فضاء للغرابة خارج أسوار الحكاية

محمد أبو زيد في روايته «عنكبوت في القلب»

فضاء للغرابة خارج أسوار الحكاية
TT
20

فضاء للغرابة خارج أسوار الحكاية

فضاء للغرابة خارج أسوار الحكاية

تبدو رواية «عنكبوت في القلب» للشاعر القاص محمد أبو زيد، بمثابة «مزرعة سردية»، يقلب فيها فضاء تربته الروائية، ما بين أقصى الخرافة والفانتازيا، وأقصى الحلم بعالم واقعي مشدود لفضاء الحرية والحب، كما يختبر في غبار هذه المزرعة شخوصه، عبر سيولة زمنية ومكانية متنوعة تتشكل تحت سقفها صراعاتهم الإنسانية الصغيرة، مع ذواتهم وعالمهم المحيط، وسط وجود محفوف دوماً بمغامرات لا تكف عن التجريب وابتكار حيل وألاعيب مغوية، تصل أحياناً إلى الضجر من الكتابة نفسها بوصفها لعبة محكومة بأطر ومواضعات ذات طبيعة خاصة، وخيارات حاسمة تتعلق بماهية النوع الأدبي، وهو ما لا يكترث به، محاولاً إيجاد حالة من التفاعل، يتبادل فيها الكاتب وأبطاله والقارئ الأدوار والأقنعة على مسرح النص، ما يجعله يقترب من المفاهيم والأجناس الأدبية الجديدة، التي أفرزتها التكنولوجيا بتطورها الهائل، وأثرت على شكل الكتابة القصصية والروائية على نحو خاص.
يمهد الكاتب لعالمه بومضات سردية تتكشف من خلالها عوالم شخوصه الأثيرة وطبيعتهم: «سامي» حفار القبور، و«المملوك» الوحيد الذي فر من مذبحة القلعة الشهيرة إبان حكم محمد على، و«تأبط شراً» أحد الشعراء الصعاليك المرموقين، والحكايات الطريفة المتضاربة التي تروى عن سر تسميته بهذا الاسم، في محاولة ضمنية لموازاة عالمه الروائي بالصعلكة، والتي يرى أن أهم ما يميزها: «أن تكون عدّاءً في صحراء ممتدة، لا يوجد لها خط نهاية للسباق، النهاية الوحيدة أن تلمس سطح السماء، أو تصل إلى البحر، ما لم تمت قبل بلوغ شاطئه».
إذن ثمة وعي مسبق باللعبة الروائية، ينهض أساساً على فكرة الانفصال - الاتصال، فالشخوص بمحمولاتها ورموزها تظهر لتختفي، ثم تعاود الكرة من جديد، كما أن الكاتب نفسه، يتدخل في أشواط معينة من السياق، ليعدل مسار اللعبة ويشارك فيها، وفق سلطته كراوٍ عليم، بل يهدد بالانتقام والسخرية من أبطاله، لكنه في داخله يحنو عليهم. وينجح تحت غواية هذه الوعي في اللعب معهم، ووضعهم في إطارات محددة، حتى أنه يجردهم من طبيعتهم البشرية، فيصير «سامي» و«المملوك» ملاكين صغيرين، يقبعان فوق كتفيه عند الضرورة، وفي لحظات مصيرية، ليحفظا لوجوده المادي الواقعي نوعاً من التوازن، حتى لا يسقط في الهوة ما بين الوهم والحقيقة، كما يصير تأبط شراً ببغاءً، يراقب الحكاية، ويعلق عليها أحياناً.
في مقابل ذلك، تظل علاقة بطلي الرواية «بيبو» و«ميرفت» تراوح ما بين الحضور والغياب، فرغم ولعه بها إلى حد الجنون أحياناً، إلا أنهما لا يقعان في الحب، بل يتحايلان عليه، كأنه أصبح جزءاً من لعبة كلاهما يمارسها على طريقته الخاصة، كما أن نقاط التشابه بينهما، من حيث النشأة في بيئة قروية، وإيثارهما العيش على هامش الحياة، وعدم التورط فيها، لا تفرز سوى النزوع إلى العزلة والوحدة، لكنها عزلة هشة تشبه بيت العنكبوت، إذن فلتكن اللعبة فضاءً خاصاً للتسلية وإزجاء وقت الفراغ.
فالبطل الذي يرتكب أعمالاً خارقة للعادة، ابن مدينة البرلس الساحلية المطلة على البحر (بوسط دلتا مصر)، يرفض حياة البحر مثل أفراد عائلته، ويقرر السفر إلى القاهرة ليكمل تعليمه الجامعي، ويلتحق بالعمل بمستشفى الأمراض العقلية والعصبية، بينما يحاصره قلبه ويصبح عبئاً على جسده، فيشق صدره وينزعه منه ببساطة شديدة، فمرة يضعه بكرتونة قديمة بالشرفة، بعد أن غمره في برطمان به بعض الماء، ونثر حوله حبات مبللة من القمح، ثم بعد أيام وبعد أن عشش العنكبوت على الكرتونة يعيده إلى موضعه بصدره، ومرة يفكر أن يلقيه في صندوق قمامة، لكنه يخشى أن يعثر عليه شرطي، فيتهم بجريمة القتل العمد، ومرة يحاصره بغلالة من الطين والإسمنت، يضعها على صدره، حتى يظل قابعاً في الداخل، لا يتمدد، ولا يشكل نتوءاً يخل بوضعية جسده.
و«ميرفت» وحيدة والديها الراحلين، خريجة كلية التجارة، لا تجد وسيلة لقتل العزلة سوى اصطياد أعشاش العنكبوت من أي مكان، ووضعها في زجاجات بلاستيكية ورعايتها، كأنها تعويض عن حالة اليتم التي تعيشها.
تقبع ميرفت في ذاكرة السرد كبطلة أسيرة للكاتب عاشت كرمز ودلالة في كتبه الشعرية، وها هي تجرب الحياة داخل نمط آخر من الكتابة أقل تكثيفاً واختزالاً، يسمح لها بالتمدد والغوص أكثر، سواءً في داخلها أو عبر الواقع المعيش. حيث تراقب بفطنة وجوهها المتعددة التي أدمنتها، فعلاوة عن كونها صيادة عنكبوت، فهي عازفة أكورديون، مدمنة عمل في المطاعم، لصة البنسات الملونة، حبذا الأزرق منها، مدمنة الأشياء الغريبة، حتى أنها أنشأت موقعاً على «فيسبوك» سمته «أشياء غريبة». كما أنها خلال عملها بالمطاعم، الذي لا يتجاوز ثلاثة أشهر في كل مطعم لم تكن تهتم بأي شيء آخر سوى أنها، وكما يقول الراوي (ص 116) واصفاً المشهد على هذه النحو: «لا يلفت انتباهها في الزبائن سوى جواربهم، بعد أن تقدم الطعام للزبون، تقف في ركن بعيد، وتتسلل نظراتها على الأرض، تنظر إلى الأحذية، ومن ورائها الجوارب. تعرف الآن كل أنواعها، لدرجة أنه من الممكن أن تؤلف موسوعة عنها تحمل اسم «المآرب في علم الجوارب»: هذا جوربه مخطط، وهذا قصير، وهذا رائحته تطارد المارة في الشارع، وهذا يرتدي صندلاً. آخر زبون لفت انتباهها بشدة، حتى إنها شعرت بالتعاطف معه، كان يرتدي جورباً من لونين مختلفين.
تتنوع هذه المطاردة بين بيبو وقلبه المتمرد وطائراته الورقية الملونة على مدار الرواية، لكنه في كل مرة تحاصره الهواجس والأسئلة نفسها، وكما يقول على لسان الراوي السارد: «سعادته بعودة قلبه لم تمنعه من السؤال: نعم عاد قلبي، لكني لم أحب أحداً بعد. أليس من المفترض أن يعود قلبي عندما أشعر بالحب؟ أم أنه يعود أولاً ثم أشعر بالحب بعد ذلك؟ شعر أن الأمر يشبه سؤال الدجاجة والبيضة، أيهما أولاً، فكف عن التفكير ورفع صوته منادياً عم ممدوح كي يحضر له شاياً بالحليب».
يحاول الكاتب أن يكسر نمطية فضائه المتخيل، وسد فجوة تناقضاته، وذلك باللجوء إلى علامات وإشارات تهكمية خاطفة ذات مغزى سياسي واجتماعي، كما يلجأ لتناصات بينية يذكر فيها أسماء بعض أصدقائه من الكُتّاب والكاتبات، في مشاهد تتعلق بعملية كتابة الرواية، وتوسيع آفاق نصه السردي، وإضفاء قدر من الحيوية على مساراته وغرابة بطله «بيبو»، الذي أصبح مدمناً للمشي في أحذية الآخرين القديمة، فيفتش عنها في سلال القمامة، ويتوهم أنها تقوده إلى معرفة سيرة حياة أصحابها، سواء كانوا موتى أو أحياء، تيمناً بعبارة التقطها من الممثل الأميركي جريجوري بيك في أحد أفلامه تقول: «إذا أردت أن تعرف رجلاً امش في حذائه».
تمتد الغرابة بتراوحات متباينة إلى الشخوص الأخرى، سواء المتخيلة، المستدعاة من فضاء السينما العالمية وأفلامها الشهيرة، بخاصة شخصية «سنو وايت» أحد أشهر أبطال «والت ديزني» في فيلمه الكرتوني الشهير «سنو وايت والأقزام السبعة» فهي صديقة بيبو وزميلته بالجامعة، يرافقها في رحلة جامعية إلى أسوان، كما تذهب معه إلى السينما، وتسدي إليه نصائح الحب لعلاج قلبه الراكد في مكانه، حتى لا يصبح مثل قلبها التي تعاني من مزق ونتف تتساقط منه يومياً حول سريرها. كذلك الممثلتان الفرنسية أودري تاتو، بطلة فيلم «شيفرة دافنشي»، والبريطانية كيت وينسلت، بطلة فيلم «تايتنك»، اللتان يتعامل معهما بيبو، باعتبارهما زميلتين له في العمل، يتبادل معهما الدعابة والمزاح، كما يلتقي بهما على مقاهي وسط البلد. أيضاً هناك أصدقاؤه بالعمل: عبد الله هدهد، الذي يذهب إلى العمل طائراً متفادياً الزحام و«إتش» صاحب «جمعية جامعي أعقاب السجائر الخيرية»، وعلاء الدين، صاحب «الفانوس السحري»، وغيرهم المسكنون، بحالة من خفة الغرابة وألفتها.
يقبض الكاتب الراوي على شخوصه وكائناته، ويحركها من خلف ستار الحكي كدمي من «الماريونت»، لكن بعضها يصمد في اللعبة ويصعد، وبعضها يتحول إلى نتوء في جسد النص، بينما تبدو الأشياء نفسها، وكأنها ظلال لوجود شبحي داخل إطار محدد. برزت فيه الهيمنة للراوي السارد، على حساب حيوات المروي عنهم. ما يجعلنا إزاء لعبة سردية مشدودة أكثر لألاعيب الميديا.
لقد راهن أبو زيد في هذه الرواية على أقصى طاقات التجريب والمغامرة، لكن أشياء كثيرة مهمة لم يستطع أن يستثمرها، بشكل أكثر فعالية، فمثلاً لم نر نمواً درامياً للعزلة، سواء في إثارة مشاغل الجسد وحيواته الحميمة، خصوصاً في حياة بطلي الرواية اللذين اختارا العزلة موقفاً من الوجود، وفي التعاطي مع أسئلة الوجود بمفهوم وروح أبعد من تداعيات لعبة ترنحت ما بين التشابه والتكرار في النص.



حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

لمى الكناني في دور عزيزة
لمى الكناني في دور عزيزة
TT
20

حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

لمى الكناني في دور عزيزة
لمى الكناني في دور عزيزة

اخترت موضوعاً لهذه المقالة جزءاً صغيراً، فعلاً سردياً ربما لم يلفت انتباه كل مشاهدي «شارع الأعشى». جزء مهم لغرض المقالة، ولوجود تشابه بينه وبين عنصر آخر في المسلسل، ولأنه يشكل، أيضاً، صورة مصغرة لمقام سردي في رواية «غراميات شارع الأعشى». لا يشغل هذا الجزء سوى دقيقة وعدة ثوان من زمن سرد «عزيزة» (لمى الكناني) في الحلقة الأخيرة. وأعني «عزيزة» الصوت بلا جسد، التعليق الصوتي (voice-over)، الذي يأتي من خارج عالم الحكاية، ومن زمن غير زمن الأحداث فيها؛ وعلى نحو متقطع، يرافق المُشاهدَ من الدقائق الأولى إلى الدقائق، بل الثواني، الأخيرة من المسلسل، وليس «عزيزة» الشخصية، صاحبة «فيه شوط طق، فيه شوط مصري»، التي تعيش وتغني وترقص وتقلد سعاد حسني وتتصرف بتهور وتقع في الغرام بدون توقف في عالم الحكاية.

الصمت بعد «عرس الدم»

لو كنت عضواً في الفريق الذي يُشكِّل «المخرج الضمني» لـ«شارع الأعشى»، لجعلت الصمتَ يعقب فاجعة «عرس الدم»، مُنهياً به المسلسل، فلا يبقى في المشهد الأخير سوى صفحات دفتر مذكرات عزيزة والهواء يقلِّبها ويحركها، ثم تستقر مفتوحة وخالية من أي كتابة، في رمزية لنهاية مفتوحة، قد تطلق العنان لخيال المُشاهد ليكتب فيها النهاية التي يتخيلها، أو النهايات، فما إن يستقر على نهاية، حتى تظهر على شاشة خياله نهاية أخرى. سيكون المشاهد حينئذ في وضع يشبه إلى حد ما وضع قارئ رواية «غراميات شارع الأعشى» بنهايتها المفتوحة: «تمددت روحه (أبو فهد) في الغناء... صار وجه الجازي يظهر له من الضوء المنعكس في أعمدة الكهرباء المحاذية للشارع. يسوق سيّارته البويك على مهل... ويدخل من الشارع الملتوي متجهاً إلى بيته، وصوت الحب عالق في أذنه، ويبتسم وحده في السيارة، ويفكر في حبّة الخال السوداء ويغني وحده: (ماهقيت ان البراقع يفتنني)». وتنتهي الرواية بصوت محمد عبده. ويبقى ما يُحتمل حدوثه لـ«أبو فهد» والجازي مشرعاً للتخيلات والتآويل. أتساءل مبتسماً في هذه اللحظة، لماذا لم يختر «أبو فهد» أغنية أخرى يستمع إليها، أو لماذا لم تختر الروائية بدرية البشر أغنية مثل «أنا أشهد أن البدو حلوين حلوين/ وخفة الدم زودتهم حلاوة». وأضحك ضحكة صغيرة صامتة من الفكرة التي أخفقتُ في إبقائها خارج النص، مع الأغنية التي تعود تاريخياً إلى ما قبل زمن أحداث المسلسل بسنوات قليلة.

دفتر «عزيزة» يغري بإعادتها

أما في المسلسل، فيبدو أن الدفتر الملطخ بدم عواطف (آلاء سالم)، أوحى لـ«المخرج الضمني» فكرة إنهاء المسلسل بصوت «عزيزة» الساردة، حتى بعد أن تغادر «عزيزة» الشخصية في الداخل «شارع الأعشى»، وتغيبها ظلمة الطريق في رحلة الهروب.

اللافت أن «عزيزة» الساردة (voice-over narrator)، تبدو مختلفةً في الثواني الأخيرة. فلم تعد الذات/ الأنا الساردة التي تستمد مادة سردها وتعليقها من تجربتها، وتجارب من حولها، ومن الأحداث التي تشهدها وتتفاعل معها، كما يتجلى في الاقتباس التالي وفيه تصف، في بداية الحلقة الأولى، بدايات الأيام في حياة أسرتها: «كان يومنا يبدأ لما يُشغِّل أبوي الرادو... صوت إبريق الفواح يتداخل مع أصوات الأغاني اللي بينَّا وبينها بحور... من إذاعة لندن أصوات تملأ بيتنا وتفيض (على) شارع الأعشى».

يشعر المشاهد، و«عزيزة» تتكلم خلال الثواني الأخيرة، أنه يستمع إلى ساردة مختلفة، ساردة ذات معرفة تتجاوز الأحداث في ماضيها وماضي أسرتها، معرفة تحيط بما لم يحدث بعد، وبما يحتمل حدوثه في المستقبل، حين تعلق بنبرة تشي بتأكدها مما تقول: «بنات الأعشى باقين... حكاياتهم وأحلامهم هي اللي ما تموت... راجعين يعبون باقي صفحات دفتري... راجعين ومكملين مشوارنا... معكم». بالإضافة إلى تمدد حدود معرفة عزيزة لتبدو كساردة عليمة، يدرك المشاهد أنها، وخلال هذه الثواني بالذات، تملك وعياً ميتاقصياً، بأنها وبنات «شارع الأعشى» الأخريات شخصيات يعشن في حكاية، في عالم تخييلي، وأن حكايتهن لم تنته بعد، وأنهن عائدات في حكاية، وربما، حكايات أخرى، وتعي بذاتها ساردةً، وبأن هنالك متلقين ينصتون لما تقول، فتوجه كلامها إليهم: «راجعين ومكملين مشوارنا معكم... انتظرونا». لا أتذكر أنها خاطبت المشاهد مباشرة، وبهذه الطريقة من قبل، أو تلفظت بما يدل على وعي «ميتاقصي» بأنها والآخرين شخصيات خيالية في حكاية. في رأيي إن تلفظها الأخير فعل سردي نشاز، غير متسق نوعياً مع تعليقاتها السابقة. ربما يدل على ارتباك المخرج الضمني من ناحية، وعلى حرصه على إنهاء المسلسل بإعلان «برومو» لموسم ثانٍ من ناحية أخرى.

إلهام علي
إلهام علي

في انتظار بنات «شارع الأعشى»

سينتظر المشاهدون عودة بنات «شارع الأعشى»، ولكن هل تعود «عزيزة» الساردة، باختلافها الأخير، الذي اخترقت به أحد أعراف السرد الواقعي بإطلالتها الصوتية بإعلانٍ عن موسم ثان، يفترض ألا يعلم أحد به سوى المخرج الضمني؟ وهل تعود أيضاً بوعي ميتاقصي؟ أم أن تلك اللمحة «الميتاقصية» العابرة حدثت بدون قصد ووعي من المخرج الضمني؟

بالرغم من عنصر المفاجأة فيه، إن تحول «عزيزة» الساردة، ولو لثوانٍ في النهاية، أمر يمكن تَقَبُله إذا ما قورن بظهور الإرهابي المنشق جزّاع/منصور (نايف البحر) ومجيئه إلى «شارع الأعشى» للبحث عن أمه. ظهوره في واقع الحكاية يحدث بطريقة تشبه تطعيم شجرة بغصن من شجرة أخرى ولكن بأيدٍ غير ماهرة ومرتبكة؛ وإدخاله في عالم الحكاية متكلف وتنقصه السلاسة، وإيواؤه في بيت «أبو إبراهيم» (خالد صقر) تحت ذريعة وفاء «أم متعب» (إلهام علي) لأمه (ريم الحبيب)، واستمراراً للعب «أبو إبراهيم» دور «السنيد» (sidekick) لـ«أم متعب»، كلها أمور تتحدى قدرة المشاهد على تعطيل عدم التصديق. بدخول جزّاع فضاء وزمان الحدث ليكون حبيباً آخر لعزيزة تحقق معه حلمها في الهروب، يبدأ الترهل بالنفاذ إلى بنية المسلسل السردية والبطء إلى إيقاع حركة الأحداث إلى حد إثارة الملل في المشاهد.

تحولات صوت «عزيزة»

يشكل تحول «عزيزة» غير المسبوق إلى ساردة عليمة نقطة التقاء وتشابه بين المسلسل ورواية بدرية البشر. يُذَكر بتحول «عزيزة» الساردة بضمير المتكلم في الرواية إلى ساردة عليمة في فصول خمسة في الرواية (22، 13، 11،10 ،7). (ناقشت الموضوع في مقالة عن التقنية السردية في «غراميات شارع الأعشى»، نُشِرَت في صحيفة اليوم في 2016-05-07).

تراوح «عزيزة» في الفصول الخمسة بين سرد الشخصية (character narration) بضمير المتكلم بمحدودية المعرفة المرتبطة به تقليدياً في السرد الواقعي، والسرد العليم بضمير الغائب. فتروي في الفصل السابع، على سبيل المثال، حواراً قصيراً يدور بين الجازي ومزنة في بيت «أم متعب»، بينما هي فوق سطح بيتهم، وتنقل حواراً، لم تشهده، بين وضحى ومزنة في سوق الحريم، وكأنما تفتح في رأس ضاري كوة كالكوى الصغيرة في جدار سطح بيتهم تطل خلالها على أفكاره حين تروي: «بينما لا يجد في منزله سوى امرأة لا يلمس منها إلا حنانها، لأن قوتها الخفية تتحرك فقط في رأسها ولسانها. لا يعرف إلا هذه المرأة التي عملت طويلاً من أجلهم، فيرهقه شعوره بأنه عاجز عن تولي الأمر عنها» (الفصل 7، ص 66). ليس في هذا الفصل الذي يبدأ بصوتها «خرج والدي بعد صلاة العصر وركب سيارته، وقبل أن يدير محركها اكتشف أن مكان الراديو فارغ»، ما يدل على أن «عزيزة» تتوقف عن السرد، لتكمل الساردة العليمة المهمة. ويتكرر هذا المقام السردي في الفصول الأربعة الأخرى.

يرى عالم السرد البلاغي جيمس فيلان أن «سرد الشخصية أرض إنتاج خصبة للسرد المضاد للمحاكاة، غير الطبيعي، خصوصاً لاندلاعات المضاد للمحاكاة (antimimetic) المتفرقة داخل السرد الذي يكون المحاكي (mimetic) شفرته المهيمنة» (بويطقيا السرد غير الطبيعي، 197). يمكن القول إن اندلاعات المضاد للمحاكاة في أداء «عزيزة» بانتقالها من سرد الشخصية إلى السرد العليم هي «إفاضات/ paralepses» بلغة جيرار جينيت، أي سرود معلومات وأحداث تتجاوز محدودية معرفتها، ونقل ووصف ما لا يمكن لها إدراكه مثل أفكار ومشاعر ضاري، ليكون الناتج تمثيلاً سردياً مضاداً للمحاكاة (antimimetic narrative representation)، حسب تنظير علماء السرد غير الطبيعي مثل برايان ريتشاردسون وألبر جان. في رواية البشر، يتجاور المحاكي مع المضاد للمحاكاة، حيث يبدو الأخير تعبيراً عن تمرد على مواضعات السرد الواقعي.

هذه الكتابة حصيلة جولة ممتعة في «شارع الأعشى» في الرواية والمسلسل، وكأي كتابة لم تتسع لكل ما يراد كتابته، ما يعني أنها وكأي كتابة، أيضاً، تخلق الحاجة إلى كتابة أخرى تكملها. ربما تكون الكتابة الأخرى عن موسم ثان من مسلسل «شارع الأعشى»!

* ناقد وكاتب سعودي