فهم إيران... أم سوء فهمها؟

وزير خارجية بريطانيا السابق يصدر كتاباً مليئاً بالمغالطات

غلاف الكتاب  -  جاك سترو أثناء زيارته إلى إيران عام 2003 (غيتي)
غلاف الكتاب - جاك سترو أثناء زيارته إلى إيران عام 2003 (غيتي)
TT

فهم إيران... أم سوء فهمها؟

غلاف الكتاب  -  جاك سترو أثناء زيارته إلى إيران عام 2003 (غيتي)
غلاف الكتاب - جاك سترو أثناء زيارته إلى إيران عام 2003 (غيتي)

يعِد العنوان الفرعي للكتاب الجديد الذي ألفه جاك سترو بمساعدة القارئ على «فهم إيران». ومع هذا، فإن ما يحصل عليه المرء خلال 390 صفحة يمكن وصفه على أفضل تقدير بأنه سوء فهم لإيران اليوم. وهو سوء فهم منع بريطانيا، بجانب عدد من القوى الغربية الأخرى، من تطوير سياسة واقعية للتعامل مع إيران، وساهم في إطالة أمد أزمة سببها السلوك المتشدد للجمهورية الإسلامية على الساحة الدولية.
وربما ينبع سوء فهم سترو من «افتتانه المطلق» بإيران التي تسكن خياله، ويحمل سوء الفهم ذلك ثلاثة جوانب:
أولاً: يعتقد سترو لأن إيران حضارة قديمة وقدمت شعراء عظماء وتبرع بشكل خاص في صناعة السجاد وتقدم للعالم واحداً من أروع المطابخ، ولهذه الأسباب، فإنها تستحق التسامح مع النشاطات الغريبة التي تتورط فيها في عدد من المجالات الأخرى مثل احتجاز رهائن والترويج للكراهية وانتهاك حقوق الإنسان وتصدير الإرهاب تحت مسمى الثورة. ويبدو الأمر أشبه بإظهار التسامح تجاه ستالين لأن المرء يشعر بتقدير تجاه بوشكين وتشايكوفسكي ويستمتع بطبق من البورشتش الروسي. ودعونا نتساءل كيف كان سيكون الحال إذا تسامحنا تجاه هتلر لأننا نحب فريدريك شيلر وبيتهوفن وسلطة البطاطا؟ في الواقع، مسألة أن كورش الكبير كان ملكاً عظيماً، بل وربما راعى حقوق الإنسان في إيران، مثلما يشير سترو، لا يبرر القتل الجماعي للسوريين على يد جيش مرتزقة يقوده ملالي إيران ـ وهو مثال واحد على تجاوزات النظام الإيراني الحالي.
ثانياً: يدور «سوء الفهم» حول اعتقاد سترو الغريب بأن النخبة الخمينية الحاكمة تتضمن فصيلاً «إصلاحياً» يتوق لبناء علاقات وثيقة مع الأنظمة الغربية الديمقراطية، وبالتالي يجب دعمه لإلحاق الضعف بالفصيل «المتشدد» الذي يقوده «المرشد الأعلى» علي خامنئي، والتخلص منه تماماً نهاية الأمر. لكن من هم «الإصلاحيون» الذين يدعي سترو أنه اكتشف وجودهم داخل إيران؟ يذكر سترو عدداً من الأسماء منها الرئيسان السابقان هاشمي رافسنجاني ومحمد خاتمي، والرئيس الحالي حسن روحاني، والمرشحان الرئاسيان السباقان حسين موسوي ومهدي كاريبا، وكلاهما قيد الإقامة الجبرية، بجانب عدد من المسؤولين الحاليين أو السابقين من رتب أدنى، مثل محمد جواد ظريف وكمال خرازي، الذي وصفه سترو بـ«صديقي القديم» ومصطفى تاج زاده.
تكمن المشكلة هنا في أن سترو عجز عن ذكر إصلاح واحد جرى اقتراحه، ناهيك عن تنفيذه، من جانب الفصيل «الإصلاحي» المزعوم في طهران. الأسوأ من ذلك أن سترو ينسى أنه وقعت أعداد أكبر لعمليات إعدام وإلقاء قبض على أشخاص لأسباب سياسية في ظل خاتمي وروحاني عما حدث أثناء رئاسة محمود أحمدي نجاد الذي من المفترض أنه من الفصيل «المتشدد».
ثالثاً: يتضح من الكتاب أن سترو يرى أنه عند التعامل مع الجمهورية الإسلامية، ثمة خياران لا ثالث لهما: إما ابتلاع أي شيء تفعله إيران ولو على مضض، أو شن حرب شاملة ضدها.
جدير بالذكر، أن سترو كان واحداً من أقوى الأصوات المؤيدة لشن حرب لتدمير نظام صدام حسين في العراق، ولطالما أكد على أن النظام البعثي في بغداد لم تعد تجدي معه محاولات الإصلاح.
ومع ذلك، عندما ينتقل الحديث إلى الجمهورية الإسلامية، يتحول وزير الخارجية البريطاني السابق إلى حمامة سلام مسالمة تماماً، ويرى أن السبيل العقلاني الوحيد لتغيير سلوك إيران هو الاعتماد على الجهود الدبلوماسية. ويزعم سترو لنفسه بعض الفضل عما نعرفه اليوم بالخطة المشتركة الشاملة أو «الاتفاق النووي الإيراني» الذي تزعمته إدارة أوباما. وكان سترو أول من روّج لهذه الفكرة لدى وزيرة الخارجية الأميركية في رئاسة جورج دبليو. بوش، كوندوليزا رايس، عام 2006 قبل أن ينقله رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، إلى منصب آخر.
جدير بالذكر، أنه على مدار العقدين الماضيين، زار سترو إيران سبع مرات، خمس منها وزيراً للخارجية. وفي واحدة من هذه الزيارات كان جزءاً من وفد برلماني يضم لورد لامونت والزعيم الحالي لحزب العمال جيريمي كوربن الذي كان يعمل حينها لحساب قناة «بريس تي في» المملوكة للحرس الثوري الإسلامي في إيران. وفي واحدة من زياراته الخاصة لإيران، وكان برفقته زوجته واثنان من الأصدقاء، تعرض كوربن لمضايقات وجرى إخراجه من إيران نهاية الأمر على يد واحدة من الوكالات الأمنية التاسعة العاملة داخل الجمهورية الإسلامية.
ووجه سترو انتقادات للرئيس دونالد ترمب لرفضه الدبلوماسية السرية في وقت يرى زعماء إيران أي محاولة علنية للتقارب باعتبارها إهانة لنظامهم. وزعم أن «الاتفاق النووي» كان ليكتمل حال عقد مزيد من المحادثات السرية حول قضايا أخرى تهم القوى الغربية، بما في ذلك تدخل الجمهورية الإسلامية في الشؤون الداخلية لكثير من الدول العربية. ويرى سترو أن الخطة المشتركة الشاملة الأولى كان يمكن أن يتبعها الكثير من الخطط المشابهة للتعامل مع قضايا حقوق الإنسان، سعياً وراء تهميش وتقويض نفوذ «المرشد الأعلى» نهاية الأمر.
ومع ذلك، لم يقدم سترو أي دليل على أن هذا الاتفاق مختلف عن أي اتفاقيات أخرى أبرمت مع الجمهورية الإسلامية على مدار الأربعين عاماً الماضية، وسيترك تأثيراً دائماً على استراتيجية وسلوك النظام الخميني. الحقيقة أن حكام إيران الخمينيين أتقنوا دبلوماسية الخداع والتراجع. وفي أي لحظة يشعرون بوطأة ضغوط شديدة عليهم، يسارعون لتقديم تنازلات، يجري التراجع عنها لاحقاً بمجرد تخفيف الضغوط عليهم. الأهم عن ذلك، أن سترو أخفق في إدراك أن «المعتدلين» من وجهة نظره بما فيهم روحاني وخاتمي يفتقرون إلى الدعم الشعبي اللازم لتهميش خامنئي، ناهيك عن التخلص منه تماماً.
على مدار صفحات الكتاب، طرح سترو عدداً من الافتراضات تشيع بين من يطلقون على أنفسهم «محللين مختصين بالشأن الإيراني»، منها تقسيم السلطات داخل النظام الإيراني بين المسؤولين المنتخبين والآخرين غير المنتخبين. في هذا الإطار، يدعونا سترو للاعتقاد بأن خامنئي، الذي من المفترض أنه غير منتخب، يتمتع بشرعية أقل عن روحاني، مثلاً، باعتبار الأخير مسؤولاً منتخباً. ومع هذا، فإن الحقيقة أن مجلس الخبراء، المنتخب عبر التصويت الشعبي، هو من يتولى انتخاب خامنئي. في الوقت ذاته، فإن روحاني، مثل سابقيه، لم يكن باستطاعته أن يصبح رئيساً دون صدور حكم تنفيذي من «المرشد الأعلى».
أيضاً، فإن سترو خاطئ في اعتقاده بأن المجلس الإسلامي، الذي يصفه عن طريق الخطأ بأنه «المجلس الاستشاري الإيراني»، يخضع لمجلس الأوصياء الذي يصفه، عن طريق الخطأ كذلك، بأنه «صنيعة المرشد الأعلى» وحده.
وسعياً لتعزيز افتراضه بأن الملالي لديهم أحقية تكاد تكون فطرية في حكم إيران، يبالغ سترو في أهمية الدور الذي اضطلع به رجال الدين الشيعة على الساحة السياسية الإيرانية على مدار القرون الخمسة الأخيرة. على سبيل المثال، تحولت فتوى تحرم تدخين التبغ أطلقها آية الله مغمور من وجهة نظر سترو إلى حدث جلل. ومع أن رجال الدين لعبوا دوراً بالفعل في الثورة الدستورية عام 1906، لكن فقط باعتبارهم قوة فرعية. أيضاً، ساند الملالي الشاه في طرده رئيس الوزراء محمد مصدق عام 1953، حدث وصفه سترو بأنه «انقلاب» دبرته الاستخبارات البريطانية ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه). أما مسألة أن الشاه عيّن وطرد بالفعل مصدق من منصب رئيس الوزراء مرتين دون أن يتحدث أي شخص عن انقلاب، فيتجاهلها سترو تماماً.
الواضح أن سترو يمقت الشاه بهلوي ويحاول جاهداً تقديمه في أسوأ صورة ممكنة، ربما سعياً لتبرير ثورة الملالي عام 1979.
أيضاً، يبالغ سترو في الدور الذي لعبه البريطانيون في إيران. كانت النخبة الإيرانية الحاكمة الفاسدة، وبخاصة خلال العقود الأخيرة من الحكم القاجاري، قد استغلت تدخل بريطانيا وروسيا، العدوين الإمبرياليين لإيران آنذاك، ذريعةً لتشتيت الأنظار بعيداً عن فسادها وافتقارها إلى الكفاءة.
في الواقع، ليس بإمكان أي قوة أجنبية فرض إرادتها ولو على أشد الأمم ضعفاً دون مساعدة على الأقل من بعض العناصر داخل الطبقة الحاكمة بهذا البلد. وتعكس المقولة الفارسية المشهورة «كله من صنع الإنجليز!» مشاعر سخط دفينة تجاه الدور الذي لعبه البريطانيون في الشؤون الإيرانية خلال قرن.
ومع هذا، فإن هذه المقولة غالباً ما يجري استغلالها مزحةً أكثر عنها تعليقاً جاداً على أحداث تاريخية. في الواقع، لم يكن هناك قط وجود بشري بريطاني كبير في إيران. وكانت شركة النفط الأنغلو ـ إيرانية تعمل على أقل من 1 في المائة من مساحة إيران، وفي ذروة نشاطها وظفت ما يقل عن 200 من غير الإيرانيين، معظمهم من الحراس والسائقين السيخ من إقليم البنجاب. علاوة على ذلك، لم تظهر بريطانيا بين أكبر خمسة شركاء تجاريين لإيران قط، ولم تتمكن من منافسة فرنسا وألمانيا، ومنذ عام 1960، أصبحت عاجزة عن منافسة الولايات المتحدة مع اجتذاب الدول الثلاث للكثير من الإيرانيين الساعين لاستكمال تعليمهم العالي بالخارج.
وقد غزا البريطانيون إيران بالفعل، بالتنسيق مع السوفيات، عام 1941 وليس عام 1942 مثلما ذكر سترو، لكنهم لم «يحتلوا كامل إيران»، مثلما يبدو أنه يعتقد. في الحقيقة تمركزت القوات الاستطلاعية التي كانت تتألف في الجزء الأكبر منها من مجندين من الهند، داخل واحدة من خمس محليات إيرانية، وبدءاً من عام 1943 خضعت هذه القوات لقيادة أميركية حتى الانسحاب الكامل بعد ذلك بعامين. أما خرافة «المهمة الإنجليزية» فقد جرى تصميمها لإطالة أمد العداء بين الأمتين اللتين عايشتا تقلبات بين علاقات الانجذاب والكراهية مثلما الحال مع الكثير من العلاقات البشرية على مر التاريخ.
أما رواية «عزيزي عمي نابليون» التي ألفها إيرج بزشكزاد فتستخدم عبارة «هذه مهمة إنجليزية» مزحةً. والمفارقة، أنها كتبت في سبعينات القرن الماضي، وليس الأربعينات حسبما يؤكد سترو.
بوجه عام، من الممتع قراءة كتاب سترو، لكنه يتضمن الكثير للغاية من الأخطاء في سرد الوقائع، وكذلك تكهنات دون أدلة تدعمها. مثلاً، أشك في أن نجل آية الله خامنئي الثاني، مجتبى، لديه أي فرصة في خلافة والده كـ«مرشد أعلى»، حتى وإن ظل النظام قائماً. أيضاً، يبالغ سترو في مكانة آية الله ناصر مكرم شيرازي وآية الله صادق لاريجاني الذي يترأس حالياً مجلس تشخيص مصلحة النظام. ربما يشعر سترو بالإعجاب تجاه لاريجاني لقدرته على الحديث بالإنجليزية «بطلاقة»، لكنه يفتقر إلى مكانة حقيقية في إطار هيئة رجال الدين الشيعة.
جدير بالذكر، أن اللغة الأم لخامنئي الفارسية وتنتمي والدته إلى أصفهان، وثمة ادعاءات بأنه من نسل الشاعر كمال الدين إسماعيل. أما والده فمن أذربيجان ويتحدث اللغة الأذرية، واحدة من اللغات الالتائية.
يذكر أن آية الله الخميني لم تكن لديه معرفة واسعة بالفلسفة اليونانية؛ لأن معظم أعمال الفلاسفة اليونانيين، بما في ذلك أفلاطون وأرسطو التي ذكرها سترو لم تترجم بعد إلى الفارسية أو أي لغة أخرى داخل العالم الإسلامي.
كما أن بعض ادعاءات سترو غريبة لدرجة لا تستحق التعليق عليها. مثلاً، يقول: «إيران واحدة من أكثر المجتمعات علمانية، فالناس يضحكون على ما يقوله الملالي». ومع هذا، يعتقد أن الملالي سيحكمون إيران ربما إلى الأبد. ومع هذا، يقول: «تحت السطح، إيران بعيدة كل البعد عن الهدوء، فالنظام يسير باتجاه وغالبية الشعب في اتجاه آخر».
وبالنسبة لشخص يبدو منحازاً إلى صف الجمهورية الإسلامية، يعد هذا بمثابة اعتراف خطير!


مقالات ذات صلة

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

كتب لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام.

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

«هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

تعاقدت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» مع أسرة الناقد والأديب الراحل الدكتور شكري عيّاد؛ لإصدار وإتاحة مؤلفاته الكاملة ضمن خطط الهيئة لإحياء التراث النقدي العربي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

«لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

تتخذ رواية «لا مفاتيح هناك»، للروائي المصري أشرف الصباغ، من السخرية نهجاً لها، سخرية من الذات ومن العالم، ومن المدينة الكبيرة التي لا ترحم.

عمر شهريار

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».