صراعات اجتماعية بمضامين ومستويات مختلفة

مسرحية «غرافيليا» لماجد الخطيب

صراعات اجتماعية بمضامين ومستويات مختلفة
TT

صراعات اجتماعية بمضامين ومستويات مختلفة

صراعات اجتماعية بمضامين ومستويات مختلفة

خلال العقدين المنصرمين، صدر للإعلامي والكاتب المسرحي العراقي ماجد الخطيب، عدد من المسرحيات الجادة والملتزمة بالدفاع عن الحريات العامة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وكشف نواقص مجتمعاتنا في الدول العربية، ونضالها ضد الأمية وعمليات التجهيل واستخدام الدين لأغراض غير إنسانية. وأكثر مسرحياته يمس واقع العراق، وما مرّ به خلال العقود الأخيرة، إضافة إلى ملامسة ذكية للاتجاهات السياسية والاجتماعية والثقافية الفاعلة والمؤثرة فيه.
وتتسم بعض مسرحيات الخطيب بالمباشرة، وبعضها الآخر يعمد إلى معالجات رمزية تساعد القراء والقارئات على التصور والتفكير والتحليل والتفسير. وآخر مسرحياته التي صدرت خريف هذا العام 2019 عن «مطبعة صناعة الإشهار»، هي مسرحية «غرافيليا»، التي تدور أحداثها في بلد مغاربي، لكنها تنطبق على واقع معظم البلدان العربية، منها العراق.
تتكون المسرحية من سبعة مشاهد مكثفة تدور بين الفنان التشكيلي، معلم الرسم، أميرو، من جهة، وبين الشخصية النموذجية التي تتبنى زوراً وبهتاناً، وفق مصالحها، التقاليد الدينية والاجتماعية البالية والمشوهة والمزيفة، إنه المعلم في مدرسة المعوقين المسماة «طيور الجنة»؛ حيث يفرض على مديرة المدرسة المسنة ثلاثة شروط لاستمرار تمويل المدرسة غربياً، وإغلاقها من جانب الحكومة، أن تفصل البنات عن الولد، وهم أطفال، أو تلغى دروس الفنون، لا سيما الرسم والموسيقى، وأن تنهي عقد معلم الرسم في هذه المدرسة، رغم الأهمية الفائقة لدراسي الرسم والموسيقى للأطفال المقعدين. ويتحقق ذلك فعلاً في بلد يعيش تحت وطأة وتأثير قوى الإسلام السياسي والتكفيري.
ثم يصطدم الفنان التشكيلي في مجرى حياته اليومية بمنغصات كثيرة، منها ما تبرّزه المسرحية، وهي تلك العلاقة المختلة بين الفنان التشكيلي وحبه للموسيقى وصاحب الدار، حيث يسكن في شقة لديه، الذي يدعي بوقاحة أن سماع الموسيقى من جاره يفسد عليه صلاته، كما تظهر الشياطين أمام زوجته عند سماعها الموسيقى فتصاب بالغثيان، حتى أنه جلب الشرطة لمنعه من الاستماع للموسيقى أثناء رسمه للوحاته.
من خلال ذلك، تعرض المسرحية في مشاهدها السبعة لصراعات تدور في المجتمع، وبمضامين، ومستويات مختلفة، منها صراع بين الفنان الشاب ومديرة المدرسة ذات السبعين عاماً، وآخر بين الفنان ومجموعة من الدجالين وباعة اللوحات الفنية، الذين لا يفقهون من الفن شيئاً، إنهم غرباء عن كل الفنون، وربما أعداء لها، لولا ارتباطها برزقهم اليومي، وثالث بين مالك الدار الذي يسكن في إحدى الشقق الفنان التشكيلي المستأجر والمحب للموسيقى في الموقف من الاستماع للموسيقى.
ثم تبرز المسرحية واقع التمايز بين هواة وباعة اللوحات الأوروبيين، الذين لا ينسون الربح، ولكنهم يفهمون في الفن التشكيلي، ويقدرون الأعمال الفنية، ويحققون ربحاً مجزياً لهم وللفنانين، وبين المهرجين من باعة اللوحات التشيلية في بلداننا.
ويمكن القول عن حوارات المسرحية، إنها خيالية تقترب من واقع الحياة، كما في حوارات الفنان التشكيلي العربي في خلوته أو في أحلامه مع فنانين كبار غادروا هذا العالم، وتركوا للعالم آثاراً رائعة، إلا أنهم في الوقت ذاته مرَّوا بتجارب مريرة ومتنوعة يحاول الكاتب تصويرها لنا، إضافة إلى الشكوى المرة التي يتحدث بها الفنان إلى جمهوره في المسرح، إنها هموم قاسية ومريرة يعاني منها كل الفنانين والفنانات في مجتمعاتنا العربية.
فحواره مع فان غوخ وبيكاسو، أو مع مايكل أنجلو، أو حوارهما النفسي مع الشاعرة وكاتبة القصة والرواية الأميركية سيلفيا بلات المكتئبة دوماً وماتت منتحرة. إنها مناجاة الفنان التشكيلي أميرو مع هؤلاء الفنانين الكبار وشكواه المرَّة التي تجسد معاناته ووضعه النفسي والعصبي، وهي معاناة كل المبدعين الحقيقيين للفنون في بلداننا المكتئبة والحزينة، أو الباكية كثيراً لما تعاني منه في حياتها اليومية.
ومن خلال هذه الحوارات، تطرح المسرحية مشكلة يعاني منها قسم من شعوب الدول العربية، وهي مشكلة الموقف من الفنون عموماً، ومنها الفن التشكيلي والنحت، وهو موقف قوى الإسلام السياسي المتطرفة في ادعائها بأن الإسلام يرفض الفنون جملةً وتفصيلاً، متجاهلة أن الفنون رافقت الإنسان منذ وجوده على الأرض، وأن الطبيعة هي أم الفنون.
والجميل أن ترافق النص المسرحي مجموعة قيمة من اللوحات التشكيلية للفنان المراكشي - البغدادي طه سبع، التي تعبر بصدق عن جملة من إشكاليات الإنسان في الدول العربية، المبتلاة بعلاقات اجتماعية تعيد إنتاج نفسها، لأن علاقات الإنتاج فيها لم تتغير منذ مئات السنين، فظلت مفاهيم القرون الوسطى البالية معشعشة في عقول الكثير.
وتحمل اللوحات عناوين روايات وكتب عالمية مشهورة تبدأ بـ«يوميات عبقري» لسلفادور دالي في الغلاف، و«أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، وتنتهي بـ«الخبز الحافي» لمحمد شكري و«الشيخ والبحر» لأرنست همنغواي.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».