أحيت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية الذكرى المئوية لتأسيسها في مرحلة انتقالية حرجة بعد فشل رئيس الوزراء الفائز في الانتخابات التشريعية الأخيرة في تشكيل حكومة والدعوة إلى اقتراع جديد بعد 3 أشهر.
وأكد ناشر «هآرتس» آموس شوكن أنها «المُدافع الأقوى عن إسرائيل ليبرالية ديمقراطية تعيش في سلام مع جيرانها الفلسطينيين وتضمن حقوقاً متساوية لكل مواطنيها»، وأنها «ستواصل القتال في سبيل الرؤية الصهيونية الحقيقية لإسرائيل»، داعياً القراء إلى دعمها مالياً للاستمرار في عملها، ما يلقي الضوء على تلازم عدد من الأزمات في عالمي الصحافة والسياسة الإسرائيليين على ما يُفهم من كلام شوكن.
من جهة أخرى، يهدد تصاعد نفوذ التيارات اليمينية الإسرائيلية بأنواعها المختلفة؛ الدينية والشعبوية والقومية الصهيونية «العلمانية»، بتكريس التغيرات التي تشهدها إسرائيل بانزياحها المستمر منذ 4 عقود نحو اليمين الرافض لأي نوع من السلام مع الفلسطينيين، على المستوى السياسي، ونحو الغلبة الديموغرافية للشرقيين بعدما شكّل اليهود الذين جاءوا من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ذخيرة لقوى اليمين خلافاً للتوقعات التي كانت تراهن على دعمهم لليسار العمالي بقيادته الأوروبية. «اتخاذ هذه التغيرات سمة نهائية غير قابلة للانعكاس»، هو ما يحمل شوكن على الإصرار على الطبيعة الليبرالية الديمقراطية التي يتمناها بعد سلسلة من انتصارات اليمين القومي والديني في الأعوام الماضية، خصوصاً لناحية تمرير قانون يهودية الدولة.
من جهة ثانية، تحمل «هآرتس» في داخلها جملة من التناقضات تكرر تناقضات المشروع الصهيوني الذي يريد شوكن الدفاع عنه. فهي باتت المنبر الوحيد في إسرائيل، حيث يمكن العثور على أصوات نقدية صريحة للسياسات الإسرائيلية حيال الفلسطينيين سواء في غزة أو الضفة الغربية والشتات. تراجع عدد الكتاب النقديين لهذه السياسات في الأعوام القليلة الماضية وأصبح تمثيله في طاقم المحررين شبه محصور باثنين: أميرة هاس وجدعون ليفي اللذين لا يتوقفان عن تعرية المواقف العنصرية وكشف أخطار المغامرات التي تدفع إليها القوى المتطرفة الحاكمة، ما يرتد على الكاتبين وعلى كل من يبدي قدراً من الاعتدال في الصحافة الإسرائيلية، بكيل التهديدات ومحاولات العزل والتطويق على الصعيدين الشخصي - الإنساني والمهني. في المقابل، تحمل «هآرتس» أو «الأرض» همّ المشروع الأصلي الذي وضعه آباء «الييشوف» اليهودي في فلسطين تحت الحكم العثماني والانتداب البريطاني. وتحاول منذ تأسيسها بعد شهور من انسحاب القوات التركية من القدس، أن توازن بين حملين ثقيلين: المشروع الصهيوني الذي يسهل ظهور وجهه مشروعاً للتمييز العنصري (أبرتهايد) الصريح - وفي ذلك صدر قرار عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ثم أُلغي لاحقاً - ضد الشعب الفلسطيني سواء في أراضي 67 أو 48، والقيم الليبرالية الديمقراطية التي جاء بها قسم من المستوطنين الأوروبيين معهم من تجاربهم في الأحزاب الاشتراكية والعمالية في القارة العجوز.
يعيد عدد من المقالات المنشورة في ذكرى «هآرتس» المئوية التذكير بالكيفية التي بدأت الجريدة فيها بالنشر، بعد شرائه الرخصة العبرية لصحيفة «أخبار فلسطين» التي كان يصدرها الجيش البريطاني بـ6 لغات؛ هي الإنجليزية والعربية والعبرية و3 لغات هندية (بسبب وجود الآلاف من العسكريين الهنود في صفوفه في فلسطين)، بعد احتلاله القدس كنشرة أنباء عن أوضاع الجنود واعتماد اسم «حداشوت هآرتس» (أخبار الأرض) في أعوام الصدور الأولى ثم الاكتفاء بـ«هآرتس». أما التمويل فجاء من رجل الأعمال اليهودي الروسي إسحق ليب غولدبرغ الذي اشترى امتياز الصدور من الجيش البريطاني.
لم تكن «هآرتس»، بطبيعة الحال، الجريدة الأولى في المنطقة العربية التي شهدت منذ أواخر القرن 19 ازدهاراً ملحوظاً في الصحافة سواء باللغة العربية أو باللغات الأجنبية. بيد أن «هآرتس» من الصحف القليلة التي احتفظت بخط سياسي متواصل منذ نشأتها هو خط يسار الوسط الصهيوني. وعبّرت عنه وحملت قضاياه وأصيبت بأزماته. وصراعها الحالي من أجل البقاء، وسط تدفق الاستثمارات على وسائل الإعلام الرقمية والورقية، خصوصاً من المستثمرين اليهود الأميركيين الممالئين لليمين المتطرف، يعكس بالضبط أزمة الخط السياسي الذي تحمله. وفي هذا تباين واضح مع تقلب الصحف العربية بتقلب الأحوال السياسية في بلدانها، ما يعكس ليس فقط ضرورة التأقلم القاهرة التي تعيشها صناعة الرأي العام العربية في ظل القيود الاجتماعية والسياسية المعروفة فقط، ولكن يعكس أيضاً صعوبة البقاء في سوق آخذة في الاضمحلال والتقلص لأسباب اقتصادية واجتماعية تتعلق بتغير سمات جمهور القراء التقليدي وتغير أولويات الأجيال الجديدة.
مئوية «هآرتس»... صحافة بين أزمتين
مئوية «هآرتس»... صحافة بين أزمتين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة