صورة الآخر الإسرائيلي

قراءة في رواية «جنين 2002» لأنور حامد

صورة الآخر الإسرائيلي
TT

صورة الآخر الإسرائيلي

صورة الآخر الإسرائيلي

مع التغيرات التي طالت مؤخرا نظرة العرب للقضية الفلسطينية، والتبدل الحاصل في الموقف الشعبي من فكرة المقاومة في شكلها «الحمساوي»، الإسلامي، خلال الأسابيع السبعة الأخيرة من العدوان على قطاع غزة، ربما باتت الفرصة مواتية لمراجعة تجسيد صورة الآخر الإسرائيلي في الثقافة العربية المعاصرة أيضا، وخاصة تناول الرواية لتلك الصورة، باعتبارها أكثر التجليات الثقافية رواجا، بعد الدراما التلفزيونية.
في روايته «جنين 2002» (2014، المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، يتناول الروائي الفلسطيني أنور حامد، حادثة اجتياح الجيش الإسرائيلي لمخيم جنين الواقع في الضفة الغربية في أبريل (نيسان) 2002، والعملية العسكرية الوحشية التي دارت في أعقابها على امتداد أكثر من عشرة أيام.
تدور أحداث الرواية حول شخصية «ديفيد أشكنازي»، المجند الشاب الذي يشارك في عملية اجتياح المخيم. وأثناء تفتيش أحد البيوت، يعثر ديفيد على مذكرات صبية تدعى «أريج الشايب»، دونتها خلال فترة حصار الجيش الإسرائيلي للمخيم. يعمل ديفيد، لاحقا، على ترجمة مذكرات أريج إلى العبرية، فتفجّر في داخله مجموعة من الأسئلة تطال مباشرة معتقداته ومفاهيمه للوطن والهوية، أي ما كان بالنسبة له من المسلمات، لتقوده في نهاية المطاف إلى العزلة ومن ثم الانتحار. يتشارك البطلان «الضدان»، سرد الأحداث، فنصف العمل يدور في رأس المجند الشاب، والنصف الآخر يحضر من خلال دفتر مذكرات الفتاة الفلسطينية التي تقرر أن توثق يوميات الحصار.
من حيث المبدأ، نحن أمام عمل أدبي دسم. فالموضوع يشكل نقطة مهمة من تاريخ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، والبنيان السردي واعد: فلا راو عليم يفسد على القارئ متعة البحث والتحليل والاستكشاف، ولا بطل أوحد يستأثر بمهمة الحكي. على العكس، ومن الجانب النظري، فالبنية المتوازنة للعمل، من ناحية توزيع الأدوار بالتساوي بين ديفيد وأريج، تعد بنوع من التكافؤ في الأصوات الروائية، الأمر الذي يصعب تحقيقه في النصوص الأدبية التي تعالج الصراعات الكبرى والقضايا الإشكالية.
إلا أن القارئ، وبعد تجاوز الصفحات الأولى، يصاب بنوع من الدوار، ذلك أن ميزان حامد السردي سرعان ما يباشر التأرجح. فمن المستغرب حقا أن يُقدم كاتب فلسطيني الآن، وبعد مضي أكثر من ستة عقود على احتلال فلسطين، على تصوير الآخر الإسرائيلي بهذه العجالة، لا بل حتى السطحية. إذ إن تجسيد الكاتب لشخصية ديفيد جاء مطابقا لصورة الإسرائيلي النمطية الراسخة، للأسف، في المخيال العربي الشعبي: شخص محدود التفكير يعيش داخل فقاعة آيديولوجية كفيلة بأن تعزله كليا عن واقع فلسطيني لا تفصله عنه سوى بضعة أمتار.
ففي اليوم الأول لاقتحام القوات الإسرائيلية مخيم جنين، وأثناء تفتيشه أحد المنازل، يندهش ديفيد حين يعثر داخل إحدى الغرف، على بعض الثياب الملونة، «توحي بأن نشاطا ما كان يدور هنا، نشاط غير عسكري. غريب!» (ص 54). ولدى إدراكه بأن بروفات مسرحية كانت تجرى في المنزل، يقول ديفيد بسذاجة: «لم يكن يخطر ببالي أن سكان المخيم يمارسون نشاطات كهذه». (ص 54).
في الواقع لا أدري ما الذي حدا بحامد لأن يرسم مثل هذا المشهد. وهل يعقل أن ديفيد، أو أي مجند إسرائيلي آخر، بهذا المستوى من العزلة، لا بل الغباء، لدرجة عدم معرفته فيما إذا كان أبناء المخيم يمارسون غير الأنشطة العسكرية؟ أيعقل لشاب في زمن الفضائيات والإنترنت، في أوائل الألفية الثالثة، أن يجهل طبيعة وعادات البشر القاطنين في المدينة المجاورة، حتى وإن كانوا أعداءه الفلسطينيين؟
لا تبدو التحولات التي تطرأ على شخصية ديفيد، بعد كل ما شاهده في المنزل مقنعة بدورها. فما شاهده داخل الغرفة، يقول ديفيد، كان كفيلا بأن «استعدت شيئا من وعيي الإنساني» (ص 55)، الأمر الذي جعله ينظر إلى «المكان (المخيم) بشكل مختلف». (ص 55). سذاجة ديفيد لا تنتهي هنا، فعند رؤيته صورا فوتوغرافية تعود لأصحاب المنزل، يعبر عن دهشته، إذ هي المرة الأولى التي يدرك فيها أن البيت الفلسطيني «فيه أيضا حياة عادية، تشبه حياتنا. فيه ناس يتناولون وجباتهم ويتبادلون الأحاديث، يزورون الجيران ويحتسون القهوة عندهم». (ص. 55) وكأنه اكتشف للتو، قبيلة بدائية على ضفاف الأمازون!
ولو اكتفى حامد بتصوير التمزق الداخلي للشخصية الإسرائيلية، ما بين ولائها للأجهزة الأمنية وماكينتها الدعائية التي تروج لفكرة أن «منفذي الكثير من العمليات الإرهابية الأخيرة (في إسرائيل) من جنين» (ص 51) وبين رفضها المشاركة في «هدم بيوت على رؤوس أصحابها»، أي لو جاء التركيز على معضلة البطل الأخلاقية لحظيت الشخصية بقبول أكبر، خصوصا أن الرؤية لدى الأفراد، تتداخل أثناء الصراعات، ويصعب التمييز بين الحدود الفاصلة، هذا إن وجدت، بين البياض والسواد. ولكن للأسف، يقع حامد في شراك الصورة النمطية للإسرائيلي الأمر الذي يؤدي إلى قيام الشخصية بتصرفات ساذجة.
طبعا نقطة التحول التي تنقل ديفيد من العتمة إلى النور، وتجعله يعيد النظر بموقفه من القضية الفلسطينية، تأتي مباشرة بعد عثوره على مذكرات أريج التي تشكل ذروة الحدث الدرامي التي تتحكم بخيوط العمل، وتسحبه بالاتجاه الذي يريده الكاتب. يقول ديفيد: «لاحظت أنها تقبض بيدها على شيء. كانت تمسك بكراسة مدرسية، عليها بقع دماء. كانت كأنها تحتضنها. هل كانت تعد واجباتها المدرسية؟ حاولت انتزاعها برفق. تمكنت من ذلك بصعوبة. تصفحت الكراسة. ما هذا؟ ليس هذا دفتر واجبات مدرسية. نص عربي، حاولت القراءة. أستطيع قراءة الخط العربي المطبوع، لا خط اليد، مع ذلك واصلت المحاولة. بدأت أتبين بعض الكلمات. غير معقول!! يا إلهي! هذه الفتاة كانت تكتب يومياتها! في أثناء القصف. أنا الآن في مواجهة أنا فرانك أخرى. أنا فرانك الفلسطينية» (ص 57).
من الأمور التي تؤخذ على العمل، الإيقاع السريع للأحداث. فحامد لا يعطي المشهد حقه من المسافة الزمنية، بما في ذلك المشاهد المفصلية. فهل يعقل أن يُمنح مثل هذا المشهد 78 كلمة فقط من أصل صفحات الكتاب التي تتجاوز الـ200؟ حتى إن سرعة البطل بالمقارنة بين أريج و«أنا فرانك» تحتاج إلى فطنة وسرعة بديهة تتناقض مع حجم السذاجة التي أظهرها طيلة العمل.
ليست هذه كل ما واجه ديفيد من أحداث في «أوديسته» عبر المخيم. في أحد البيوت، يعثر ديفيد على صحن فيه بعض من مربى المشمش، الطبق الذي يغير نظرته تجاه ساكني البيت الذين تفترض ثقافته أنهم إرهابيون، بينما هم أناس عاديون. يقول ديفيد: «أحسست بالجوع. داهمتني رغبة بتذوق مربى المشمش. غمست إصبعي بالطبق ولحسته. كان لذيذا. لا بد أن تلك المرأة المسجاة في الغرفة الأخرى كانت طاهية ماهرة. غمست إصبعي مرة أخرى، أحسست بشعور غريب» (ص57).
فصورة الإسرائيلي في هذا المشهد المفصلي هي استجرار لـ«كليشيه» مسطح يفتقد إلى أي عمق. وتجسيد ديفيد هو أقرب إلى التمثيل الطفولي للشخصيات. ديفيد، الذي فيما بعد تتكشف الجوانب الإنسانية من شخصيته، يبدو هنا ككائن متوحش يقتحم البيوت ويقتل أصحابها ومن ثم يتناول طعامهم. فالقارئ أمام مشهد كاريكاتيري مبسط، مرسوم بالأبيض والأسود، قد يصلح لوحة ضمن قصة لليافعين لا أكثر.
بالعودة إلى موضوع الطعام، تستحوذ المأكولات على حيز واسع من الكتاب تترك انطباعا لدى القارئ بأن ما بين يديه هو كتاب عن فنون الطبخ. ذلك أنه، وبخلاف كل التوقعات، يجد نفسه أمام عمل يسلط الضوء على تفاصيل جانبية غير منطقية في ظروف القتل والدمار. فعلى سبيل المثال، نقرأ في مذكرات أريج، أن الفتاة بعد أن وجدت نفسها وحيدة في بيت جدتها التي قتلت جراء القصف، شغلت نفسها بأمور الطبخ. مباشرة بعد مقتل جدتها أمام عينيها تصدمنا أريج بالتفكير فيما ستأكل أثناء الحصار، فتستعرض في ذهنها محتويات مطبخ جدتها «العامر» بـ«المشمش والعنب والسفرجل.. وكبيس الخيار.. والمقدوس من الباذنجان والفلفل» حيث «تحشي الأول بالجوز والثوم والثاني بالبندورة والبقدونس» (ص 89).
بعد مرور أيام على الحصار، وعلى الرغم من اضطرار أريج إلى التقنين بمحتويات المطبخ، تشعر الفتاة برغبة في تناول «الجبنة النابلسية»، وتتساءل بكل برود، بينما تتكوم جثة جدتها في الغرفة المجاورة: «ترى لماذا يسمونها جبنة نابلسية؟».
قد يقول البعض إن حامد استطاع أن يعرض للأحداث اليومية للمخيم التي غالبا ما تُعرِض عنها نشرات الأخبار. لا بل قد يجادل البعض الآخر بأن الروائي قد نجح في تقديم شخصية فلسطينية متحررة من الصورة النمطية للإنسان الفلسطيني، اليساري أو الإسلامي، ذلك أن أريج، الفتاة المراهقة التي تحب ابن الجيران عارف، والمولعة بالحياة والرقص مع الأصدقاء في حفلات عيد الميلاد تمثل محاولة جادة من قبل حامد لتقديم الإنسان الفلسطيني العادي المحب للحياة، المُعرِض عن جميع أنواع العنف والصراع. لكن تبقى أريج شخصية غير مقنعة، وتساؤلاتها الساذجة حول الطبخ، خصوصا إذا ما قيست بحجم المأساة التي حلت بالمخيم، مهينة لعقل القارئ وذائقته أيضا.
رواية «جنين 2002» تضعنا أمام تساؤلات جدية حيال القصور الظاهر في تجسيد صورة الآخر الإسرائيلي في الرواية العربية المعاصرة. من ناحية أخرى، فإن تجدد المواجهة مع قوات الاحتلال تحتم علينا كقراء أن نمارس دورنا عبر المساءلة المستمرة وإعادة التقييم للأعمال الأدبية التي تعالج الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، سعيا للارتقاء بأدوات التصوير السردي للآخر الإسرائيلي وتجاوز القوالب الجاهزة التي وضعت أساسا لإرضاء غرورنا بعد أكثر من نصف قرن من الهزائم.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.