«رسام المغتربين اللبنانيين»... عشق الأبواب والشبابيك القديمة فأعادها لوحات تضج بالحياة

بالشفر والمسامير والدبابيس استطاع أندريه كالفايان أن يبتكر تقنية رسم خاصة به

TT

«رسام المغتربين اللبنانيين»... عشق الأبواب والشبابيك القديمة فأعادها لوحات تضج بالحياة

وحده الفن يسكن روح صاحبه، ويُبصر النور لحظة تُبصره عيناه، وتتنفس رئتاه نسمات الهواء. رسامون عباقرة من التاريخ، بريشة وبضعة ألوان وقطعة قماش وإمضاء صغير يقبع في إحدى زوايا أعمالهم، ينثرون شغفهم بالفن، فتعيش أعمالهم وهم يرحلون.
في أمسية صيفية من أمسيات مدينة جبيل اللبنانية، حيث تتعالى الموسيقى وتنتشر دكاكين الحِرف اليدوية والمطاعم ومحال بيع التذكارات التي تحكي أجزاءً من تاريخ مدينة الحَرف، التقت «الشرق الأوسط» بفنان رسام هاجر أجداده قبل مائة عام من أرمينيا إلى لبنان، واستقروا في جبيل، حيث ولد في عام 1968، ليضيف بأعماله جمالاً على مدينة الجمال، حيث تتلاعب أمواج المياه الدافئة على شواطئ المدينة مقبلة رمالها الذهبية. إنه أندريه كالفايان الذي ارتبط اسمه ارتباطاً وثيقاً بمدينة الحَرف، مسقط رأسه، فلا يمر زائر في شوارعها القديمة إلا وتستوقفه أعمال كالفايان، وتحرك الروح فيه حنيناً لماضٍ يقبع بين شبابيك قديمة وشرفات مهترئة وأبواب متآكلة وأدراج وبيوت وسيارات ووجوه، تميز بتقديمها بأسلوب خاص به.
لا بدّ لدى مجيء السياح إلى جبيل من زيارة معرض كالفايان، والتعرف عن كثب على صاحب هذه الأنامل المبدعة الذي بات مدرسة بأسلوب رسم ابتكره بنفسه.
يقول كالفايان لـ«الشرق الوسط» إن «الفن موهبة تبدأ منذ الصغر. والإبداع ميزته الشغف. وحدها الموهبة تطغى، وبها فقط يفرض الفنان نفسه على الساحة الفنية، وليس بالتحصيل العلمي».
كالفايان، الذي طالما كان الرسم هاجسه وشغفه منذ الصغر، بنفسه عمل على صقل موهبته، فلم يدخل معهداً، ولم يتخرج من جامعات الفنون العالمية. فكان الأستاذ والتلميذ معاً. وبالاطلاع والمطالعة استطاع أن يحفر اسمه في عالم الرسم.
يقول كالفايان: «منذ أكثر من مائة عام، شاء القدر أن يهاجر أجدادي إلى لبنان، وأن يستقروا في مدينة الحَرف، حيث وُلدت. وفي تاريخنا الأرمني أمور تعود بنا دوماً إلى الماضي. هذا الحنين إلى القِدم لا نعرف له تفسيراً». ويضيف: «المواضيع التي عملت عليها في رسوماتي هي عبارة عن أشياء قديمة مرّ عليها الزمن».
طريقة مختلفة تميز عمله، فعندما نقول رسم ولوحة، فأول ما يخطر على البال مجموعة متنوعة من الريش، ولكن مع كالفايان يختلف الأمر، فلا فضل لريشة على أعماله. فما هي عدته؟ يرد: «أعمل بالمسامير والشفر والدبابيس. واستخدم الألوان الزيتية على القماش. لي تقنية خاصة بي، ومدرسة تحمل هويتي الشخصية، بالعدة التي هي ملكي؛ إنها عملية رسم خاصة بي».
- الأبواب والشبابيك
في عام 1994، ظهر اسم كالفايان في عالم الرسم، وتميز بعلاقته بالشبابيك القديمة والأبواب العتيقة والشرفات المتآكلة، ليشتهر بها تحديداً في عام 2000. وعنها يقول: «عُرفت بها، رغم عملي على كثير من المواضيع الأخرى، بيد أن حكايتي معها طويلة، وهي بالفعل تجذب اهتمام المغتربين اللبنانيين، والمهاجرين منهم إلى أقاصي البلاد، منذ زمن بعيد». ويتابع: «من صفات الفنان الأصيل المبدع أن يكون له هاجس، وقبل أن يحصل على لقب (فنان)، لا بد أن يكون على علم ومعرفة بما يريد، ومختلفاً في اختياره للمواضيع التي يعمل عليها، وبالتقنية التي سيعتمدها». ويُوضح قائلاً: «عشقت الأبواب والشبابيك والشرفات، فقد مر زمن طويل عليها، وباتت مهملة. رسالتي منها موجهة للناظر ولمحبي الفن، ليروا الجمال في كل قديم. فهذا الموضوع البسيط جداً لاقى صدى كبيراً بسبب الصدق مع الذات الذي يُظهر حقيقة الإبداع، بكل ما يجري في عروقه من دماء وأصالة وتقنية». ويبتسم قائلاً باللهجة اللبنانية: «في الفن، هناك مرجلة بالتقنية والمقدرة».
وجوه مسنين وسيارات تاكسي
لكالفايان لمسة خاصة وأسلوب يميز رسوماته عن جميع الرسامين، فلا حاجة لقراءة توقيعه في أسفل لوحاته، إنه ذلك الحنين الممزوج بين الحداثة ونور التجديد في الألوان وبين الأشياء القديمة المهترئة، الذي يدغدغ ذاكرتك، ويحيي فيك شعوراً طفولياً لماضٍ قضى وبقيت آثاره محفورة في تجاعيد وجوه رجال ونساءٍ مسنين تتخبط بين ابتسامة خجولة تلفحها لمحة حزن تَدمع لها العيون أحياناً. وعنها يقول: «رسمت وجوه مسنين من أهل المجتمع اللبناني، فكنت أحياناً أصور الناس بنفسي، وأحياناً أخرى آخذ صور البعض وأرسمها». ويضيف: «بت أحمل صفة رسام (المغتربين اللبنانيين)، ولا يعني ذلك أن مواضيعي خاصة بالذوق اللبناني فقط، بل يتذوقها كثيرٌ من السياح في كثير من أنحاء العالم. أما السيارات، فقد بدأت علاقتي معها من التاكسي اللبناني القديم، ولكنني مع مرور الوقت عشقتها، وبدأت أرسم أنواعاً كثيرة منها».
- معارضه
لم يكن هدفه يوماً الظهور على شاشات التلفزة، ولم يسع وراء جائزة. في رأيه، الإعلام لا يصنع فناناً، وكتابة مقالات عن أعماله لا تجعل منه، أو من أي رسام آخر، فناناً مشهوراً، فكل عظماء التاريخ لم يمتلكوا شيئاً في حياتهم، ولم يسعوا يوماً للترويج لأعمالهم، بل هي التي تكلمت عنهم وأدرجت أسماءهم بين العظماء.
شارك كالفايان في عدد كبير من المعارض، كما نظم أخرى جماعية. فله معارض في لبنان وخارجه، وجميعها كانت شخصية فردية. ويتابع لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «أنظم معارضي بنفسي، وأهتم بأدق تفاصيلها، ولا أرغب في أن ينظمها لي أي غاليري».
ولا يستطيع كالفايان خلال حديثه فصل السياسة عن الفن، فهي في قلبه هم كبير، وحبه للبنان، وخوفه على مصير أولاده ومستقبلهم في هذا البلد، دفعه لخوض حديث سياسي، وإعطاء رأيه. وحسب رأيه، فهو لبناني وفرد من هذا المجتمع، ولا بد له أن ينتقد ويصرح عن رأيه. ورغم جميع المحاولات لإعادته إلى موضوع الفن، أصرّ على قوله: «أنا فنان، ولا يستطيع أحد أن يغسل دماغي».
وعن الجوائز التي حازها، يقول كالفايان: «اهتم الإعلام المرئي والمسموع المحلي والعربي، وبعض من وسائل الإعلام العالمية، بأعمالي، بعد إبداء دهشتهم برسوماتي، وتقديرهم لها وللطريقة التي أستخدمها لإخراج لوحاتي». ويستطرد: «قدرني الناس، وتسلمت كثيراً من الدروع والجوائز، ولا بد من التوضيح أن جميعها كانت من دون أي هدف شخصي، بل تقديراً من قبل الناس. وآخرها كان جائزة (بياف) التي حزتها في عام 2018؛ قُدمت وقتها في ساحة النجمة قرب مجلس النواب. وكان هناك حضور لافت لفنانين من لبنان والعالم العربي وفنانين عالميين. كنت فخورا بأنني كنت واحداً من بين الأشخاص الذين تسلموا الجوائز التقديرية. في الحقيقة، إنها حالة نادرة أن تحصل مع فنان (رسام)، فأنا لست نجماً سينمائياً ولا مطرباً، ولكنني أعتبر نفسي كبيراً في مجال الفن، وما قدمته في حياتي من أعمال. ولا أقبل أن أُصنف بأقل من ذلك».
تكريم آخر كان لكافايان من قبل جامعة هايغازيان التي نظمت معرضاً خاصاً به، بمناسبة اليوبيل الخمسين لتأسيسها. كما افتتحت مدرسة القلبين الأقدسين - البوشرية صالة خاصة تحمل اسمه، بمناسبة مرور مائة عام على «المجازر الأرمنية».
ويختم حديثه بأنّه ابن مدينة جبيل، وهو موجود في ساحتها الفنية منذ أكثر من ثلاثين سنة، اهتم ولا يزال بكل نوع من أنواع الفنون التي تستضيفها المدينة، وبالفعل «لطالما احتضنت شوارعها نحاتين ورسامين، وكنا ننجز أعمالاً تُشعر المارَ بها بالسعادة، وتريح نظره بكم الجمال والفن اللذين يحيطان به».



«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
TT

«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)

اختارت مبادرة «نوابغ العرب» البروفسور اللبناني بادي هاني للفوز بالجائزة عن فئة الاقتصاد، تقديراً لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية.

وهنّأ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، البروفسور هاني، مؤكداً أن استدامة النمو الاقتصادي المرن والمتوازن تُعد ركناً أساسياً لتقدم المجتمعات وازدهار الحضارة الإنسانية. وقال في منشور على منصة «إكس» إن هاني، أستاذ الاقتصاد في جامعة سيراكيوز، قدّم «إسهامات استثنائية» في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية، لافتاً إلى أنه نشر أكثر من 200 بحث علمي، وأن كتابه في تحليل نماذج البيانات الاقتصادية بات مرجعاً للباحثين حول العالم.

وأشار الشيخ محمد بن راشد إلى حاجة المجتمعات العربية إلى اقتصاديين محترفين، مؤكداً أن السياسات الفاعلة تُبنى على علم راسخ وبيانات دقيقة، وأن «اقتصاد الأمة يُصنع بعقولها»، معبّراً عن تطلعه إلى «فصل عربي جديد» في مسيرة استئناف الحضارة العربية.

وجاء منح جائزة الاقتصاد هذا العام للبروفسور بادي هاني تقديراً لإسهاماته في تطوير أدوات التحليل الاقتصادي، خصوصاً في مجال «تحليل لوحة البيانات الاقتصادية»، الذي يعزز دقة دراسة البيانات عبر دمج معلومات من فترات زمنية ومصادر متعددة. وأسهمت ابتكاراته، بحسب المبادرة، في تحسين تقييم آثار السياسات الاقتصادية على المدى البعيد وعبر مناطق مختلفة، ما دفع حكومات ومؤسسات إلى تبنّي أساليبه في قياس كفاءة السياسات والإنفاق العام والأطر التنظيمية.

كما قدّم هاني دورات تدريبية لمختصين اقتصاديين ضمن مؤسسات دولية، بينها البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وبنوك مركزية عدة. ونشر أكثر من 200 بحث علمي، وله مؤلفات أكاديمية مؤثرة، أبرزها كتاب «تحليل نماذج البيانات الاقتصادية» المرجعي. وهو يحمل درجة البكالوريوس في الإحصاء من الجامعة الأميركية في بيروت، والماجستير من جامعة كارنيجي ميلون، والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة بنسلفانيا.

وفي إطار الإعلان عن الجائزة، أجرى محمد القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء ورئيس اللجنة العليا لمبادرة «نوابغ العرب»، اتصالاً مرئياً بالبروفسور بادي هاني أبلغه خلاله بفوزه بجائزة «نوابغ العرب 2025» عن فئة الاقتصاد، مشيراً إلى أهمية الأبحاث والنظريات والأدوات التي طورها على مدى عقود، والتي أصبحت ركيزة أساسية في التحليل الاقتصادي الاستراتيجي القائم على المعطيات والبيانات الدقيقة لاستشراف مستقبل التنمية وتعظيم فرصها.

واعتبر القرقاوي أن فوز هاني يمنح «دافعاً قوياً» لجيل جديد من الباحثين والمحللين والاقتصاديين العرب للإسهام في رسم المرحلة المقبلة من التنمية الشاملة في المنطقة.


آلاف يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند «ستونهنج» في إنجلترا

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
TT

آلاف يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند «ستونهنج» في إنجلترا

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

احتشد آلاف الأشخاص ورقصوا حول «ستونهنج» في إنجلترا، بينما ارتفعت الشمس فوق الدائرة الحجرية ما قبل التاريخ، اليوم (الأحد)، في الانقلاب الشتوي.

وتجمعت الحشود، العديد منهم مرتدون زي الدرويد والمشعوذين الوثنيين، قبل الفجر، منتظرين بصبر في الحقل البارد والمظلم في جنوب غربي إنجلترا. وغنى بعضهم، وضربوا الطبول، بينما أخذ آخرون وقتهم للتأمل بين الأعمدة الحجرية الضخمة.

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

يقوم كثيرون بزيارة هذه الدائرة الحجرية كل صيف وشتاء، معتبرين ذلك تجربة روحية. ويعد النصب القديم، الذي بني بين 5000 و3500 سنة مضت، مصمماً ليتوافق مع حركة الشمس خلال الانقلابات، وهي تواريخ رئيسية في التقويم بالنسبة للمزارعين القدماء.

وقالت منظمة إنجلش هيريتاج، المسؤولة عن إدارة «ستونهنج»، إن نحو 8500 شخص احتفلوا يوم السبت بالموقع في سالزبوري بلين، على بعد نحو 75 ميلاً (120 كيلومتراً) جنوب غربي لندن. وأضافت أن البثّ المباشر للاحتفالات جذب أكثر من 242 ألف مشاهدة من جميع أنحاء العالم.

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

واليوم (الأحد)، هو أقصر يوم في السنة شمال خط الاستواء، حيث يشير الانقلاب الشتوي إلى بداية الشتاء الفلكي. أما في نصف الكرة الجنوبي، فهو أطول يوم في السنة ويبدأ الصيف.

ويحدث الانقلاب الشتوي عندما تصنع الشمس أقصر وأدنى قوس لها، لكن العديد من الأشخاص يحتفلون به كوقت للتجديد، لأن الشمس بعد يوم الأحد ستبدأ بالارتفاع مجدداً، وستزداد مدة النهار يوماً بعد يوم حتى أواخر يونيو (حزيران).


«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
TT

«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)

يقدّم الفيلم العراقي «الأسود على نهر دجلة» تجربة تتقاطع فيها الذاكرة الشخصية بالذاكرة الجماعية، ويعود فيها المخرج زرادشت أحمد إلى المُوصل، مدينة الجراح المفتوحة، بعد سنوات من محاولته الابتعاد عن العراق وصراعاته، فبعد نجاح فيلمه السابق «لا مكان للاختباء» وما تركه من أثر عاطفي ثقيل عليه، كان المخرج يؤكد لنفسه أنه لن يصوّر في المنطقة مرة أخرى.

لكن المُوصل كما يقول لـ«الشرق الأوسط» أعادت جذبه ببطء حين رأى الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب مع تنظيم «داعش»، وواجه أسئلة لم يتمكن من تجاهلها حول كيفية سقوط مدينة بهذا التاريخ أمام 800 مقاتل فقط، وكيف يحاول سكانها اليوم النهوض من جديد.

الفيلم الذي حصد التانيت الفضي للفيلم الوثائقي الطويل ضمن فعاليات الدورة الـ36 من «أيام قرطاج السينمائية»، بتونس، بدأت رحلة مخرجه من فكرة مختلفة تماماً، إذ كان يبحث عن تحفة أثرية، تُعرف باسم «بطارية بغداد»، ظنّ أنها سُرقت بعد عام 2003، قبل أن يكتشف وجودها في قبو المتحف الوطني.

وثّق الفيلم جانباً من الأضرار التي لحقت بالموصل (الشركة المنتجة)

لكن زيارة إلى الموصل بدّلت مسار الفيلم، ففي أحد الأزقة الضيقة للمدينة القديمة، وقف أمام منزل دُمر بالكامل، ولم يبقَ منه سوى بوابة رخامية، يعلوها أسدان منحوتان، كأنهما الحارسان الأخيران لزمنٍ مضى، هذا المشهد كان كافياً ليقرر أنه أمام قصة أكبر من مجرد بحث أثري، بل أمام ذاكرة مدينة بأكملها.

تعرف أحمد خلال تلك الرحلات إلى بشّار، الصياد ابن الموصل وصاحب المنزل المدمر، 4 أجيال من عائلته عاشت في ذلك البيت، واليوم لم يبقَ لهم سوى هذين الأسدين، في نظر بشّار لم يكونا حجارة، بل كانا امتداداً لعائلته، لذكرياته، لروحه كلها، يذهب يومياً إلى الأطلال ليحرسهما، ويواجه محاولات سرقة متكررة، ويقاوم شعوراً لا ينتهي بأن الدولة تخلّت عنه، وأن مدينته فقدت القدرة على ضمّه، مأساته في الفيلم ليست فقدان منزل فقط، بل فقدان هوية، وفشل محاولات الإقناع بأن الوقت قد حان للبدء من جديد.

رصد الفيلم جوانب مختلفة من الحياة في الموصل (الشركة المنتجة)

وفي مقابل بشار، يظهر فخري، الشخصية التي تضيف بعداً مختلفاً للفيلم، رجلاً ستينياً، جمع على مدى سنوات أكثر من 6 آلاف قطعة أثرية أنقذها من بيوت مهجورة وبقايا خراب الحرب، وحوّل منزله إلى متحف مفتوح للناس، باع سيارته، ومقتنيات زوجته، ومدخراته كلها ليحافظ على جزء من هوية الموصل. في البداية، كان يحلم بأن يضم باب منزل بشّار إلى مجموعته، معتقداً أنه يحمي تاريخ المدينة من الضياع.

لكن مع الوقت تبدأ تحولات داخلية عميقة تظهر في شخصيته، خصوصاً حين يواجهه صديقه الموسيقار فاضل بأن التاريخ ليس سلعة، وأن ما تبقى لبشّار ليس حجراً بل حياته نفسها، فيصبح هذا الصراع الإنساني بين رجلين يحبان مدينتهما على طريقتين مختلفتين محوراً أساسياً ينبني عليه الفيلم.

أما فاضل، الموسيقار الذي عاش 3 سنوات من الرعب تحت حكم «داعش»، فكان يخفي آلته الموسيقية خشية إعدامه. يخرج اليوم إلى الشارع، يعزف وسط الأنقاض، يعلّم جيلاً جديداً من الشباب ومعظمهم من الفتيات ويعيد الموسيقى إلى مدينة حاول التطرف أن يخنق صوتها، وجوده في الفيلم لا يقدّم بعداً موسيقياً جمالياً فقط، بل يعكس التغيّر الأعمق الذي عاشته الموصل بعد التحرير، انفتاحاً ثقافياً مفاجئاً وغير متوقع، وعودة للحياة المدنية من خلال الفن، لا السياسة.

التصوير كان رحلة محفوفة بالمخاطر كما يؤكد المخرج، فالكاميرا في العراق ليست موضع ترحيب، الناس يخشونها، السلطات تشك فيها، والمخابئ والممرات تحت الأرض كانت لا تزال مليئة بالألغام وبقايا العبوات، كثيراً ما أوقفته الشرطة أو اتهمه البعض بالتجسس، بينما كان يحاول الحفاظ على سلامة فريقه وسلامة الشخصيات التي ترافقه داخل أحياء مهدمة. ومع ذلك، كان الإحساس بأن الوقت ضيق والمدينة تتغير بسرعة دافعاً له للاستمرار، كما لو أنه يصوّر آخر فرصة لتوثيق ما تبقى من ذاكرة شفافة قبل أن تذوب.

خلال 5 سنوات من العمل، جمع المخرج أكثر من 600 ساعة تصوير، لم يكن يعتمد على سيناريو ثابت، بل على تطور القصة من قلب الواقع، وعلى اللحظة التي يلتقطها بعفوية، وعلى مشاهد تنشأ من الصمت أو من جملة يقولها بشّار أو فخري أو فاضل. ولهذا يبدو الفيلم حياً، غير مشكَّل مسبقاً، أقرب إلى تسجيل نبض مدينة تبحث عن روحها.

عودة الروح والموسيقى إلى الموصل بعد تحريرها من أيدي «داعش» (الشركة المنتجة)

يمتد أثر الفيلم إلى ما يتجاوز الشخصيات، فالموصل التي يظهرها أحمد ليست مجرد مدينة مدمرة، بل مدينة تحاول استعادة معمارها وروحها وذاكرتها، حيث نساء يخرجن إلى الساحات من جديد، فنانون يعيدون افتتاح المسرح، موسيقيون يدرّبون أطفالاً صغاراً، ومتحف وطني يُرمَّم بعد أن دمّره «داعش»، كل تفصيلة تتحرك داخل الفيلم باعتبارها جزءاً من سؤال أكبر؛ هل يمكن لمدينة فقدت كل شيء أن تستعيد هويتها؟ وهل يستطيع الإنسان أن يشفى من ذاكرة الحرب؟

ورغم أن الموصل اليوم أكثر أماناً، فإن المخرج يذكّر بأن الأفكار المتطرفة لا تختفي بسهولة، ويرى أن المدينة مثل مرآة للمنطقة كلها، وأن ما يحدث فيها يعكس ما يمكن أن يحدث في مدن أخرى إذا تُركت بلا دعم حقيقي أو دون إعادة بناء للثقة والوعي والانتماء.