«سيدات القمر»... رواية تستجوب المكان العُماني

«سيدات القمر»... رواية تستجوب المكان العُماني
TT

«سيدات القمر»... رواية تستجوب المكان العُماني

«سيدات القمر»... رواية تستجوب المكان العُماني

بتصور كلود ليفي شتراوس، ليس بمقدور ابن القبيلة أن يتحدث عن قبيلته، وذلك لانتفاء الحياد فيما سيقوله. حيث الارتباط العاطفي الذي يجرفه باتجاهات غير متعادلة من الوجهتين: المعرفية والوجدانية. وذلك هو ما عاندته جوخة الحارثي في روايتها (سيدات القمر). إذ بدت محاولتها واضحة للانحياز بالسرد من وظيفته الإخبارية التعليمية إلى مهمته الجمالية. فالمكان العماني كما تستذكره، ليس مجرد خلفية حاضنة لوقائع الحُبّ التي تتبدد بكثافة في الرواية لأسباب موضوعية، بقدر ما هو أحد العناصر الفاعلة والمؤثرة في تشكيل مزاج وأفكار الشخصيات، وتزمين الأحداث.
الرواية مسرودة بمنظور (سيدات) وهو ما يعني من الوجهة النقدية أن الرواية تتكئ على نزعة نسوية، ليس بالمعنى الخطابي، المحمول على نبرة المرافعات الحقوقية الصاخبة، بل بحمولات نسوية ناعمة قوامها الحسّ الأنثوي. وهذا هو ما يفسر الحضور الطاغي لثيمة الحُبّ، التي تشكل قدر المرأة في كل مفاصل الرواية. كما تفسر كثافة الفضاءات النسائية التي تتحرك فيها الشخصيات، مقارنة بالهامش الضئيل للفضاءات الذكورية. وانخفاض منسوب الوجود الأنطوقي للرجل. وهو ما يعنى أن عدسة جوخة الحارثي كانت أكثر حضورا والتصاقا بالعوالم النسائية منها بعالم الرجال. ومرد ذلك كما يبدو إلى أنها استهلت الرواية بالكتابة من داخل الحالات التي تعرفها وليس عن تلك التي تجهلها.
وهذا البعد خاصة هو الذي رفع من منسوب جاذبية الزوايا المتوغل فيها، حيث التفاصيل الدقيقة وجماليات الإحساس السردي بها، فيما جعل من الفضاءات المتكلم عنها بشكل عابر مجرد هوامش لا قيمة بنيوية لها. وهو منحى يبدو على درجة من الوضوح والإتقان التفصيلي فيما ترويه وتتلفظ به (ظريفة) العبدة الوحيدة التي يُسمح لها باقتحام عالم نساء الأسياد. حيث تستأثر بمفاصل طويلة في السرد، باعتبارها لسان القاع أو الهامش الاجتماعي، وخزان العادات والتقاليد والأمثال والطقوس الاجتماعية. لدرجة أن السرد يتحول إلى فضاء إغوائي أنثوي باعتباره حيلة سردية نسوية مضاعفة، مقابل المرور العابر للفضاء الذكوري في حرب الجبل الأخضر مثلا، أو سوق (عبرية) وهكذا.
النصوص السردية بالمجمل لا تمتلك ذلك الترتيب الهرمي التعلمي المنظم، برأي رولان بارت. وهو استنتاج ينطبق تمام الانطباق على رواية (سيدات القمر). حيث تتوفر القصدية لفرط النص. كما بدا ذلك جليا في العرض الشكلي للرواية. الذي تبدى بهيئة لوحات على شكل نُتف نصّية، يتناوب على سردها شخصيات الرواية بالإضافة إلى الراوي، بما هو امتداد لصوت جوخة الحارثي، باعتبارها الإله الخفي الذي يحرك كل شخصيات الرواية، ويحضر في كل تفاصيل النص، من دون أن يشعر القارئ بوجوده. وذلك بالتحديد هو ما أدى إلى استعصاء (حبكنة) النص، وانعدام لحظات التوتر الدرامي. إذ لا عقدة كُبرى تتبأر حولها الأحداث، التي كانت تنجدل في سلسلة من الوقائع المتتالية والحبكات متناهية الصغر بشكل خطي داخل الزمن الواقعي، المبعثرة في المتن الروائي.
هذا السرد الانبساطي إنما يعني في جانب من جوانبه انتصار جوخة الحارثي لمفهوم القصة بمعناها الحكائي، كما يبدو ذلك في سيرة السيدات العاشقات وخيباتهن في درس الحُبّ. إلا أن ذلك لا يعنى أيضا عدم وجود طبقات للنص التحتي الذي يرفد الحكاية ويقويها، فكل قصة من تلك القصص المتداخلة تعيد تركيب عالم عائلة (عزان) من منظور يخدم مراداتها الاستنطاقية للمكان ذي الطابع الذكوري. حيث يتخصب السرد بالتفاصيل المعرفية والعاطفية، التي تجسد الفضاء العماني بين عهدين، ما قبل الدولة الحديثة وما بعدها من مشاهد عصرية. كما تتورط الرواية في عرض وتفكيك البناءات القبلية والطبقية، وكذلك تقديم سجل اجتماعي ثري للعادات والتقاليد وطقوس الموت والميلاد والزواج، في الريف والبادية. حيث ارتقت الرواية إلى مستوى الوثيقة الاجتماعية، ولم تكن في وارد التأريخ على ما يبدو.
هكذا بدا النص الروائي المكتوب بمزاج وإحساس. ومفردة عمانية، وكأنه قد صُمم لإشباع خبرات القارئ الحياتية والمعرفية وتحريضه - بوعي أو لا وعي - على القيام بما يسميه أمبرتو إيكو الجولات الاستدلالية لسبر طبوغرافية المكان بمقتضى حيلة سردية بينصية، تستقرئ الفضاء العماني انطلاقًا مما يتردد كمآثر مشهدية في النص. وكل ذلك يحدث في مكان متخيل هو قرية (العوافي) التي تحتشد فيها كل عناصر المكان العماني، بعد نزع حمولاته التصنيفية. فهو النص المكاني الجامع لكل الفضاءات العمانية، ولذلك جاءت تلك الانحرافة المجازية بمثابة منبه من منبهات التخييل، المفارق للواقع والمرتد إليه في الآن نفسه.
الرواية مهندسة بلغة تعبيرية ملتصقة بالفضاءات وأحاسيس الشخصيات. بجُمل قصيرة خاطفة، وإيقاعات استرواحية بطيئة. خصوصا في بداية الرواية. عندما كانت (ميا) تتبتل بما يشبه الصلاة السرية «يا ربّي حلفت بك... حلفت لك بكل شيء. فلماذا أرسلت ولد سليمان لبيتنا؟ تعاقبني على حبّي؟». وهذا التبتل إنما جاء بعد أن رسمت جوخة الحارثي هيئة جاذبة لعلي بن خلف، أشبه ما تكون بالتمثال المنغرس بعمق في محراب العشق «حين رأت ميا علي بن خلف، كان قد أمضى سنوات في لندن للدراسة وعاد بلا شهادة. لكن رؤيته صعقت ميا في الحال. كان طويلا لدرجة أنه لامس سحابة عجلى مرقت من السماء، ونحيلا لدرجة أنّ ميا أرادت أن تسنده من الريح التي حملت السحابة بعيدا. كان نبيلا. كان قدّيسا. لم يكن من هؤلاء البشر الذين يتعرّقون وينامون ويشتمون». لكن لذة البطء السردي تلك اختفت بمجرد أن توقفت ميا عن الخياطة. عندما سألتها مرّة: «لماذا لا تخيطين يا ميا؟»، فردت عليها: «إيش أخيط والخياطين في كل مكان... وبصراحة ملّيت». حيث التلازم البنيوي ما بين التهادي الحياتي والبطء السردي.
بعد هذه اللقطة، التي تشكل فاصلا بين زمنين، بدأت الرواية تتخلى عن نسج المشاهد بلغة تفصيلية هادئة، وتسارع الإيقاع بشكل مخل. حيث تسيدت اللغة الإخبارية مشاهد الرواية. وتعطلت مفاعيل وسحرية الشخصيات المؤمكنة. ومرد ذلك يعود إلى اتساع المكان والمسافات، بعد الخروج من محدودية (العوافي) إلى رحابة (مسقط). وانتقال السرد إلى لحظة زمنية سريعة الإيقاع مؤسسة على حركة الشخصيات المستعجلة، والبيوت التي فقدت سحرانية تأثيرها بأضواء النيون، والأدوات الاستعمالية البلاستيكية، التي تحيل إلى واقع جديد بارد الملامح. الأمر الذي لم تتمكن فيه جوخة الحارثي من الإبقاء على ديمومة المتعة المترسبة في النصف الأول من قاع الرواية. وهو أداء بدا أكثر وضوحا في اللوحات المتأخرة، حيث الكتل الكلامية المفككة، والتعبيرات الكلامية المستعجلة. والمشهدية الشكلية التي تؤكد أن تشبّع الروائية بمشاهد القرية والاستمتاع باستذكارها سرديا يفوق درايتها والتصاقها باللحظة والفضاءات الجديدة.
لكل سيدة من (سيدات القمر) قصة حُبّ موجعة سببها الرجل. ليس بالضرورة من خلال حضوره الغادر، وإنما بسبب وجوده على رأس هرم بطريركية راسخة الجذور تجعله في موقع المتسلط على المرأة. وهذا هو جوهر استراتيجية النص. إذ لا وجود للمرأة خارج النظام الاجتماعي المعقد، المحتشد بالعادات والتقاليد والأعراف التي تحد من حرية المرأة على الرغم من الهامش البسيط المتأتي من التحولات التاريخية والسياسية والثقافية والاجتماعية. ولا مستقبل لأي حالة ارتواء عاطفي على ذلك القاع الاجتماعي الرجراج الذي لا يسمح باستواء قصة حُبّ. وهذا هو منطق الرواية باعتبارها الكون السردي الصغير الذي يحيط به كون واقعي حياتي أوسع وأكبر بكثير.
لا تشي الرواية بأي قراءة تأويلية ضالة، بقدر ما تستعرض مآزق الذات الأنثوية العاشقة بشكل تكراري إلى الأمام، من خلال عرض تراتبية أجيال يتغير فيها كل شيء إلا قدر المرأة مع الحُبّ. انطلاقًا من (سالمة) التي زوّجها عمها قسرا لـ(عزان) حيث انحرف فيما بعد عنها إلى علاقة جارفة مع (نجية القمر) فانفصلت عنه جسديا. ثم ابنتها (ميا) التي كانت تحلم بالزواج من (علي بن خلف) لكنها تُجبر وفق الأعراف الاجتماعية على الزواج من (عبد الله) ابن التاجر سليمان لتكمل حياتها زوجة شكلية مع زوج يعشقها لكنها لا تبادله الشعور نفسه. وهو المآل الذي صادفته حفيدتها (لندن) في علاقتها بـالشاعر المتمرد (أحمد) المتورط بعلاقة هو الآخر مع رئيسة الجماعة الأدبية في الجامعة. وهو المصير نفسه لعلاقة (خولة) بابن عمها (ناصر) حيث هجرها ليلتحق بزوجته الكندية. لتبقى قصة (أسماء) مع (خالد) استثناء في تلك السلسلة من الإخفاقات، التي تؤكد انهزام المرأة واستسلامها أمام مجتمع يتفنن في إعادة إنتاج البطريركية مهما تقدم في الزمان والمكان.
إنها رواية استجوابية لماضي وحاضر عمان، بالمعنى الحداثي للكلمة. ومن الزاوية التي ترى بها المرأة الوجود تحديدا. حيث تمدد جوخة الحارثي حكايا (السيدات) في نص يستمد قوته في البداية من شكله الجمالي، ومن ثراء مضامينه. وإن كانت واقعيته الصريحة تؤمم المعنى لصالحها بصفتها روائية مهيمنة لا متسائلة. لولا أنها تتخلى فيما بعد عن التعبيرات المسكوكة بعناية بلاغية، وعن العلامات الإشارية التي شيدت بها استهلالات الرواية إلى فكرة تلقين القارئ بما ينبغي عليه أن يستنبطه من حركية النص. وهي أدائية استدراجية لاستدماج القارئ في استراتيجية النص واعتباره جزءا من عملية بنائه. حيث اللهاث وراء قدر شخصيات معاندة للتنميط داخل النص، وسيرورة الواقع. وكأن الرواية بذلك الانحياز لقصص النساء تستنطق ذكورية المكان العماني، أو بمعنى أدق تستعمله، لتشييد لعبة تأويلية بنبرة أنثوية خافتة خالية من عنف المناقدة.
- ناقد سعودي



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.