لم تكن معركة «المارن» الأولى، والتي تناولناها الأسبوع الماضي باعتبارها فاتحة معارك الحرب العالمية الأولى في الغرب، إلا مقدمة لسلسلة من المعارك المهمة والحيوية في الشرق الأوروبي، فنحن أمام الذكرى المائة لمعركة لا يستهان بها في الشرق وهي معركة «تاننبرغ» (Tannenberg) الشهيرة بين الآلة العسكرية الألمانية وجيوش دولة روسيا القيصرية، وكان الهدف الأساسي للخطة العسكرية الألمانية المسماة على اسم واضعها «فون شليفين» (Von Schlieffen) العمل على الانتهاء في غضون أسابيع قليلة من الجبهة الفرنسية الثقيلة بهزيمة سريعة واحتلال باريس ثم التحرك لهزيمة الجيش الروسي الذي كان أقل خبرة وكفاءة من نظيره الفرنسي في الغرب، وبالتالي عندما بدأت الحرب بالتركيز على الغرب لم يكن أحد يتوقع أن تبدأ العمليات العسكرية بين الجيشين الألماني والروسي اعتقادا أن الأخير يحتاج لوقت طويل للتعبئة والتحرك، وهو ما لم يحدث نظرا لأن فرنسا ضغطت على القيصر الروسي من أجل القيام بتحريك قواته بأسرع وقت قبيل اندلاع الحرب ليخفف عنهم الضغط الألماني المتوقع على الجبهة الغربية.
وعلى الرغم من الضعف النسبي للجيش الروسي وبدائيته مقارنة بالآلة العسكرية الألمانية، فإنه كان يتمتع بكثرة عددية، كما أنه كان على ثقة كاملة في ضرورة تخفيف الضغط عن فرنسا، وبالتالي بدأ التحرك الروسي السريع من خلال الضغط بجيشين داخل بروسيا الشرقية، فكان الجيش الشمالي تحت قيادة «رينيين كامبف» (Rennenkampf)، بينما كان الثاني بقيادة «سامسونوف» (Samsonov)، وتشير أغلبية المصادر التاريخية إلى أن القائدين كانا على خلاف شديد، وهو ما أثر مباشرة على فرص التعاون والتناغم المشترك، ومع ذلك استمر كل منهما على حدة يتوغل صوب الأراضي الألمانية وسط حالة من الترقب للقائد الألماني «فون بريتويتز» (Prittwitz)، والذي سرعان ما انتابته حالة من القلق الشديد فأبرق على الفور للقيادة الألمانية يستأذن في التراجع ليضع دفاعاته على حدود نهر «الفيستولا». وتشير المصادر التاريخية إلى أن رئيس أركانه قد اقترح عليه أن يبدأ بمهاجمة أحد الجيشين وهزيمته ثم الاتجاه صوب الآخر لا سيما مع ضعف التنسيق بين جيشي العدو مما سيجعلهما فريسة ليس بالصعب صيدها، لكن رئيس الأركان الألماني «فون مولتك» كان قد اتخذ قراره بعزل هذا القائد ضعيف الحيلة، وتعيين أحد المخضرمين بدلا منه ليقود الجبهة الشرقية وهو «فون هيندينبورغ» (Von Hindenburg) - الذي أصبح رئيسا لألمانيا في ما بعد وقام بتسليم هتلر مقدرات بلاده. كما تم تعيين الجنرال «فون لودندورف» (Von Ludendorff) رئيسا لأركان الجبهة الشرقية، والذي كان إحدى الشخصيات العسكرية ذات الصيت الذائع بعد دوره في القضاء على المقاومة البلجيكية.
وعلى الفور تبدلت الأمور في الجبهة الشرقية، فلقد سعى القائد الجديد للعمل على هزيمة الجيشين الروسيين، ففي تحرك سريع للغاية وضع الرجل ست فرق على ميسرة قوات «سامسونوف» بالقرب من «تاننبرغ»، ثم وجه نحو ميمنة نفس الجيش بعد مدة قصيرة للغاية تعزيزات كبيرة، وفي لمح البصر بدأت المعركة الشهيرة التي أسفرت عن تطويق كامل للجناحين الروسيين وانقضاض عنيف عليهما مما أسفر عن إبادتهما تقريبا، بينما تمت محاصرة القلب الروسي، فكان النصر حليف ألمانيا في معركة تكاد تكون فريدة من نوعها من حيث حجم الانتصار والخسائر المباشرة، وقد أطلق هذا النصر المهم الفرصة أمام «هيندينبورغ» من أجل توجيه قواته على وجه السرعة إلى الشمال لمواجهة الجيش الروسي المرابط في الأراضي البروسية، وقد استطاع أن يضغط عليه ليبدأ انسحابه التدريجي بما أخرج الروس من دائرة تهديد الأراضي الألمانية مباشرة، وهو ما كان له أكبر الأثر في رفع الروح المعنوية لألمانيا ككل، وخلق بطلين جديدين في الوجدان الشعبي.
ومع ذلك فإن الفرحة الألمانية على الساحة الشرقية لم تكتمل، فلم يكن إخراج روسيا من المعادلة العسكرية في الأراضي الألمانية معناه أن الأمور تسير حسب ما كان مخططا، فلقد اتفقت القيادتان العسكريتان الألمانية والنمساوية على مساندة الأولى للأخيرة في جهودها العسكرية ضد روسيا، وكانت النمسا على قناعة كاملة بأنها قادرة على إلحاق الهزيمة بالجيوش الروسية المتناثرة، وكانت بولندا هي ساحة الاقتتال، وعلى الرغم من بعض النجاحات المبدئية للجيشين الأول والرابع النمساويين فإنه سرعان ما تقدم الجيشان الثالث والثامن الروسيان واللذان ألحقا بالجيشين النمساويين الهزائم المتتالية في الأسبوع الأخير من أغسطس (آب)، مما أدى لانسحاب الجيوش النمساوية بأسرع مما كان متوقعا.
حقيقة الأمر أن الجبهة الشرقية كان لها أكبر الأثر في تحريك مسار الأحداث في الحرب العالمية الأولى على النحو الذي سارت عليه، فعلى الرغم من الهزيمة الروسية في «تاننبرغ»، فإنها لم تكن بلا ثمن سياسي، فلقد خشي «فون مولتك» مرة أخرى من انكسار جبهته الشرقية، وعلى الرغم من تغيير قيادتها فإنه أرسل لها فيلقين جديدين لنجدة القوات الألمانية هناك، غير مدرك أن الأمر كان بمقدور القيادة الشرقية الجديدة السيطرة عليه، وهما الفيلقان اللذان كان يمكن أن يكون لهما أكبر الأثر في حسم «معركة المارن» على الساحة الغربية مع فرنسا، فلو أن القيادة الألمانية التزمت بالخطة الأولى لـ«فون شليفين» لكان الانتصار حليفها، ولكانت قد حسمت الحرب العالمية الأولى لصالحها، لكن ضعف الجسارة لدى «فون مولتك» وعدم صلابة قائد الجيش في الجبهة الشرقية قللا من فرص ألمانيا لتسوية الأمر، فهذان الفيلقان لم يشاركا في نصر «تاننبرغ»، وغابا عن معركة «المارن» التي أوقف فيها تمترس القوات الفرنسية الزحف الألماني على باريس.
وهكذا يخسر أو ينتصر القادة في المعارك وساحات الاقتتال، فهناك الكثير من العوامل التي تؤثر على فرص الجيوش في الانتصار، ولعل من أهمها قدرة القائد على إيجاد رؤية واضحة والتمتع بجسارة كافية لإنهاء المعارك لصالحه، كما أنه يلاحظ أن السبب الأساسي وراء هزيمة الجيش الروسي أمام الألمان هو قدرة الأخير على التعبئة وتحريك الجنود والمعدات بيسر شديد من خلال وسائل الانتقالات الحديثة، وعدم قدرة الجيش الروسي على تشكيل جبهة موحدة برؤية موحدة بين القيادة والجيوش، فضلا عن افتقاره للمعلومات والاستخبارات والتنسيق اللازم.
وكثيرا ما يتساءل المؤرخون: ماذا لو أن القائد الألماني المعزول لم يرسم صورة بائسة لرئاسة الأركان الألمانية حول الأوضاع في جبهته؟ فهل كان يمكن للقيادة الألمانية أن تحسم معركة «المارن الأولى» لصالحها وتحتل باريس؟ وحقيقة الأمر أنني كلما عدت لكتب التاريخ والاستراتيجية لمراجعة أحداث معركتي «تاننبرغ» في المسرح الشرقي و«المارن الأولى» في المسرح الغربي، تذكرت آخر جملة تفوه بها «فون شليفين» قبل أن يموت وهي «أبقوا الجبهة اليمنى قوية».
8:9 دقيقه
من التاريخ: مائة عام على معركة «تاننبرغ»
https://aawsat.com/home/article/178401
من التاريخ: مائة عام على معركة «تاننبرغ»
من التاريخ: مائة عام على معركة «تاننبرغ»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة

