«طفلان ضائعان»... سيرة الذات والمدينة

سلام إبراهيم يكتب عن وحشة المنفى

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

«طفلان ضائعان»... سيرة الذات والمدينة

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

يُنقِّب القاص الروائي العراقي سلام إبراهيم، في مجموعته القصصية الجديدة «طفلان ضائعان»، الصادرة عن دار «الدراويش» بمدينة بلوفديف البلغارية، في منجم سيرته الذاتية والعائلية، لكنه لا يتردد في الانتقال من الفضاء الذاتي المُحتشِد بالأحداث إلى الحيِّز الموضوعي الذي يُعمِّق نصهُ القصصي ويُثريه. ومَنْ يقرأ مجموعاته القصصية الثلاث ورواياته الست سيتعّرف من كثب على الأبعاد السيرية له ولأفراد أسرته، قبل أن نلمّ بسيرة مدينة الديوانية التي نشأ وترعرع فيها، وخاض غِمار حياته الثقافية والفكرية.
وتتألف هذه المجموعة من 19 قصة قصيرة، الرابعة منها تحمل عنوان «قالت لي»، مُذيّلة بملحق «جُرح الحمامة»، وهي مكتوبة في زمن العلاقة بين السارد والنصيرة، والعاشرة «أحلام منفي» تضم 3 قصص، وهي «وجهك المأمول حجّتنا»، و«معشوقتي الجنّية»، و«عاصفة هبّت من جواره وضيّعتهُ»، التي تشترك كلها بالمناخ نفسه والعلاقة ذاتها بين السارد المتزوج والمرأة. أما بقية القصص السبع عشرة فهي قائمة بذاتها، متنوعة في الأشكال والمضامين السردية، ولعل بعض أحداثها يعود إلى أواخر الستينات، فيما يمتدّ البعض الآخر ليغطّي سنوات المنفى والتوحد والعزلة التي يشعر بها السارد أو الكائن السيري الذي يتطابق كُلياً مع كاتب النصوص ومبدِعها.
ويسعى هذا المقال للتركيز على سيرة الذات والمدينة فقط، من دون أن نتطرّق إلى موضوعات أخرى كثيرة تتناولها هذه المجموعة التي تستطيع أن تشمّ فيها رائحة البيت والحارة والمدينة، سواء في الديوانية أو موسكو، أو روسكيله أو كثير من القرى الكردية في شمال شرقي العراق؛ قصص تتسيّد فيها الحواس الخمس، فرائحة الجسد في قصة «عشتار العراقية» تُذكّر السارد بروائح «الجوري والخبّاز وأعشاب البرّ التي كان يجمعها من حافات سواقي الحقول المُحيطة بالمدينة». ومع أنّ هذه القصة تقود القارئ إلى ما وراء النزعة الإيروسية، فإنها تتلاقح مع أسطورة عشتار ودموزي، لتُعيدنا إلى نبع الحُب الأول، وتمنح المتلقي متعة مضاعفة وهو يرصد التماهي العاطفي بين العاشق والمعشوقة.
وتُسلّط قصة «القدّيس» الضوء على مدينتي الديوانية وآل بدير، ففي الأولى نتجوّل مع الراوي في «الحي العصري» وسوق التجّار والمقاهي الشعبية المبثوثة في أرجاء المدينة، بينما يأخذنا السارد إلى غرفة صغيرة في دائرة زراعة «آل بدير»، لنتعرّف على الناظر التعاوني «المعارض» جاسم شبلي الذي أفنى حياته من أجل الأفكار التي آمن بها، ودفع ثمناً باهظاً في الدفاع عنها، فقد سُجن لمدة 6 أشهر لأنه تناول الورقة البيضاء ووضعها في صندوق الانتخابات، فأخذوه وسط صراخ بناته السبع وزوجته، لكنهم أخلوا سبيله بعد أن أيقنوا من براءته من الأحزاب الدينية المحظورة. يُساق السارد إلى الخدمة العسكرية، لكنه يهرب إلى الثوار في الجبل. وبعد أكثر من 20 عاماً يعود إلى «آل بدير»، ويسأل عن صديقه جاسم شبلي، فيخبره المدير بأنه استشهد في منتصف الثمانينات في المعتقل، ولم يعثروا على جثته في المقابر الجماعية المكتشَفة بعد سقوط النظام.
يُفجَع الأب السارد في قصة «طفلان ضائعان» حينما يكتشف أنّ ولده البِكر قد انغمس في العنف والمخدرات والجريمة، وينتقد نفسه بشدّة لأنه أباح له كل شيء، خصوصاً بعد أن تركه صغيراً في ظل الحرب، والتحق بالثوار في الجبل. لم يستوعب الأب المحنة التي سقط فيها ابنه حينما وجد في بيته وتحت سريره السكاكين والهراوات والأقنعة السوداء التي تستعمل في السطو، وتمنّى عند ذلك لو أنه لم يغادر مدينته الجنوبية، رغم قسوة الديكتاتورية التي لا تترك المواطن وشأنه. لم يجد هذا الأب المدحور سوى أن ينهال نطحاً ولكماً على ساق متين لشجرة حتى أدمى جبهته وقبضتيه، وحينما سأله الابن عمن أدماه، أجابه: أنتَ! وعندما عانقه بحنان هرب الكلام من بين شفتيه.
وتحظى تجربة «الأنصار» بعناية خاصة من لدن القاص سلام إبراهيم، فقد كتب عنها كثيراً من القصص والروايات التي لم تستنفد مخزونه السردي بعد. ورغم تكرار بعض الوقائع والأحداث، فإنها لم تفقد نكهتها الخاصة، وكأنّ القاص يريد أن يحفرها في ذاكرة قرائه ومتلقيه. ففي قصة «قالت لي»، يلتقي بالنصيرة «رجاء» ويفتح لها قلبه، لكنه لم يلّمح إلى زواجه من حبيبته التي تحدى من أجلها العادات والتقاليد القبلية ليقترن بها، إلاّ عندما وصلت رسالة من زوجته. كلاهما يشدّه الحنين إلى الأهل ورائحة البيت والمدينة، لكنها سبقته في التسلل إلى الفرات الأوسط، فقبضوا عليها مع شقيقها الأصغر، وضاعا في تيه الأقبية، ولم يعثروا عليهما في أي مقبرة جماعية مكتشفة بعد سقوط الديكتاتور. أما في «جُرح الحمامة»، فيتعلّق كل مَنْ في الربيئة بصبية لعوب كانت توزّع سحرها وفتنتها على الجميع، حتى أن مسؤولاً كبيراً كان يقلّد صوتها الناعم المغناج، لكننا نكتشف من دون سابق إنذار أنها قد زُفّت إلى فلّاح في قرية نائية، وأن هؤلاء المتربّصين لن يكحِّلوا أعينهم برؤيتها بعد الآن.
ويعوّل سلام إبراهيم في بناء بعض قصصه على الاستعدادات الذهنية، كما في قصة «كتابات الفجر»، ويروي لنا كيف كان يتسلل بهدوء من بين إخوته في صيف عام 1968، ويخطّ مع صديقه حيدر شعارات تُحرّض الناس على الثورة ضد الحكومة الاستبدادية. وبعد 37 سنة، يعود من منفاه الدنماركي ليتذوّق تلك النشوة العارمة، ويلتقي ببعض الأصدقاء الذين رحبّوا به وعانقوه، ومن بينهم حيدر الذي لم يتعرّف عليه لأنه كان يرتدي نظّارة سوداء، حينما خلعها شاهد الراوي حفرة صمّاء، وبعد حوار مقتضب مع ثامر الحلاق، سنكتشف أن شقيقه حيدر قد داس على لغم ولم يبعد وجهه، فأصابته شظية في عينه، لكنه بقي حياً وسُرِّح من الخدمة العسكرية. وتتمثل اللحظة الحاسمة في هذه القصة في أن الراوي قد نسي صاحبه في كتابات الفجر ولم يجنيا شيئاً، فهو مقيم في منفى بارد، وصاحبه بائع خردة بنصف قدم، وعين واحدة! وتبدو قصة «اليوم قتلوا قطّي» مختلفة عن بقية القصص، فهي تدور في فضاء دنماركي صرف، حيث يتعرّض القط «Ketti» إلى حادث سيارة، ويبقى بين الحياة والموت. وبما أنّ عائلة الراوي فقيرة لا تستطيع أن تؤمّن تكاليف الفحص والعلاج التي تقارب 1200 دولار، فعليهم أن يعطوا الطبيب إشارة بقتله كي لا يتعذب كثيراً، مع أنّ هذا القط الحميم كان ينقذ الراوي من وحدته، ويُخرجه من العزلة القاتلة التي يعيش فيها يومياً، بعد مغادرة الأولاد إلى المدرسة، والزوجة إلى عملها.
وتسرد قصة «ضحك» حياة سلام إبراهيم. فقبل 26 عاماً في عربة مترو، كاد الراوي أن ينفجر من الضحك، الأمر الذي دفع رجلاً روسياً أنيقاً جداً أن يسأل صاحب الراوي ويطلب منه الجلوس معه، لأنه الوحيد في هذا العالم الكئيب الذي يضحك ببهجة! ثمة قصص قصيرة أخرى أقرب إلى الومضات التي تلتمع في ذهن القارئ ولا تغادره بسهولة، مثل «أمي» و«الرفيق»، وسواهما من القصص المُحكَمة التي تزدان بها المجموعة.



افتتاح «مركز الدرعية» الوجهة الأولى لفنون الوسائط الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا

المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)
المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)
TT

افتتاح «مركز الدرعية» الوجهة الأولى لفنون الوسائط الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا

المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)
المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)

نحو إثراء المشهد العالمي لفنون الوسائط الجديدة عبر تقديم وجوه إبداعية من المنطقة، تجمع بين الفن، والتكنولوجيا، والابتكار، افتتح مركز الدرعية لفنون المستقبل أبوابه رسمياً، اليوم (الثلاثاء)، بوصفه أول مركز مخصص لفنون الوسائط الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، متخذاً من منطقة الدرعية التاريخية المسجّلة في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي موقعاً له.

ويأتي المركز في مبادرة تجمع بين وزارة الثقافة، وهيئة المتاحف، وشركة الدرعية في السعودية، في الوقت الذي انطلق ببرنامج متنوع يشمل أنشطة ومعارض فريدة ومبادرات تفاعلية مع الجمهور، مع التركيز على تمكين الفنانين والباحثين ومتخصصي التكنولوجيا من داخل المنطقة وخارجها، في بيئة إبداعية مجهزة بأحدث المختبرات والاستوديوهات الرقمية ومساحات العرض المبتكرة.

وقالت منى خزندار المستشارة في وزارة الثقافة السعودية إن «مركز الدرعية لفنون المستقبل يجسّد التزامنا بتطوير الإنتاج الفني المبتكر واحتضان أشكال جديدة من التعبير الإبداعي، فمن خلاله نسعى إلى تمكين الفنانين والباحثين ودعمهم لإنتاج أعمال بارزة والخروج بأصواتهم الإبداعية إلى الساحة العالمية».

وأشارت إلى أن المركز سيُوظّف مساحاته للتعاون والإبداع لترسيخ مكانة المملكة في ريادة المشهد الثقافي والتأكيد على رؤيتها في احتضان أشكال التعبير الفني محلياً وعالمياً.

من جانبه، بين الدكتور هيثم نوار مدير مركز الدرعية لفنون المستقبل أن افتتاح المركز يمثّل منعطفاً في السردية القائمة حول فنون الوسائط الجديدة، لكونه يخرج بالمرئيات والتصوّرات الإقليمية إلى منابر الحوار العالمية.

المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)

وقال: «إن المركز سيتجاوز حدود الإبداع المتعارف عليها نحو آفاق جديدة، وسيقدّم للعالم مساحة للابتكار والنقد الفني البنّاء عند تقاطع الفن والعلوم والتكنولوجيا».

وتتزامن انطلاقة مركز الدرعية لفنون المستقبل مع افتتاح معرضه الأول بعنوان «ينبغي للفنّ أن يكون اصطناعياً... آفاق الذكاء الاصطناعي في الفنون البصرية» خلال الفترة من 26 نوفمبر (تشرين ثاني) إلى 15 فبراير (شباط) المقبل، حيث يستكشف المعرض، الذي أشرف عليه القيّم الفني جيروم نوتر، تاريخ فن الحاسوب منذ نشأته في ستينات القرن الماضي وحتى يومنا الحاضر، من خلال أعمال فنية متنوعة تحمل توقيع أكثر من 30 فناناً إقليمياً وعالمياً.

وسيحظى الزوار بفرصة استكشاف أعمال من صنع قامات في الفن أمثال فريدر نايك (ألمانيا) وفيرا مولنار (هنغاريا/فرنسا) وغيرهما من المُبدعين في ميادين الابتكار المعاصر مثل رفيق أناضول (تركيا) وريوجي إيكيدا (اليابان).

وسيكون للفنانين السعوديين لولوة الحمود ومهند شونو وناصر بصمتهم الفريدة في المعرض، حيث يعرّفون الزوّار على إسهامات المملكة المتنامية في فنون الوسائط الجديدة والرقمية.

وبالتزامن مع الافتتاح، يُطلق المركز «برنامج الفنانين الناشئين في مجال فنون الوسائط الجديدة»، بالتعاون مع الاستوديو الوطني للفن المعاصر - لوفرينوا في فرنسا. ويهدف البرنامج، الذي يمتد لعام كامل، إلى دعم الفنانين الناشئين بالمعدات المتطورة والتوجيه والتمويل اللازمين لإبداع أعمال متعددة التخصصات.

وأعلن المركز عن برنامج «مزرعة» للإقامة الفنية، المخصص لفناني الوسائط الرقمية، في الفترة من فبراير (شباط) حتى أبريل (نيسان) 2025، ويهدف إلى استكشاف العلاقة بين الطبيعة والتكنولوجيا والمجتمع من خلال موارد المركز.

ويجسد مركز الدرعية لفنون المستقبل «رؤية السعودية 2030»، التي تسعى إلى تعزيز الابتكار، والتعاون العالمي، وترسيخ مكانة المملكة بوصفها وجهة رائدة في الاقتصاد الإبداعي العالمي.