص والروائي إبراهيم أحمد «وبالرغم من أنه يحسب على جيل ما بعد الستينيين»، ينظر بنفور إلى سنين الدنس، ويصب جام غضبه على الفاعلين السياسيين، فيما كشف جمعة اللامي الكبير في كتابه «مذكرات السومري» التمزقات السياسية وممارسة العنف والتنكيل داخل السجون من قبل السجناء أنفسهم.

إنها دعوة إذن لكتابة المذكرات على نحو يزيح العتمات عن الغامض وراء قصة الستينيات العراقية. بعد 2003 لم يستعد أحد من الأدباء الستينيين إلا في حدود ضئيلة المعادلة الواقعية للأدب الحقيقي بين المجتمع والسلطة