لعبة التقمص وقناع الآخر في مرآة حلمي سالم الشعرية

يوفران للشاعر مساحة أرحب لمناورة العالم ومناوشة العناصر والأشياء

لعبة التقمص وقناع الآخر في مرآة حلمي سالم الشعرية
TT

لعبة التقمص وقناع الآخر في مرآة حلمي سالم الشعرية

لعبة التقمص وقناع الآخر في مرآة حلمي سالم الشعرية

يقترب حلمي سالم في تعامله مع الشخوص، وكيفية استدعائهم واستحضارهم في نصه الشعري، من فكرة التقمص، وأتصور أنها معول مهم ومؤثر في تجربته الشعرية، ومقوم أساس، خاصة في تعامله مع الآخر شعرياً. ولا تعنيني هنا التفسيرات المتباينة للتقمص، التي تصل به في الميثولوجيا الشعبية إلى تناسخ الأرواح، وإنما يعنيني التقمص كحيلة وأداة فنية تمكن المبدع من هضم وسبر أغوار الشخصية، واحتواء فضاءاتها وأزمنتها ومظاهرها الداخلية والخارجية، ومحاولة خلق مجالات إدراك جديدة لها في النص، تماماً مثلما يحدث على خشبة المسرح أو السينما؛ حيث يصبح التقمص علامة تميز واقتدار تكشف مقدرة الممثل على احتواء الشخصية وتجسيدها، وفي الوقت نفسه يصبح التقمص وسيلة للإقناع والإمتاع والجذب.
على ضوء ذلك، يستحضر حلمي سالم الشخوص في شعره من زوايا عدة، فأحياناً تتقاطع الشخوص بشكل عابر مع الحالة والمشهد، أو تظل قابعة كحضور معلق على هامش الإيقاع الداخلي للنص، وأحياناً تأتي كشاهد عيان يمنح النص مسحة توثيقية إنسانية، ويدعم فعالياته الرؤيوية والتشكيلية، وأحياناً تأتي لتكثيف حقول الرمز والدلالة، وأحياناً تأتي كمفتاح أو علامة للإمساك بالتجلي الأبعد والأعمق للنص، وهنا يتحول التقمص إلى قناع للنص نفسه؛ حيث يوفر للشاعر مساحة أرحب لمناورة العالم ومناوشة العناصر والأشياء. فالنص من وراء القناع يملك حيوية التصريح والتلميح، والمغامرة سواء بالطفو فوق السطح أو بالغوص في الأعماق. ناهيك عن أن القناع مسبقاً، وخارج النص، هو موضوع قائم بذاته، له محمولاته التراثية والفكرية والإنسانية المستقرة، واقتحام النص الشعري له لا يعني بالدرجة الأولى تعريته وإسقاط كل هذه المحمولات عنه، وإنما يعني احتواءه في ثوب جديد، في علاقة تضايف، تعلي من قيم المشترك الجمالي، وتعتد حتى بنوازع التغاير والاختلاف معه.
مبكراً أدرك حلمي سالم هذه الحيلة الشعرية، ورفدها ضمن حيل عديدة لإغناء مغامرته الشعرية... ففي ديوانه المبكر «الأبيض المتوسط» يستدعي صورة الناقد المعروف الدكتور عبد المنعم تليمة، أحد الروافد الأساسية التي دعمت تجربة شعراء السبعينيات في مصر. يقول حلمي في إحدى قصائد هذا الديوان معبراً عن اعتزازه وحبه للدكتور تليمة: «أشاهد الذي يجدلُ العباءة السوداء/ أسميه عبد المنعم تليمة:/ يصبُّ في جعبة القوم شيئاً من البقول/ يصنعُ الطائرَ البحري.. يطلقه في الرمادي المستطيل/ يعجنُ الصلصالَ راقصاً»، وفي الديوان نفسه يحتفي بالمغني الثوري المعروف الشيخ إمام، على هذا النحو: «سأسميه الشيخ إمام عيسى/ كعكٌ وقلة، ثريدة مباحة/ واقفٌ في سبيكة الجموع والمعذبين».
اللافت هنا أن التصريح باسم الشخص لا يؤكد معنى الحفاوة الشعرية فحسب، وإنما يؤكد في الوقت نفسه أنه أصيح حميمياً وعضوياً في النص، من دونه ربما يختل ميزان الموسيقى، وتضطرب الرؤية. وعلى العكس من ذلك، وفي إحدى قصائده من مجموعته الشعرية الأخيرة «معجزة التنفس»، يلجأ حلمي إلى التمويه على الاسم، ويستحضره من قبيل التماثل والتشابه في الحالة والظرف الحياتي الشخصي، تاركاً للقارئ حرية التخمين والتأويل. ففي إحدى قصائد هذه المجموعة بعنوان «خبائث الحكومات» يستدعي الشاعر أمل دنقل، ويحاوره من تحت عباءة المرض، مستهلاً قصيدته متضمناً إشارة خاصة لإحدى قصائد أمل الشهيرة، وهو في صراعه مع مرض السرطان يقول فيها:
«في غُرَفِ العمليات
كان نِقابُ الأطباءِ أبيض،
لونُ المعاطفِ أبيض،
تاجُ الحكيماتِ أبيضَ، أردية الراهبات
الملاءاتُ،
لونُ الأسرة، أربطة الشاشِ والقُطْن»
يقول حلمي سالم: «قال عازفٌ من قبل: تاج الحكيمات أبيض، فأخذته الحكيمات إلى حيث يعرف... وحيث يشكر زرقاء اليمامة على نبوءتها، ويعتذر لها عن غباء الذين لم يسمعوا النُّصح».
يقترن الحضور المستتر لأمل دنقل هنا بحضور سؤال مكثف من نوع خاص، يختصر مساحة الخلاف بينهما، ويعزز من قيمة المشترك، سواء على المستوى الشعري أو الإنساني، فكلا الشاعرين تعرض لمحنة متشابهة ومريرة مع المرض، ورحلا وهما في أوج عطائهما الشعري. ورغم ذلك لا يزال السؤال معلقاً بينهما، يتسلق أسوار الذاكرة والحلم.
في سياق القصيدة نفسها، وأيضاً على سبيل التلميح، يستدعي صورة الفنان التشكيلي عدلي رزق الله، وهو أيضاً عانى من محنة المرض حتى رحيله... يقول عنه: «وقال عازف من قبل: أنا المائيات، فقاسمته عمره: الوردة، والنخلة، وتمْرُ والكنيسة، وشهاداتُ الغضب. هربتْ كل لوحة بجزء من فتاها، حتى لم يعد للفتى من نفسه قطعة»... إن استحضار الشخصية في نموذج أمل ورزق الله لا ينفصل عن عالمها ومفرداتهما الخاصة، فهي تحضر في النص مغفورة به، ومغمورة فيه، وتنحصر مهمة النص في خلق مجالات إدراك جديدة لها، في استضافتها والاحتفاء بها على شرف النص نفسه، بينما في نموذج تليمة والشيخ إمام، نجد النص نفسه هو الذي يسبغ عليهما شارات الحفاوة، وكأنهما قلادتان تزينان معصمه. لذلك يغلب على حضورهما في النص سمت السكون والثبات، على عكس الحيوية والحركة التي يتسم بها حضور أمل ورزق الله، وربما في هذا مؤشر على كيفية نضج التجربة والخبرة شعرياً، وتنوع تقاطعات مساراتها في مسيرة الشاعر نفسه.
ومن بين أعمال حلمي سالم الشعرية الغزيرة، يمثل ديوان «عيد ميلاد سيدة النبع» أرضاً خصبة لتكنيكات استحضار الشخوص في النص، ما بين التقمص واستخدام القناع والتضمين الإشاري الخاطف والمعارضة الشعرية، يبرز هذا على نحو خاص في المقدمة الاستهلالية للديوان، بعنوان «تحية وعرفان»، حيت يتوجه فيها الشاعر بالشكر والتحية إلى هيئات ومؤسسات وأقسام شرطة وأمكنة وشواطئ بعينها، كنوع من العرفان أو حتى السخرية، وذلك «للدور البارز الذي قامت به من أجل ظهور هذا العمل إلى دائرة الضوء»، ثم ينوه على حد قوله بأن «الشخصيات في هذا النص هي الشخصيات الواقعية عينها... فليتحسس كل منا رأسه. وليتفحص واحدنا نفسه».
فهكذا، وعلى طريقة الوخز الدرامي والتشويق يحفز الشاعر قارئه على الدخول في النص موحياً له بأنه سيكون أمام لغز، وعليه أن يفك شفراته وأسراره بطريقته الخاصة... ومن ثم، يقول في قصيدة بعنوان «نسج القمصان أثناء مرور الجنازات»، وفي إيقاع يشبه المرثية الجماعية: «تمر الجنازات أمام عينيها/ جنازة الحب وجنازة الكره/ جنازة الحب عامرة بالنعوش البيضاء وسعفات النخيل والحوامل وأطفال الكنائس الذين يخفون المعاصم خشية احتقان الطوائف/ جناة الكره عامرة بالمرابين وأشجار الزنزلخت والبيارق السوداء والعموديين والصّاغة والحاصلين على جوائز التفوق/ فتنخرط امرأة في نسج قمصان العرس/ تمر الهوادج أمام عينيها: هودج للفتاة التي طردت حرافيش العائلات من حفل الخطوبة حتى لا يغيم الطقس/ وهودج للسيد ياسين/ وهودج للجنة الإفتاء التي صادرت الوليمة/ وهودج لاكتئاب المخدر الكلي/ وهودج للأنثى التي أرسلوها للمورستان/ وهودج لأمنية المهندسات بالهودج/ وهودج لزاهية».
إن استحضار الشخوص يتم من منطق شهود العيان، ليس فقط على النص، أو اشتباكاته مع الواقع الخارجي، وإنما أيضاً على ما يمور داخل الذات من مشاعر الفقد والإحباط والأسى والمرارة. ولذلك لا يعيد النص اكتشاف الشخوص، فوجودهم محكوم بمصادفة النص نفسه، وإنما يعول عليهم كعين أخرى تطل من نافذته، قادرة على استثارة الدهشة وطرح التساؤل.
في معظم قصائد الديوان، تتكرر هذه التيمة، وكأنها الجسر الواصل ما بين الذات والموضوع، كأنها قناع النص نفسه الذي يتأبى على التقمص، ويستعصي على أن يمنح نفسه للمتلقي من باب وحيد، وكأن الشاعر يريد أن يقول لنا بشكل غير مباشر: كما أن لكل نصه تجليه وتخفيه أيضاً له شهود نفي وشهود إثبات معاً.



السعودية تحتفي بإبداعات الثقافة العراقية في مهرجان «بين ثقافتين»

يسعى مهرجان «بين ثقافتين» إلى إثراء المعرفة الثقافية عبر تجاربَ فنيّةٍ مبتكرة (الشرق الأوسط)
يسعى مهرجان «بين ثقافتين» إلى إثراء المعرفة الثقافية عبر تجاربَ فنيّةٍ مبتكرة (الشرق الأوسط)
TT

السعودية تحتفي بإبداعات الثقافة العراقية في مهرجان «بين ثقافتين»

يسعى مهرجان «بين ثقافتين» إلى إثراء المعرفة الثقافية عبر تجاربَ فنيّةٍ مبتكرة (الشرق الأوسط)
يسعى مهرجان «بين ثقافتين» إلى إثراء المعرفة الثقافية عبر تجاربَ فنيّةٍ مبتكرة (الشرق الأوسط)

تحتفي وزارة الثقافة السعودية بنظيرتها العراقية في النسخة الثانية من مهرجان «بين ثقافتين» خلال الفترة من 18 إلى 31 ديسمبر (كانون الأول) المقبل في «ميقا استوديو» بالرياض، لتقدم رحلة استثنائية للزوار عبر الزمن، في محطاتٍ تاريخية بارزة ومستندة إلى أبحاث موثوقة، تشمل أعمالاً فنيّةً لعمالقة الفن المعاصر والحديث من البلدين.

ويجوب مهرجان «بين ثقافتين» في دهاليز ثقافات العالم ويُعرّف بها، ويُسلّط الضوء على أوجه التشابه والاختلاف بين الثقافة السعودية وهذه الثقافات، ويستضيف في هذه النسخة ثقافة العراق ليُعرّف بها، ويُبيّن الارتباط بينها وبين الثقافة السعودية، ويعرض أوجه التشابه بينهما في قالبٍ إبداعي.

ويُقدم المهرجانُ في نسخته الحالية رحلةً ثريّة تمزج بين التجارب الحسيّة، والبصريّة، والسمعية في أجواءٍ تدفع الزائر إلى التفاعل والاستمتاع بثقافتَي المملكة والعراق، وذلك عبر أربعة أقسامٍ رئيسية؛ تبدأ من المعرض الفني الذي يُجسّد أوجه التشابه بين الثقافتين السعودية والعراقية، ويمتد إلى مختلف القطاعات الثقافية مما يعكس تنوعاً ثقافياً أنيقاً وإبداعاً في فضاءٍ مُنسجم.

كما يتضمن المهرجان قسم «المضيف»، وهو مبنى عراقي يُشيّد من القصب وتعود أصوله إلى الحضارة السومرية، ويُستخدم عادةً للضيافة، وتُعقدُ فيه الاجتماعات، إلى جانب الشخصيات الثقافية المتضمن روّاد الأدب والثقافة السعوديين والعراقيين. ويعرض مقتطفاتٍ من أعمالهم، وصوراً لمسيرتهم الأدبية، كما يضم المعرض الفني «منطقة درب زبيدة» التي تستعيد المواقع المُدرَجة ضمن قائمة اليونسكو على درب زبيدة مثل بركة بيسان، وبركة الجميمة، ومدينة فيد، ومحطة البدع، وبركة الثملية، ويُعطي المعرض الفني لمحاتٍ ثقافيةً من الموسيقى، والأزياء، والحِرف اليدوية التي تتميز بها الثقافتان السعودية والعراقية.

ويتضمن المهرجان قسم «شارع المتنبي» الذي يُجسّد القيمة الثقافية التي يُمثّلها الشاعر أبو الطيب المتنبي في العاصمة العراقية بغداد، ويعكس الأجواء الأدبية والثقافية الأصيلة عبر متاجر مليئة بالكتب؛ يعيشُ فيها الزائر تجربةً تفاعلية مباشرة مع الكُتب والبائعين، ويشارك في ورش عمل، وندواتٍ تناقش موضوعاتٍ ثقافيةً وفكرية متعلقة بتاريخ البلدين.

وتُستكمل التجربة بعزفٍ موسيقي؛ ليربط كلُّ عنصر فيها الزائرَ بتاريخٍ ثقافي عريق، وفي قسم «مقام النغم والأصالة» يستضيف مسرح المهرجان كلاً من الفنين السعودي والعراقي في صورةٍ تعكس الإبداع الفني، ويتضمن حفل الافتتاح والخِتام إلى جانب حفلةٍ مصاحبة، ليستمتع الجمهور بحفلاتٍ موسيقية كلاسيكية راقية تُناسب أجواء الحدث، وسط مشاركةٍ لأبرز الفنانين السعوديين والعراقيين.

فيما يستعرض قسم «درب الوصل» مجالاتٍ مُنوَّعةً من الثقافة السعودية والعراقية تثري تجربة الزائر، وتُعرّفه بمقوّمات الثقافتين من خلال منطقة الطفل المتّسمة بطابعٍ حيوي وإبداعي بألوان تُناسب الفئة المستهدفة، إذ يستمتع فيها الأطفال بألعاب تراثية تعكس الثقافتين، وتتنوع الأنشطة بين الفنون، والحِرف اليدوية، ورواية القصص بطريقةٍ تفاعلية مما يُعزز التعلّم والمرح.

بينما تقدم منطقة المطاعم تجربةً فريدة تجمع بين النكهات السعودية والعراقية؛ لتعكس الموروث الثقافي والمذاق الأصيل للبلدين، ويستمتع فيها الزائر بتذوق أطباقٍ تراثية تُمثّل جزءاً من هوية وثقافة كل دولة، والمقاهي التي توفر تشكيلةً واسعة من المشروبات الساخنة والباردة، بما فيها القهوة السعودية المميزة بنكهة الهيل، والشاي العراقي بنكهته التقليدية مما يُجسّد روحَ الضيافة العربية الأصيلة.

ويسعى مهرجان «بين ثقافتين» إلى إثراء المعرفة الثقافية عبر تجاربَ فنيّةٍ مبتكرة تستعرض الحضارة السعودية والعراقية، وتُبرز التراث والفنون المشتركة بين البلدين، كما يهدف إلى تعزيز العلاقات بين الشعبين السعودي والعراقي، وتقوية أواصر العلاقات الثقافية بينهما، والتركيز على ترجمة الأبعاد الثقافية المتنوعة لكل دولة بما يُسهم في تعزيز الفهم المتبادل، وإبراز التراث المشترك بأساليب مبتكرة، ويعكس المهرجان حرص وزارة الثقافة على تعزيز التبادل الثقافي الدولي بوصفه أحد أهداف الاستراتيجية الوطنية للثقافة، تحت مظلة «رؤية المملكة 2030».