«سيدات القمر»... رواية تستجوب المكان العُماني

«سيدات القمر»... رواية تستجوب المكان العُماني
TT

«سيدات القمر»... رواية تستجوب المكان العُماني

«سيدات القمر»... رواية تستجوب المكان العُماني

بتصور كلود ليفي شتراوس، ليس بمقدور ابن القبيلة أن يتحدث عن قبيلته، وذلك لانتفاء الحياد فيما سيقوله. حيث الارتباط العاطفي الذي يجرفه باتجاهات غير متعادلة من الوجهتين: المعرفية والوجدانية. وذلك هو ما عاندته جوخة الحارثي في روايتها (سيدات القمر). إذ بدت محاولتها واضحة للانحياز بالسرد من وظيفته الإخبارية التعليمية إلى مهمته الجمالية. فالمكان العماني كما تستذكره، ليس مجرد خلفية حاضنة لوقائع الحُبّ التي تتبدد بكثافة في الرواية لأسباب موضوعية، بقدر ما هو أحد العناصر الفاعلة والمؤثرة في تشكيل مزاج وأفكار الشخصيات، وتزمين الأحداث.
الرواية مسرودة بمنظور (سيدات) وهو ما يعني من الوجهة النقدية أن الرواية تتكئ على نزعة نسوية، ليس بالمعنى الخطابي، المحمول على نبرة المرافعات الحقوقية الصاخبة، بل بحمولات نسوية ناعمة قوامها الحسّ الأنثوي. وهذا هو ما يفسر الحضور الطاغي لثيمة الحُبّ، التي تشكل قدر المرأة في كل مفاصل الرواية. كما تفسر كثافة الفضاءات النسائية التي تتحرك فيها الشخصيات، مقارنة بالهامش الضئيل للفضاءات الذكورية. وانخفاض منسوب الوجود الأنطوقي للرجل. وهو ما يعنى أن عدسة جوخة الحارثي كانت أكثر حضورا والتصاقا بالعوالم النسائية منها بعالم الرجال. ومرد ذلك كما يبدو إلى أنها استهلت الرواية بالكتابة من داخل الحالات التي تعرفها وليس عن تلك التي تجهلها.
وهذا البعد خاصة هو الذي رفع من منسوب جاذبية الزوايا المتوغل فيها، حيث التفاصيل الدقيقة وجماليات الإحساس السردي بها، فيما جعل من الفضاءات المتكلم عنها بشكل عابر مجرد هوامش لا قيمة بنيوية لها. وهو منحى يبدو على درجة من الوضوح والإتقان التفصيلي فيما ترويه وتتلفظ به (ظريفة) العبدة الوحيدة التي يُسمح لها باقتحام عالم نساء الأسياد. حيث تستأثر بمفاصل طويلة في السرد، باعتبارها لسان القاع أو الهامش الاجتماعي، وخزان العادات والتقاليد والأمثال والطقوس الاجتماعية. لدرجة أن السرد يتحول إلى فضاء إغوائي أنثوي باعتباره حيلة سردية نسوية مضاعفة، مقابل المرور العابر للفضاء الذكوري في حرب الجبل الأخضر مثلا، أو سوق (عبرية) وهكذا.
النصوص السردية بالمجمل لا تمتلك ذلك الترتيب الهرمي التعلمي المنظم، برأي رولان بارت. وهو استنتاج ينطبق تمام الانطباق على رواية (سيدات القمر). حيث تتوفر القصدية لفرط النص. كما بدا ذلك جليا في العرض الشكلي للرواية. الذي تبدى بهيئة لوحات على شكل نُتف نصّية، يتناوب على سردها شخصيات الرواية بالإضافة إلى الراوي، بما هو امتداد لصوت جوخة الحارثي، باعتبارها الإله الخفي الذي يحرك كل شخصيات الرواية، ويحضر في كل تفاصيل النص، من دون أن يشعر القارئ بوجوده. وذلك بالتحديد هو ما أدى إلى استعصاء (حبكنة) النص، وانعدام لحظات التوتر الدرامي. إذ لا عقدة كُبرى تتبأر حولها الأحداث، التي كانت تنجدل في سلسلة من الوقائع المتتالية والحبكات متناهية الصغر بشكل خطي داخل الزمن الواقعي، المبعثرة في المتن الروائي.
هذا السرد الانبساطي إنما يعني في جانب من جوانبه انتصار جوخة الحارثي لمفهوم القصة بمعناها الحكائي، كما يبدو ذلك في سيرة السيدات العاشقات وخيباتهن في درس الحُبّ. إلا أن ذلك لا يعنى أيضا عدم وجود طبقات للنص التحتي الذي يرفد الحكاية ويقويها، فكل قصة من تلك القصص المتداخلة تعيد تركيب عالم عائلة (عزان) من منظور يخدم مراداتها الاستنطاقية للمكان ذي الطابع الذكوري. حيث يتخصب السرد بالتفاصيل المعرفية والعاطفية، التي تجسد الفضاء العماني بين عهدين، ما قبل الدولة الحديثة وما بعدها من مشاهد عصرية. كما تتورط الرواية في عرض وتفكيك البناءات القبلية والطبقية، وكذلك تقديم سجل اجتماعي ثري للعادات والتقاليد وطقوس الموت والميلاد والزواج، في الريف والبادية. حيث ارتقت الرواية إلى مستوى الوثيقة الاجتماعية، ولم تكن في وارد التأريخ على ما يبدو.
هكذا بدا النص الروائي المكتوب بمزاج وإحساس. ومفردة عمانية، وكأنه قد صُمم لإشباع خبرات القارئ الحياتية والمعرفية وتحريضه - بوعي أو لا وعي - على القيام بما يسميه أمبرتو إيكو الجولات الاستدلالية لسبر طبوغرافية المكان بمقتضى حيلة سردية بينصية، تستقرئ الفضاء العماني انطلاقًا مما يتردد كمآثر مشهدية في النص. وكل ذلك يحدث في مكان متخيل هو قرية (العوافي) التي تحتشد فيها كل عناصر المكان العماني، بعد نزع حمولاته التصنيفية. فهو النص المكاني الجامع لكل الفضاءات العمانية، ولذلك جاءت تلك الانحرافة المجازية بمثابة منبه من منبهات التخييل، المفارق للواقع والمرتد إليه في الآن نفسه.
الرواية مهندسة بلغة تعبيرية ملتصقة بالفضاءات وأحاسيس الشخصيات. بجُمل قصيرة خاطفة، وإيقاعات استرواحية بطيئة. خصوصا في بداية الرواية. عندما كانت (ميا) تتبتل بما يشبه الصلاة السرية «يا ربّي حلفت بك... حلفت لك بكل شيء. فلماذا أرسلت ولد سليمان لبيتنا؟ تعاقبني على حبّي؟». وهذا التبتل إنما جاء بعد أن رسمت جوخة الحارثي هيئة جاذبة لعلي بن خلف، أشبه ما تكون بالتمثال المنغرس بعمق في محراب العشق «حين رأت ميا علي بن خلف، كان قد أمضى سنوات في لندن للدراسة وعاد بلا شهادة. لكن رؤيته صعقت ميا في الحال. كان طويلا لدرجة أنه لامس سحابة عجلى مرقت من السماء، ونحيلا لدرجة أنّ ميا أرادت أن تسنده من الريح التي حملت السحابة بعيدا. كان نبيلا. كان قدّيسا. لم يكن من هؤلاء البشر الذين يتعرّقون وينامون ويشتمون». لكن لذة البطء السردي تلك اختفت بمجرد أن توقفت ميا عن الخياطة. عندما سألتها مرّة: «لماذا لا تخيطين يا ميا؟»، فردت عليها: «إيش أخيط والخياطين في كل مكان... وبصراحة ملّيت». حيث التلازم البنيوي ما بين التهادي الحياتي والبطء السردي.
بعد هذه اللقطة، التي تشكل فاصلا بين زمنين، بدأت الرواية تتخلى عن نسج المشاهد بلغة تفصيلية هادئة، وتسارع الإيقاع بشكل مخل. حيث تسيدت اللغة الإخبارية مشاهد الرواية. وتعطلت مفاعيل وسحرية الشخصيات المؤمكنة. ومرد ذلك يعود إلى اتساع المكان والمسافات، بعد الخروج من محدودية (العوافي) إلى رحابة (مسقط). وانتقال السرد إلى لحظة زمنية سريعة الإيقاع مؤسسة على حركة الشخصيات المستعجلة، والبيوت التي فقدت سحرانية تأثيرها بأضواء النيون، والأدوات الاستعمالية البلاستيكية، التي تحيل إلى واقع جديد بارد الملامح. الأمر الذي لم تتمكن فيه جوخة الحارثي من الإبقاء على ديمومة المتعة المترسبة في النصف الأول من قاع الرواية. وهو أداء بدا أكثر وضوحا في اللوحات المتأخرة، حيث الكتل الكلامية المفككة، والتعبيرات الكلامية المستعجلة. والمشهدية الشكلية التي تؤكد أن تشبّع الروائية بمشاهد القرية والاستمتاع باستذكارها سرديا يفوق درايتها والتصاقها باللحظة والفضاءات الجديدة.
لكل سيدة من (سيدات القمر) قصة حُبّ موجعة سببها الرجل. ليس بالضرورة من خلال حضوره الغادر، وإنما بسبب وجوده على رأس هرم بطريركية راسخة الجذور تجعله في موقع المتسلط على المرأة. وهذا هو جوهر استراتيجية النص. إذ لا وجود للمرأة خارج النظام الاجتماعي المعقد، المحتشد بالعادات والتقاليد والأعراف التي تحد من حرية المرأة على الرغم من الهامش البسيط المتأتي من التحولات التاريخية والسياسية والثقافية والاجتماعية. ولا مستقبل لأي حالة ارتواء عاطفي على ذلك القاع الاجتماعي الرجراج الذي لا يسمح باستواء قصة حُبّ. وهذا هو منطق الرواية باعتبارها الكون السردي الصغير الذي يحيط به كون واقعي حياتي أوسع وأكبر بكثير.
لا تشي الرواية بأي قراءة تأويلية ضالة، بقدر ما تستعرض مآزق الذات الأنثوية العاشقة بشكل تكراري إلى الأمام، من خلال عرض تراتبية أجيال يتغير فيها كل شيء إلا قدر المرأة مع الحُبّ. انطلاقًا من (سالمة) التي زوّجها عمها قسرا لـ(عزان) حيث انحرف فيما بعد عنها إلى علاقة جارفة مع (نجية القمر) فانفصلت عنه جسديا. ثم ابنتها (ميا) التي كانت تحلم بالزواج من (علي بن خلف) لكنها تُجبر وفق الأعراف الاجتماعية على الزواج من (عبد الله) ابن التاجر سليمان لتكمل حياتها زوجة شكلية مع زوج يعشقها لكنها لا تبادله الشعور نفسه. وهو المآل الذي صادفته حفيدتها (لندن) في علاقتها بـالشاعر المتمرد (أحمد) المتورط بعلاقة هو الآخر مع رئيسة الجماعة الأدبية في الجامعة. وهو المصير نفسه لعلاقة (خولة) بابن عمها (ناصر) حيث هجرها ليلتحق بزوجته الكندية. لتبقى قصة (أسماء) مع (خالد) استثناء في تلك السلسلة من الإخفاقات، التي تؤكد انهزام المرأة واستسلامها أمام مجتمع يتفنن في إعادة إنتاج البطريركية مهما تقدم في الزمان والمكان.
إنها رواية استجوابية لماضي وحاضر عمان، بالمعنى الحداثي للكلمة. ومن الزاوية التي ترى بها المرأة الوجود تحديدا. حيث تمدد جوخة الحارثي حكايا (السيدات) في نص يستمد قوته في البداية من شكله الجمالي، ومن ثراء مضامينه. وإن كانت واقعيته الصريحة تؤمم المعنى لصالحها بصفتها روائية مهيمنة لا متسائلة. لولا أنها تتخلى فيما بعد عن التعبيرات المسكوكة بعناية بلاغية، وعن العلامات الإشارية التي شيدت بها استهلالات الرواية إلى فكرة تلقين القارئ بما ينبغي عليه أن يستنبطه من حركية النص. وهي أدائية استدراجية لاستدماج القارئ في استراتيجية النص واعتباره جزءا من عملية بنائه. حيث اللهاث وراء قدر شخصيات معاندة للتنميط داخل النص، وسيرورة الواقع. وكأن الرواية بذلك الانحياز لقصص النساء تستنطق ذكورية المكان العماني، أو بمعنى أدق تستعمله، لتشييد لعبة تأويلية بنبرة أنثوية خافتة خالية من عنف المناقدة.
- ناقد سعودي



أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
TT

أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية

تحوي مملكة البحرين سلسلة من المقابر الأثرية، تُعرف باسم «تلال مدافن دلمون»، سُجلت ضمن قائمة التراث العالمي التابعة لـ«منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (اليونيسكو) في صيف 2019. تضم هذه السلسلة في الواقع مجموعات عدة من المدافن، منها مجموعة تقع في أقصى جنوب مدينة حمد، وتجاور قرية دار كليب التي تبعد عن المنامة نحو 25 كيلومتراً. بدأ استكشاف «مدافن دار كليب» في عام 1965، حيث عمد باحثان يعملان لحساب «شركة نفط البحرين» (بابكو) إلى إجراء أول أعمال المسح فيه. وصل هذا الخبر إلى البعثة الدنماركية التي كانت تعمل في هذه الناحية من الخليج خلال تلك الفترة، فباشرت دراسة الموقع بشكل معمّق. توالت مواسم التنقيب خلال العقود التالية، وأدت إلى الكشف عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الأواني الفخارية تعود إلى حقب متلاحقة من الزمن.

تحمل «تلال مدافن دلمون» اسم إقليم برز شرق الجزيرة العربية خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، كما تشهد المصادر السومرية، وكانت جزيرة البحرين حاضرة من حواضر هذا الإقليم الوسيط الذي شكل حلقة وصل بين بلدان الشرق القديم، الأوسط والأدنى. خرج من هذه المدافن عدد كبير من القطع الفخارية تعكس هذه التعددية، منها مجموعة من القطع مصدرها حقل «مدافن دار كليب» الذي يمثّل كما يبدو الطور الأخير من تلك الحقبة الغنية. تبرز في هذا الميدان بضع أوانٍ تتميز بحلل زخرفية تبدو غير مألوفة في محيطها، منها آنية على شكل زهريّة من الحجم الصغير، كشفت عنها بعثة محليّة في منتصف تسعينات القرن الماضي، وهي اليوم من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة. يبلغ طول هذه الزهرية المخروطية 12 سنتيمتراً، وعرضها 9 سنتيمترات، وهي من نتاج القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل الميلاد، كما يؤكّد أهل الاختصاص، وتكوينها بسيط، ويغلب عليه اللون العسلي المائل إلى الأخضر الزيتي.

تُزين القسم الأعلى من هذه الزهرية شبكة من الخطوط الأفقية الدائرية، تحوي في وسطها خطاً متعرّجاً. خُطت هذه الشبكة باللون الأسود، وتقابلها شبكة مشابهة مختزلة تزيّن القسم الأسفل منها. بين هاتين الشبكتين، تحضر شبكة عريضة تحتلّ القسم الأوسط، وقوامها زخرفة نباتية متناسقة تعتمد طرازاً مكرّساً، يُعرف في قاموس الفنون باسم «بيبال»، أي شجرة التين الهندسية المقدسة. خطّت هذه الزخرفة النباتية كذلك باللون الأسود، وتتشكّل من أربعة أغصان أفقية تحمل أطرافها سلسلة من الأوراق اللوزية المرصوصة بشكل تعادلي في بناء محكم، وفقاً لنسق فني اعتُمد بشكل واسع في المناطق الشمالية الغربية من جنوب آسيا، وبات من خصائص حضارة وادي السند التي توهّجت على مدى قرون من الزمن، وبلغت نواحي عديدة من الشرق الأدنى وجنوب آسيا.

تبدو زهرية دار كليب على الأرجح من نتاج وادي السند، وتشهد للروابط الثقافية المتواصلة التي جمعت بين هذا الوادي وإقليم دلمون. لا نجد ما يماثل هذه الآنية في هذا الميراث، غير أننا نقع على قطعة تشابهها بشكل كبير، مصدرها المناطق الشرقية من المملكة العربية السعودية، وهي قطعة شبه مجهولة، قدّمت عالمة الآثار غرايس بوركهولدر تعريفاً بها ضمن كتاب لها صدر عام 1984، تناول مجموعة من اللقى الأثرية تمّ اكتشافها في هذه المناطق الشرقية.

خرجت من مدافن دار كليب كذلك مجموعة من القطع الفخارية تعود إلى الحقبة التي أطلق فيها المستكشفون الإغريقيون على جزيرة البحرين اسم تايلوس، وهي الحقبة التي تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى فترة دخول الإسلام. تُشكّل هذه القطع مجموعة من مجموعات مشابهة خرجت من المدافن المجاورة، وتحوي قطعاً تتفرّد في بعض الأحيان في تكوينها، منها قطعة من الفخار المزجّج، عُثر عليها خلال حملة محليّة تمّت بين عام 1993 وعام 1994، وهي من محفوظات المتحف الوطني بالمنامة.

صُنعت هذه الآنية بين القرن الأول والقرن الثاني للميلاد على الأرجح، وفقاً لتقنية نشأت قديماً في جنوب بلاد ما بين النهرين، وهي على شكل جرة لها عنق طويل، طولها 32.5 سنتيمتراً، وعرضها 22 سنتيمتراً. تشابه هذه الجرة في تكوينها العام جرة معاصرة لها خرجت من الموقع نفسه، وتتميّز بعروة على شكل مجسّم حيواني، تحل مكان العروة التقليدية المجرّدة من أي شكل تصويري. يصعب تحديد نوعية هذه البهيمة، والأرجح أنها تمثل كبشاً ذا قرنين مستديرين، وتشكّل امتداداً لتقليد قديم، تبدو شواهده محدودة في هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر هذا الكبش في قالب جامد تغيب عنه أي حركة ظاهرة، وتبدو قوائمه الأربع ثابتة في وضعية واحدة ثابتة، يغلب عليها طابع التحوير والتجريد. يتبع تكوين رأس هذه البهيمة هذا النسق، ويتميّز بقرنين عريضين صيغا على شكل هلالين متوازيين.


آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
TT

آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم

مصعد المستشفى لا يكفّ عن الرنين، بينما المرضى وزوارهم يخرجون ويدخلون إليه. الممرات أشبه بنفق معتم. أطباء يعاينون صورة شعاعية، قبل أن تظهر لنا الكاميرا سعد الله ونوس على سرير المرض شاحباً، متعباً، هزيلاً، وقد فقد شعره، يتناول الدواء من يد شخص إلى جانبه، وتثبّت الممرضة إبرة المصل في ذراعه.

هكذا يبدأ «الوثائقي» المعنون: «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء»، الذي صوره المخرج عمر أميرالاي، مع صديقه الكاتب المسرحي سعد الله ونوس، قبل فترة قصيرة من وفاته يوم 15 مايو (أيار) 1997، وعرض يوم 28/11، في سينما متروبوليس ببيروت.الكلمة الأخيرةالفيلم بمثابة وصية، أو لنقل الكلمة الأخيرة التي تركها لنا هذا الكاتب الكبير بنصوصه كما بانخراطه الكامل في القضايا التي أحاطت به. منذ البدء يصارح أميرالاي سعد الله ونوس، الواقف «على حافة تخوم رجراجة بين الحياة والموت»، أنه جاءه ليستنطقه كشاهد على مرحلة «لتكون لسان حال جيلنا في هذا الصراع».

الفيلم سجل بعد اتفاق أوسلو، ونوس متوجس مما سيأتي، مزاجه جنائزي، ليس فقط بسبب المرض، بل بسبب الحالة العامة أيضاً. ثمة شرطان للسلام لم يتحققا بالنسبة لسعد الله ونوس. أن يحصل تغيير جوهري وجذري في البنى الاجتماعية والسياسية في إسرائيل. وأن يحصل الشيء نفسه في البلاد العربية من جهة أخرى. عندها التاريخ قد يجبرنا وتحت وطأة اليأس على التغيير والتجدد. نكبة 1948 «أقولها حرفياً إن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري، وأفسدت على إنسان عاش خمسين عاماً، مثلاً، الكثير من الفرح، والكثير من الإمكانات»، يقول ونوس في مطلع الفيلم الذي عرض في سينما «متروبوليس» في بيروت قبل أيام، إلى جانب فيلم آخر «إلِيبسِس» للمخرجة ساندرا إيشيه تتحاور فيه مع عمر أميرالاي ضمن فعالية «حواران على أهبة الموت» لـ«سينماتك بيروت».

مات «رائد المسرح السياسي»، سعد الله ونوس بعد صراع طويل مع سرطان في البلعوم كان يفترض ألا يمهله أكثر من ستة أشهر بحسب الأطباء، لكنه بقوة الكتابة تمكن من المقاومة خمس سنوات. ومن حسن حظنا أنها كانت من أغزر فترات حياته إبداعاً، كتب خلالها أروع مسرحياته، وشارك في هذا «الوثائقي» البديع الذي تحدث خلاله عن العلاقة العضوية التي ربطته بالقضية الفلسطينية، وأحداث المنطقة كيف عاشها بروحه وضميره ووجدانه، حتى لتشعر وهو يتحدث أن المآسي التي مرّت نهشت جسده، حتى أودت به، وهذا ما يعتقده هو نفسه.

عمر أميرالاي

أميرالاي الساخر حد البكاء بقدر ما يبدو سعد الله ونوس حزيناً ومكفهراً، نرى صديقه عمر أميرالاي حين تحاوره المخرجة الفرنسية، في الفيلم الثاني، ساخراً هزلياً بمرارة، حتى تختلط الدموع بالقهقهات. ويجيب على الأسئلة باعتباره يعيش في عام 2030 خاصة وأن كل التوقعات في الخمسين سنة الماضية، حصلت، ولم يعد من مكان للخيال. لقد أصبح كل شيء واقعاً، وما سيحدث غداً نعرفه اليوم. فهو كسوري - كما يقول - يعيش خارج الزمان والمكان. والسوريون واللبنانيون يتقاسمون الشيء نفسه. فهما توأمان سياميان لا يوجد جرّاح يمكنه أن يفصل مصير أحدهما عن الآخر، المقرون بـ«اليأس».

«أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء» (1997) يكتسب أهميته من حيث أنه اختصار لوجع جيل كامل في ساعة سينمائية مكثفة. تبدأ من نكبة 48 حيث فتح ونوس عينيه على قصة شابين من قريته «حسين البحر» تطوعاً في جيش الإنقاذ، ليحررا فلسطين من الذين جاءوا ليحتلوها. كان ترقّب مغمّس بالرهبة والخوف على مصيرهما. لكن الشعور تطور بمرور السنوات: «كنا نكبر وتكبر القضية معنا».

يسير الفيلم على وقع نقاط المصل وصوتها وهي تتدحرج ببطء إلى عروق ونوس. «كنا بلاداً فقيرة» لكن مع كل الهموم اليومية الكثيرة «كنا نحمل هموم القضية وتحولاتها على كواهلنا النحيلة، المتعبة».هزيمة 1967 لحظة حاسمة بعد أن استقر في الأذهان عبر سنوات الكذب والتدجيل أن نكبة 1948 كانت نتيجة الخيانة والأسلحة الفاسدة، وأنها لم تكن أبداً بسبب ضعف القدرة القتالية عند الجندي العربي. «زرعوا في أذهاننا أن مسألة هزيمة إسرائيل هي مسألة ممكنة، في أي لحظة».لذلك جاءت هزيمة 67 مدويّة. «لم أتصور أن القوات العربية في مصر بالذات، وكذلك في سوريا هي من الضعف والتفكك إلى الحد الذي بدت فيه خلال الأيام الستة». وعدت الأنظمة العربية بأنها ستحمي الوطن وأنها المؤهلة للقتال، ولم تفعل شيئاً إلا مراكمة الهزائم.

البكاء مع بلوغ النهاية مشاهد استسلام الجنود كانت مؤلمة. «الصدمة حادة وعنيفة، إذ أحس الجميع أنهم مطعونون بكبريائهم، أنهم مهانون حتى العظم». مشاهد تتخلل المقابلة، منها الأطفال المشردون في الخيام، يأكلون الخبز اليابس مع الشاي، عبد الناصر يعترف بمسؤوليته بعد الهزيمة ويتنحى، جنود إسرائيليون يقصفون بالطائرات، جنود عرب يستسلمون. تتالى المشاهد التي تدعو كلها لمزيد من الانكسار.يكاشفنا ونوس وكأنما يستعيد اللحظة حية. عندما تأكدت الهزيمة «شعرت أنني سأموت في تلك اللحظة، شعرت أنني أختنق.» بكى وبكى، وشعر أنها النهاية. وأن عمراً قد انتهى، وأن التاريخ قد توقف، وأن وجوده قد انطوى.

أهمية حرب 73 أنها كشفت بعد هزيمة ساحقة، أن إسرائيل ليست حصناً منيعاً لا يمكن مسّه، وليست تلك الدولة غير القابلة لأن تجرح وتخسر معارك. «لذلك صفقنا كثيراً. عندما قامت حرب 1973. مجرد شعورنا بأن جنودنا يستطيعون أن يقاتلوا، أعاد لنا شيئاً من الثقة المضعضعة والمعدومة بالذات».

لكن هذه الحرب، من ناحية أخرى، في رأي ونوس، أجهضت الفوران المبشّر بعد 67، وربما أنها كانت في ذهن بعض من شاركوا فيها مقدمة لما أتى بعدها.لم يبقَ سوى الانتحارحين زار أنور السادات إسرائيل أصاب ونوس الذهول. جلس وكتب «أنا الجنازة والمشيعون معاً». كان ذلك آخر نص، ومن بعده التزم سعد الله ونوس الصمت. كان متوتراً ولا يستطيع السيطرة على نفسه بعد أن أنهى كتابة ذلك النص. «تناولت حبة النوم، وحاولت أن أخرج من حالتي. بعد ساعتين أو أقل استيقظت أشد توتراً وضيقاً وكانت الظلمة شاملة أمامي. في تلك الليلة أقدمت على محاولة الانتحار الجدية».

في فترة الصمت الطويلة المغمسة بالاكتئاب، أمضى معظم وقته في القراءة والتأمّل، وفي مواجهة أسئلة التاريخ الموجعة، إلى أن أنعشت مشاعره انتفاضة 1989 وحفزته على كسر الصمت. في تلك السنة بدأ يخطط لكتابة مسرحيته «الاغتصاب». لم يكن غريباً أن يكسر صمته بمسرحية تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، وتحاول تحليل بنية النخبة الحاكمة في إسرائيل.

عندما راودته فكرة المصالحةنهاية المسرحية، أثارت الجدل، لأنها تضمنت حواراً بينه وبين طبيب نفسي إسرائيلي، يردد طوال المسرحية مقتطفات من سفر إرمية مستنزلاً اللعنات على السياسة العدوانية للنخبة الحاكمة في إسرائيل، والتي لا تؤدي فقط إلى الإجهاز على الفلسطيني، وإنما على تدمير الإنسان اليهودي أيضاً.

يعترف أنه في تلك اللحظة، كان يفتح باباً على الصلح، وأن إسرائيل في مسرحيته لم تعد حُرُم. «مجرد أن أقدم في المسرحية شخصية يهودية إيجابية تحتج على ما يحدث، وعلى ممارسات (الشين بيت) إزاء الفلسطينيين وعمليات التعذيب التي يقومون بها، مجرد أن أقدم شخصية من هذا النوع إنما يحمل في طياته تعاطفاً مع الإسرائيليين».

المشكلة في البلاد العربية أيضاً، بهذه البنى المتخلفة التي لم تحدّث و«تجعل من شعوبها كماً بشرياً مهملاً» حيث لا يجد المواطن أمامه سوى أن «يطأطئ رأسه».

العلاقة بين القصف والسرطانيعتقد سعد الله ونوس أن ثمة علاقة مباشرة بين حرب الخليج التي أجهزت على بقية الآمال الموجودة لدى العرب، وبدء شعوره بالإصابة بالورم أثناء الحرب، وخلال القصف الجوي الوحشي الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة الأميركية ضد العراق. ثم جاءت مفاوضات مدريد بعد هزيمة العراق التي يصفها بـ«الاستسلام» لأنها «لا يمكن أن تكون بداية لسلام حقيقي». الاتفاقات التي تمخضت عنها «ما هي إلا فصل من فصول هذه الحرب الدائرة التي يمكن أن تطول بيننا وبين إسرائيل».

إسرائيل غدت حقيقة تاريخية، غير أنه بقراءة متأنية يستنتج أنها لا تملك مقومات الاستمرار، هي مشروع خاسر. «لا حياة لها إلا إذا اندمجت كجزء في الكل، لا كمخفر مهمته أن يدمّر المنطقة، ويجعلها ممرغة باستمرار في الهزيمة والتخلف والتفتت».يسأله أميرالاي: «هل سنموت، وفينا العلة التي اسمها إسرائيل؟»يجيب: «على الأقل بالنسبة لي شخصياً، من المؤكد أن هذا سيحدث».

أميرالاي رحل هو الآخر عام 2011. ولم يشكّ ونوس بأن جيله كله سيمضي و«في رأسه تلوح هذه الخفقة السوداء الشبيهة بعلامة، هي علامة الخيبة التي تذوق مرارتها على مدّ عمره. لأن إسرائيل ستكون باقية حين يذهب جيلنا إلى نهاية حياته».


علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.