«طفلان ضائعان»... سيرة الذات والمدينة

سلام إبراهيم يكتب عن وحشة المنفى

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

«طفلان ضائعان»... سيرة الذات والمدينة

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

يُنقِّب القاص الروائي العراقي سلام إبراهيم، في مجموعته القصصية الجديدة «طفلان ضائعان»، الصادرة عن دار «الدراويش» بمدينة بلوفديف البلغارية، في منجم سيرته الذاتية والعائلية، لكنه لا يتردد في الانتقال من الفضاء الذاتي المُحتشِد بالأحداث إلى الحيِّز الموضوعي الذي يُعمِّق نصهُ القصصي ويُثريه. ومَنْ يقرأ مجموعاته القصصية الثلاث ورواياته الست سيتعّرف من كثب على الأبعاد السيرية له ولأفراد أسرته، قبل أن نلمّ بسيرة مدينة الديوانية التي نشأ وترعرع فيها، وخاض غِمار حياته الثقافية والفكرية.
وتتألف هذه المجموعة من 19 قصة قصيرة، الرابعة منها تحمل عنوان «قالت لي»، مُذيّلة بملحق «جُرح الحمامة»، وهي مكتوبة في زمن العلاقة بين السارد والنصيرة، والعاشرة «أحلام منفي» تضم 3 قصص، وهي «وجهك المأمول حجّتنا»، و«معشوقتي الجنّية»، و«عاصفة هبّت من جواره وضيّعتهُ»، التي تشترك كلها بالمناخ نفسه والعلاقة ذاتها بين السارد المتزوج والمرأة. أما بقية القصص السبع عشرة فهي قائمة بذاتها، متنوعة في الأشكال والمضامين السردية، ولعل بعض أحداثها يعود إلى أواخر الستينات، فيما يمتدّ البعض الآخر ليغطّي سنوات المنفى والتوحد والعزلة التي يشعر بها السارد أو الكائن السيري الذي يتطابق كُلياً مع كاتب النصوص ومبدِعها.
ويسعى هذا المقال للتركيز على سيرة الذات والمدينة فقط، من دون أن نتطرّق إلى موضوعات أخرى كثيرة تتناولها هذه المجموعة التي تستطيع أن تشمّ فيها رائحة البيت والحارة والمدينة، سواء في الديوانية أو موسكو، أو روسكيله أو كثير من القرى الكردية في شمال شرقي العراق؛ قصص تتسيّد فيها الحواس الخمس، فرائحة الجسد في قصة «عشتار العراقية» تُذكّر السارد بروائح «الجوري والخبّاز وأعشاب البرّ التي كان يجمعها من حافات سواقي الحقول المُحيطة بالمدينة». ومع أنّ هذه القصة تقود القارئ إلى ما وراء النزعة الإيروسية، فإنها تتلاقح مع أسطورة عشتار ودموزي، لتُعيدنا إلى نبع الحُب الأول، وتمنح المتلقي متعة مضاعفة وهو يرصد التماهي العاطفي بين العاشق والمعشوقة.
وتُسلّط قصة «القدّيس» الضوء على مدينتي الديوانية وآل بدير، ففي الأولى نتجوّل مع الراوي في «الحي العصري» وسوق التجّار والمقاهي الشعبية المبثوثة في أرجاء المدينة، بينما يأخذنا السارد إلى غرفة صغيرة في دائرة زراعة «آل بدير»، لنتعرّف على الناظر التعاوني «المعارض» جاسم شبلي الذي أفنى حياته من أجل الأفكار التي آمن بها، ودفع ثمناً باهظاً في الدفاع عنها، فقد سُجن لمدة 6 أشهر لأنه تناول الورقة البيضاء ووضعها في صندوق الانتخابات، فأخذوه وسط صراخ بناته السبع وزوجته، لكنهم أخلوا سبيله بعد أن أيقنوا من براءته من الأحزاب الدينية المحظورة. يُساق السارد إلى الخدمة العسكرية، لكنه يهرب إلى الثوار في الجبل. وبعد أكثر من 20 عاماً يعود إلى «آل بدير»، ويسأل عن صديقه جاسم شبلي، فيخبره المدير بأنه استشهد في منتصف الثمانينات في المعتقل، ولم يعثروا على جثته في المقابر الجماعية المكتشَفة بعد سقوط النظام.
يُفجَع الأب السارد في قصة «طفلان ضائعان» حينما يكتشف أنّ ولده البِكر قد انغمس في العنف والمخدرات والجريمة، وينتقد نفسه بشدّة لأنه أباح له كل شيء، خصوصاً بعد أن تركه صغيراً في ظل الحرب، والتحق بالثوار في الجبل. لم يستوعب الأب المحنة التي سقط فيها ابنه حينما وجد في بيته وتحت سريره السكاكين والهراوات والأقنعة السوداء التي تستعمل في السطو، وتمنّى عند ذلك لو أنه لم يغادر مدينته الجنوبية، رغم قسوة الديكتاتورية التي لا تترك المواطن وشأنه. لم يجد هذا الأب المدحور سوى أن ينهال نطحاً ولكماً على ساق متين لشجرة حتى أدمى جبهته وقبضتيه، وحينما سأله الابن عمن أدماه، أجابه: أنتَ! وعندما عانقه بحنان هرب الكلام من بين شفتيه.
وتحظى تجربة «الأنصار» بعناية خاصة من لدن القاص سلام إبراهيم، فقد كتب عنها كثيراً من القصص والروايات التي لم تستنفد مخزونه السردي بعد. ورغم تكرار بعض الوقائع والأحداث، فإنها لم تفقد نكهتها الخاصة، وكأنّ القاص يريد أن يحفرها في ذاكرة قرائه ومتلقيه. ففي قصة «قالت لي»، يلتقي بالنصيرة «رجاء» ويفتح لها قلبه، لكنه لم يلّمح إلى زواجه من حبيبته التي تحدى من أجلها العادات والتقاليد القبلية ليقترن بها، إلاّ عندما وصلت رسالة من زوجته. كلاهما يشدّه الحنين إلى الأهل ورائحة البيت والمدينة، لكنها سبقته في التسلل إلى الفرات الأوسط، فقبضوا عليها مع شقيقها الأصغر، وضاعا في تيه الأقبية، ولم يعثروا عليهما في أي مقبرة جماعية مكتشفة بعد سقوط الديكتاتور. أما في «جُرح الحمامة»، فيتعلّق كل مَنْ في الربيئة بصبية لعوب كانت توزّع سحرها وفتنتها على الجميع، حتى أن مسؤولاً كبيراً كان يقلّد صوتها الناعم المغناج، لكننا نكتشف من دون سابق إنذار أنها قد زُفّت إلى فلّاح في قرية نائية، وأن هؤلاء المتربّصين لن يكحِّلوا أعينهم برؤيتها بعد الآن.
ويعوّل سلام إبراهيم في بناء بعض قصصه على الاستعدادات الذهنية، كما في قصة «كتابات الفجر»، ويروي لنا كيف كان يتسلل بهدوء من بين إخوته في صيف عام 1968، ويخطّ مع صديقه حيدر شعارات تُحرّض الناس على الثورة ضد الحكومة الاستبدادية. وبعد 37 سنة، يعود من منفاه الدنماركي ليتذوّق تلك النشوة العارمة، ويلتقي ببعض الأصدقاء الذين رحبّوا به وعانقوه، ومن بينهم حيدر الذي لم يتعرّف عليه لأنه كان يرتدي نظّارة سوداء، حينما خلعها شاهد الراوي حفرة صمّاء، وبعد حوار مقتضب مع ثامر الحلاق، سنكتشف أن شقيقه حيدر قد داس على لغم ولم يبعد وجهه، فأصابته شظية في عينه، لكنه بقي حياً وسُرِّح من الخدمة العسكرية. وتتمثل اللحظة الحاسمة في هذه القصة في أن الراوي قد نسي صاحبه في كتابات الفجر ولم يجنيا شيئاً، فهو مقيم في منفى بارد، وصاحبه بائع خردة بنصف قدم، وعين واحدة! وتبدو قصة «اليوم قتلوا قطّي» مختلفة عن بقية القصص، فهي تدور في فضاء دنماركي صرف، حيث يتعرّض القط «Ketti» إلى حادث سيارة، ويبقى بين الحياة والموت. وبما أنّ عائلة الراوي فقيرة لا تستطيع أن تؤمّن تكاليف الفحص والعلاج التي تقارب 1200 دولار، فعليهم أن يعطوا الطبيب إشارة بقتله كي لا يتعذب كثيراً، مع أنّ هذا القط الحميم كان ينقذ الراوي من وحدته، ويُخرجه من العزلة القاتلة التي يعيش فيها يومياً، بعد مغادرة الأولاد إلى المدرسة، والزوجة إلى عملها.
وتسرد قصة «ضحك» حياة سلام إبراهيم. فقبل 26 عاماً في عربة مترو، كاد الراوي أن ينفجر من الضحك، الأمر الذي دفع رجلاً روسياً أنيقاً جداً أن يسأل صاحب الراوي ويطلب منه الجلوس معه، لأنه الوحيد في هذا العالم الكئيب الذي يضحك ببهجة! ثمة قصص قصيرة أخرى أقرب إلى الومضات التي تلتمع في ذهن القارئ ولا تغادره بسهولة، مثل «أمي» و«الرفيق»، وسواهما من القصص المُحكَمة التي تزدان بها المجموعة.



شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.


أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
TT

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

تصدُّر بطولة فيلم افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» ليس أمراً بسيطاً، بيد أنْ يترافق ذلك مع اختيار فيلم آخر للبطل نفسه ضمن دورة واحدة، فهذه حالة لا تحدُث كثيراً في مسيرة أي ممثل. هذا ما يعيشه حالياً البريطاني - المصري أمير المصري، بطل فيلم «العملاق» الذي افتتح الدورة الخامسة للمهرجان، وحظي باهتمام واسع، وهو أيضاً بطل فيلم «القصص» للمخرج أبو بكر شوقي، أحد أبرز المنافسين في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً، ليروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل التجرية، قائلاً: «عندما تحدَّث معي الرئيس التنفيذي للمهرجان الأستاذ فيصل بالطيور عن فيلم (العملاق)، لم أكن أعرف أنه سيختاره ليكون فيلم الافتتاح. فقد كان من الممكن أن يختار فيلماً تجارياً لبطل هوليوودي مثلاً، لكنه أبدى اهتماماً بإظهار أناس مثلي على المسرح أمام نجوم عالميين مثل مايكل كين وإيشواريا راي».

ويصف المصري تلك اللحظة بأنها علامة فارقة في مسيرته، ويضيف بنبرة إعجاب واضحة: «أنا منبهر بالمهرجان، وعاماً تلو آخر نرى أنّ كلّ دورة أفضل من التي سبقتها». ويتابع موضحاً خصوصية هذا العام: «مستمتع جداً بالمرحلة الحالية التي أعيشها فنّياً، خصوصاً مع ندرة أن يحظى ممثل ببطولة فيلمين مشاركين في مهرجان بحجم (البحر الأحمر)».

أمير المصري... عام مفصلي يُبدّل موقعه بين البطولة والهوية الفنّية (المهرجان)

«العملاق»... المدرّب أم الموهبة؟

وإنما حضور المصري في «العملاق» يتجاوز مجرّد البطولة، فالفيلم نفسه يحمل تركيبة حساسة تستدعي أداءً واعياً لطبيعة الشخصية التي يجسدها: نسيم حميد، المُلاكم الذي أحدث ثورة في صورة الرياضي المُسلم في بريطانيا التسعينات، بقدر ما أثار جدلاً لا ينتهي حول علاقته بمدرّبه الأسطوري الذي يجسّد دوره النجم بيرس بروسنان. وبسؤال أمير المصري عن تقاطعات ذلك مع حياته، يرد بحماسة: «جداً... كلانا يتجاهل الآراء السلبية ويُكمل طريقه بإصرار».

ينطلق الفيلم من مشهد صغير في شيفيلد البريطانية، حيث تطلب والدة طفل في السابعة من المدرّب أن يُعلّم ابنها الدفاع عن نفسه ضدّ التنمُّر، لحظة تبدو عادية لكنها تتحوَّل إلى حجر الأساس لأسطورة. يلتقط المدرّب الموهبة من النظرة الأولى، فيأخذ نسيم مع 3 من إخوته إلى الحلبة، ليكتشف فوراً أن الطفل النحيف يحمل شيئاً لا يُدرَّس. ومن هنا يمتدّ الخطّ الزمني للفيلم عبر محطات تنقل نسيم من شوارع الحيّ إلى لقب بطل العالم، قبل أن تبدأ الانهيارات التي ستفضح هشاشة العلاقة بين المُلاكم ومدرّبه.

يطرح الفيلم بذكاء شديد السؤال: مَن هو «العملاق» الحقيقي، المدرّب أم الموهبة؟ هذا السؤال يصل ذروته في مشهد صادم يتواجه فيه الطرفان، فيقول نسيم: «هذه موهبة من الله، وعليَّ أن أستثمرها من دون أن أدين بالفضل لأحد». فيردّ المدرّب: «موهبتك بلا قيمة لو لم أكتشفها وأطوّرها طوال 16 عاماً».

ولأنّ الفيلم يعيد طرح الأسطورة على الشاشة، كان حضور نسيم حميد الحقيقي في عرض الفيلم حدثاً إضافياً، إذ ظهر المُلاكم المعتزل في المهرجان بعد سنوات من الغياب، مُبتسماً ومُتأثراً، وقال لأمير المصري: «هذا الفيلم يقول لك: (باسم الله... ابدأ مسيرة جديدة!)». وكأنّ الأسطورة سلّمت شعلتها الرمزية للممثل الذي أعاد بناءها.

المصري يتوسّط المُلاكم المعتزل نسيم حميد والرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور (المهرجان)

مرحلة جديدة... مشروعات بالجُملة

وبالنظر إلى كون الهوية الفنّية لأمير المصري وُلدت من تداخُل الثقافتين العربية والغربية، تماماً كما جاء في فيلم «العملاق»، يبدو السؤال عن تأثير هذا المزج حاضراً بالضرورة، ليُجيب بتأمّل واضح في جوهر اختياراته قائلاً: «الأهم أن أركّز على المشروع، أيّاً كان، في العالم العربي أو خارجه». ويشرح: «دائماً تشغلني الأسئلة: هل هذا العمل من شأنه تحريك شيء داخلي؟ هل يمكنه إيصال رسالة؟»، مشيراً إلى أنّ فيلم «العملاق» يأتي ضمن هذا الإطار بشكل واضح.

الزخم دفعه لاتخاذ خطوة طال تأجيلها، وهي تأسيس شركة إنتاج في بريطانيا، فيكشف: «اتجهت مؤخراً لتأسيس شركة إنتاج افتتحتها قبل نحو 3 أشهر، وأعتزم في المرحلة المقبلة أن أنفّذ أعمالاً ليست لي فقط، بل كذلك لأناس يُشبهنوني». يتحدَّث المصري عن مشروعه الجديد كأنه يضع حجر الأساس لهوية إنتاجية مقبلة تُكمِل ما بدأه أمام الكاميرا.

أمير المصري يتحدّث عن الزخم والتحوّل وبداية مشروعه الإنتاجي (الشرق الأوسط)

وعن أحدث مشروعاته، يقول: «ثمة فيلم أنهيته للتو في ألمانيا، ولو عُرض في مهرجان مثل (البحر الأحمر)، فهذا يعني أننا سلطنا الضوء على قضية مهمة جداً في موضوع لامسني جداً عندما قرأته. فيلم سيكون مهماً جداً». ورغم تحفُّظ المصري على ذكر القضية التي يتناولها، فإنّ حديثه يوحي بموضوع ثقيل لمرحلة أكثر التزاماً في خياراته السينمائية.

وفي ختام حديثه، يفتح نافذة على مشروع جديد ينتظره جمهور الدراما، مؤكداً أنه يستعدّ لبطولة مسلسل «سفّاح» مع المخرج هادي الباجوري، الذي من المنتظر عرضه عبر منصة «شاهد»، وهو عمل يستلهم من قصة حقيقية لقاتل متسلسل حصلت في قلب القاهرة، ليذهب هذه المرة نحو الغموض والعوالم السوداء.