«جيران العالم»...مختارات شعرية جديدة لريتسوسhttps://aawsat.com/home/article/1954321/%C2%AB%D8%AC%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%C2%BB%D9%85%D8%AE%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%B4%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D9%84%D8%B1%D9%8A%D8%AA%D8%B3%D9%88%D8%B3
صدرت حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، مختارات شعرية للشاعر اليوناني يانيس ريتسوس بعنوان «جيران العالم» ترجمها عن اليونانية وقدم لها الدكتور خالد رؤوف. عنوان المختارات مأخوذ من أحد دواوين ريتسوس، وتضم نماذج من أشعاره على مدار رحلته الشعرية، واعتمدت على كتاب شعري ظهر للنور عام 2000 قدمت له الباحثة اليونانية خريسا بروكوباكي، وضمنته مجموعة من قصائد ريتسوس اختارتها من دواوين عدة غطّت مراحل متباينة في حياته الشعرية، وصدرت عن دار «كذروس» باليونان... سعت بروكوباكي لتقديم بانوراما للمراحل الشعرية والتاريخية وكذلك الشخصية التي مر بها ريتسوس، بدءاً من ديوانه «تراكتور» والذي اختارت منه قصيدة «جرارات» المكتوبة عام 1934. وامتد اختيارها حتى عام وفاته 1990 والذي شهد صدور مجموعة شعرية عنوانها «متأخراً جداً في منتصف الليل»، ومنها اختارت بروكوباكي عدداً من المقاطع القصيرة جاءت تحت عنوان «أشياء صغيرة». لم تغطِّ المختارات كل إنتاج الشاعر اليوناني، فقد ترك قبل وفاته خمسين عملاً شعرياً ما زالت في انتظار النشر. لكنّ الميزة في هذه المختارات أنها تأتي عن اليونانية، وقدمها الدكتور خالد رؤوف الذي فضّل عدم الاستمرار في دراسته في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية بعد إتمام عامه الأول فيها، وسافر ليستكمل دراسته في اليونان للتعرف على الثقافة اليونانية عن قرب حيث عاش في اليونان أكثر من 10 سنوات اقترب فيها من الحضارة والمسرح والثقافة والأدب اليوناني، وأصبح مترجماً للغة اليونانية الحديثة، كما تعرّف على نمط الحياة والعادات هناك والتي تشبه طبيعة عادات وتقاليد السكندريين، ومن المعروف أن الجالية اليونانية، كانت أكبر جالية عاشت في الإسكندرية خلال القرن الماضي. في ترجمته لقصائد ريتسوس حاول رؤوف أن يقدم نسخة عربية تحمل الأفكار الموجودة في النصوص الأصلية، دون تحوير أو إضافة أو تدخل لا تقتضيه متطلبات الترجمة، كما سعى لأن يجعل النص المنقول للعربية يحتفظ بسماته وخصائصه الأسلوبية نفسها، الموجودة بين سطوره، بما فيها من عناصر السهولة والوضوح أو التركيب، وهي سمات تبدو واضحة بين خصائص الكتابة الشعرية لدى صاحب المختارات، وقد توخى المترجم أن تولد القصائد المنقولة للعربية في ذهن قارئها استجابة مشابهة، لتلك المتولدة في ذهن قارئ النص الأصلي. ولم يغفل رؤوف وهو يقدم مختارات ريتسوس أن يشير إلى مقدمة بروكوباكي، بل قام بترجمتها ووضعها في صدارة المختارات، وفيها طرحت الباحثة وجهة نظرها في عملها على تقديم «جيران العالم»، مشيرةً إلى أن الباحث عندما يكون بصدد إنجاز مختارات من أعمال شاعر بعظمة وعطاء وتأثير ريتسوس فإنه لا يبني اختياراته على الجمال أو الإعجاب أو الذوق الشخصي، لكن على قيمة ما تقدمه النصوص المنتخبة للشعر والأدب اليوناني والعالمي، لذا وزعت بروكوباكي اختياراتها على فترات عديدة، كما ركزت على المونولوغات الشعرية التي نشرها ريتسوس في ديوانه «البعد الرابع» الصادر عام 1956 وما بعده، أما اختيارها القصائد القصيرة فكان طبقاً للمعيار نفسه. من هنا جاءت المختارات، حسب رؤوف، معبّرةً وبعمق عن إنجازات ريتسوس الشعرية، وأشكال الشعر المختلفة والمواضيع المتعددة التي طرقها خلال ستين عاماً من الإبداع، وهي الفترة التي ركّزت عليها بروكوباكي لأنها شهدت أهم فترات نضج الشاعر. يُذكر أن الكاتب العراقي جمال حيدر الذي درس في أثينا، أصدرت له دار «أروقة» بالقاهرة عام 2017 الجزء الأول من الإعمال الكاملة لريتسوس، وقد ترجمها عن اليونانية، وقدم لها بإضاءة أدبية ضافية.
كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.
سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.
لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.
ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.
ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.
لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.
الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟
قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته
اللقاء الأخير
كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!