كتابات تعمدت بالدم والنار

روايات وقصص عن الحرب العالمية الأولى لـ47 كاتبا من جنسيات مختلفة

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

كتابات تعمدت بالدم والنار

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يحيي الغرب هذه الأيام الذكرى المئوية الأولى لنشوب الحرب العظمى (1914 - 1918). وفي هذه المناسبة صدر هذا العام عن دار نشر تسمى «ذيل الثعبان» بلندن مجلد في أكثر من 500 صفحة عنوانه: «الأرض الحرام: كتابات من عالم الحرب» (No Man’s Land: Writings from a World at War) حرره بيت آيرتون (Pete Ayrton) يقدم نماذج مما كتبه 47 كاتبا عن هذه الخبرة التي شكلت جزءا مهما من تاريخ القرن الـ20.
حرص الكتاب على أن يقدم أعمالا تمثل كل المشاركين في الحرب ما بين بريطانيين وفرنسيين وألمان وهنود وإيطاليين وروس وأميركيين ونمساويين وأستراليين ونيوزيلنديين وكنديين ويونانيين وتشيك وكروات ومجريين وأرمن وكتالونيين وأتراك وبولنديين. تنوع كبير يشير من ناحية إلى الأبعاد الكونية لهذه الحرب غير المسبوقة. ويتيح لنا من ناحية أخرى، أن نرى الصراع من عدة زوايا. فهنا نرى الحليف والعدو، الرجل والمرأة، الحدث والناضج، وقد التحموا جميعا في عناق مهلك، وتعمدوا بالدم والنار.
يقدم الكتاب مقتطفات من أعمال غدت الآن من الكلاسيكيات ودخلت التراث الأدبي الحديث: مثل رواية «القنغر» للروائي الإنجليزي د.. لورانس، و«رحلة إلى نهاية الليل» للروائي الفرنسي لوي فردينان سيلين، و«كل شيء هادئ في الميدان الغربي» للروائي الألماني إريك ماريا ريمارك. ويقدم أيضا أعمالا لا يعرفها إلا قلائل مثل كتابات عمر سيف الدين (من تركيا) وجوزيف بلا القطالوني الإسباني. وفيما بين هؤلاء وأولئك نلتقي بأسماء لا يمكن إغفالها في مثل هذا السياق، بل في أي سياق: مثل ويليام فولكنر وويلا كاثر من أميركا، وهنري باربوس وجول رومان وجان جيونو من فرنسا، وجون غولز ورذي وريتشارد أولدنجتون من بريطانيا، وإرنست يونجر من ألمانيا، وياروسلاف هاشيك من تشيكوسلوفاكيا وإسحاق بابل من روسيا.
مسرح هذه الكتابات هو الميدان الغربي، والبلقان، والجبهة الإيطالية، وغماليبولي في تركيا، والمعارك البحرية. إنه يسجل ذكريات رجال شاركوا في القتال، ورجال ونساء بقوا وراء الخطوط يشاركون بطرق أخرى في المجهود الحربي، وجنود عادوا إلى الوطن بعد انتهاء الحرب، ولكنهم لم يتمكنوا قط من أن ينسوا ما مروا به من تجارب.
ما الدوافع التي كانت تحرك هؤلاء جميعا؟ الفرنسيين والبريطانيين والألمان، فقد كانت دوافعهم واضحة وبسيطة، فهم يدينون بالولاء لأوطانهم، ويحاربون من أجلها. وأما المحاربون من سائر البلدان فكانت دوافعهم أقل وضوحا، على الأقل لأنهم من بلاد حديثة العهد بالقومية أو بتكوين إمبراطورية خارج الحدود. إن إيطاليا مثلا لم تغد أمة موحدة إلا في 1861، ولم يكن الشعور بالقومية الإيطالية قد تبلور بعد، وكان بعض المحاربين الإيطاليين من أنصار النظام الملكي، بينما البعض الآخر من أنصار النظام الجمهوري. وكثير من الأفارقة والهنود الذين جندوا في القتال لم يكونوا يشعرون بأي التزام وطني نحو الجيوش البريطانية أو الفرنسية التي تستخدمهم، فلا هذه الحرب حربهم، ولا هؤلاء الأوروبيون قومهم. وكان البعض مرتزقة يتطلع إلى الراتب الذي ستعود عليه به الحرب (وهو ما نجده مثلا في رواية الأديب الهندي مولك راج آنند «عبر المياه السوداء»)، وهناك من يطمحون أن تحفظ أوروبا لهم الجميل فتمنح بلادهم الاستقلال بعد نهاية الحرب.
ويوضح الكتاب أن صدمة الحرب جعلت البعض غير قادر على التكيف مع الحياة المدنية عند عودته. في رواية الكاتبة الويلزية هيلين زينا سميث «ليس بهذا الهدوء: ربيبات الحرب» (1930) تقول البطلة التي كانت سائقة عربة إسعاف أثناء الحرب:
«البيت، البيت.. لست آبه.
لست آبه. إني راكدة. عجوز. إني في الواحدة والعشرين، ولكني قديمة قدم التلال. جف مني الوجدان. لقد جففت الحرب كل مشاعري. ضاع مني شيء لن يعود قط. لست أريد أن أعود إلى البيت».
وهناك من رأوا في الحرب دليلا على أن النظام الاجتماعي بحاجة إلى تغيير، وأنه لا بد أن ينشأ نظام دولي جديد تنتفي معه الفوارق بين الأمم والطبقات. وقد كانت فترة ما بعد الحرب، فعلا، فترة حماسة ثورية في بعض البلدان، وإصلاحات ديمقراطية في بلدان أخرى.
يبدأ كتاب آخر بوصف كيف تلقى الناس إعلان الحرب. في رواية هنري باربوس «تحت النار» (1916) نقرأ:
«إنها الثورة الفرنسية وقد قامت من جديد».
ويتمتم آخر: «حذارِ أيتها الرؤوس المتوجة!».
ويضيف ثالث: «ربما كانت هذه هي الحرب التي ستنهي كل الحروب».
وقفة هنا. ويهتز جبين البعض، وما زالوا شاحبين من المأساة الكئيبة لليلة من الأرق الذي يرفض عرقا».
«نهاية للحروب! أيمكن أن يكون هذا؟ إن محنة العالم لا شفاء منها».
وينتهي الكتاب – من وجهة النظر الألمانية – براوي إريك ماريا ريمارك في «كل شيء هادئ في الميدان الغربي» (1929)، وهو يقول، على نحو لا يخلو من بارقة أمل في تجاوز المحنة:
«غير أنه ربما كانت أفكاري هذه كلها مجرد كآبة وارتباك، سيتطايران كالتراب عندما أقف تحت شجر الحور مرة أخرى، وأستمع إلى خشخشة أوراقه. لا يمكن أن تكون قد اختفت كلية: تلك الرقة التي تقلق دمنا، اللايقين، الهم، كل الأشياء القادمة، أوجه المستقبل الألف، موسيقى الأحلام والكتب، الخشخشة والتفكير في النساء. لا يمكن لهذا كله أن يكون قد تساقط في غمرة القصف، والقنوط، ومواخير الجيش. إن الأشجار هنا تتوهج ساطعة ذهبا، وثمار الدردار الجبلي حمراء إزاء الأوراق، ودروب الريف البيضاء تجري نحو الأفق. وفي مقصف الجنود طنين كخلايا النحل عن إشاعات السلام».
ومن مزايا الكتاب أنه يقدم الحرب من منظور المرأة، إلى جانب منظور الرجل. هناك مثلا ماري بوردن، وهي روائية أميركية المولد كتبت مجموعتها القصصية «المنطقة المحرمة» (1929) من واقع عملها ممرضة في أحد المستشفيات الميدانية في إنجلترا. وهناك أيرين راثبون، وهي كاتبة إنجليزية عملت ممرضة في إنجلترا وفرنسا، وكتبت رواية أوتوبيوغرافية عنوانها «نحن الذين كنا شبابا» (1930) صورت فيها كيف أن الحرب كانت زمن مأساة، ولكنها كانت أيضا – وهنا المفارقة – زمن تغير منعش:
«تمتمت مولي: لا بد أنك كنت تلعنين الحرب.
أجل. أجل. ولكني حين أنظر إلى الوراء الآن أظن أننا كنا نحبها أيضا. أواه. كم أن هذا يصعب شرحه. لقد كانت حربنا، كما ترين. ورغم أنها كانت حدثا يوميا وقتها، وكانت نفوسنا تغثى منها، فإنها تبدو الآن ذات سحر أخاذ مروع».
وهناك كاتبة بريطانية أخرى هي فيرا بريتن صاحبة المذكرات التي تسمى «عهد الشباب» (1933) تصور - من منظور المرأة التي بقيت وراء خطوط القتال – مشاعر القنوط التي ولدتها الحرب في نفوس كثير من النساء، حتى إن إحداهن نشرت إعلانا في إحدى الصحف في باب «القلوب المعذبة» نصه:
«سيدة قتل خطيبها (في الحرب) على استعداد أن تقترن – عن طيب خاطر – بضابط فقد البصر تماما، أو مقعد من جراء الحرب بأي صورة». وتتأمل فيرا بريتن قائلة: «للوهلة الأولى يبدو هذا باعثا على الدهشة. ولكن بعد حين تحس بالمأساة المتضمنة هنا: إن السيدة (الغالب أنها قد تقدمت بها السن، وإلا لكانت أشارت إلى نفسها بكلمة «شابة») لا تتمتع بملكات أو مؤهلات كما هو واضح. إنها لا تريد أن تواجه وحشة مستقبل بلا شاغل ولا روابط. لكن الرجل الوحيد الذي أحبته قد مات. وكل الرجال الآن سواء في نظرها، ولم يعد يهم من الذي ستتزوجه، ومن ثم فهي تعتقد أنها ستتزوج رجلا يحتاج إليها حقا. إن رجلا فقد بصره أو شوه بدنه – باقي حياته – ليس أمامه كبير فرصة لأن يقع في حب أحد. وحتى لو أحب فلن يجرؤ على البوح بذلك. لكنه سيكون بحاجة إلى ممرضة دائمة. وإذا هي اقترنت به فستؤدي له أكثر مما تؤديه الممرضة، وربما وجدت عزاء عن حزنها في تكريس حياتها لأحد. ومن هنا كان الإعلان. أتراه سيتلقى ردا؟ إنه ترتيب عملي صرف، ولكنه يتضمن عنصرا من التضحية بالذات يستحق الاحترام.
تكشف هذه الكتابات عن الوحشية التي يمكن أن ينحدر إليها الإنسان. كما تكشف – على نحو مدهش – عن قدرته على التضامن والتعاطف في قلب ظروف بالغة القسوة. وهي تلقي الضوء على حقبة تغيرات مهمة في الأبنية الاجتماعية والسياسية والفنية. لقد عاصر هؤلاء الكتاب فنانين من طراز سترافنسكي وفبرن في الموسيقى، وبول كلي وليجيه في فن التصوير، وفرانك لويد رايت في العمارة – ولكن هذه قصة أخرى.



متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»


قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة
TT

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب «سيمياء الخطاب الشعري... مقاربات نقدية في الشعرية المعاصرة» للناقد والأكاديمي المصري الدكتورأحمد الصغير، أستاذ الأدب العربي.

يقدم الكتاب عبر (428) صفحة من القطع المتوسط، رؤى تأويلية لعوالم قصيدة النثر، من خلال رصد الملامح الجمالية والمعرفية في قصيدة الحداثة، ويعتمد على مقاربة سيميائية تأويلية من خلال إجراءات السيمياء والتأويل عند روبرت شولز، وبيرس، وجريماس، وسعيد بنكراد، وكمال أبو ديب، وعز الدين إسماعيل، وصلاح فضل، وجابر عصفور، ومصطفى ناصف... وغيرهم.

يتكون الكتاب من مقدمة وتمهيد وتسع عشرة قراءة نقدية، منها: بنية الخطاب الدرامي في الشعرية العربية المعاصرة، بناء الرمز في قصيدة محمد سليمان، بلاغة المفارقة في توقيعات عز الدين المناصرة، تعدد الأصوات في ديوان «هكذا تكلم الكركدن» لرفعت سلام، «قراءة في الشعر الإماراتي، عين سارحة وعين مندهشة» للشاعر أسامة الدناصوري، «في المخاطرة جزء من النجاة»... قراءة في ديواني «حديقة الحيوانات ومعجزة التنفس» للشاعر حلمي سالم، قراءة في ديوان «الأيام حين تعبر خائفة» للشاعر محمود خير الله، قراءة في ديوان «الرصيف الذي يحاذي البحر» للشاعر سمير درويش، قراءة في ديوان «أركض طاوياً العالم تحت إبطي» للشاعر محمد القليني، أسفار أحمد الجعفري «قليل من النور، كي أحب البنات»، شعرية الأحلام المجهضة «لعبة الضوء وانكسار المرايا» للنوبي الجنابي، قراءة في «مساكين يعملون في البحر» للشاعر عبد الرحمن مقلد، وشكول تراثية في قصيدة علي منصور، وصوت الإسكندرية الصاخب في شعر جمال القصاص، وشعرية الحزن في ديوان «نتخلص مما نحب» للشاعر عماد غزالي، وشعرية المعنى في ديوان «في سمك خوصة» للشاعر محمد التوني، وشعرية المجاز عند أسامة الحداد.

يقول الصغير في المقدمة: تأتي أهمية هذا الكتاب من خلال الوقوف على طرح مقاربات نقدية استبصارية، معتمدة على المقاربات التطبيقية للقصيدة العربية المعاصرة تحديداً، وذلك للكشف عن بنية الخطاب الشعري في الشعرية العربية المعاصرة، مرتكزاً على منهجية معرفية محددة؛ للدخول في عوالم القصيدة المعاصرة، مستفيدة من مقاربات السيميائية والتأويلية بشكل أساس؛ لأن القصيدة العربية، في وقتنا الراهن، ليست بحاجة إلى شروح تقليدية، لأنها صارت قصيدة كونية، ثرية في المبنى والمعنى، تحتاج لأدوات نقدية متجددة، تسهم في عملية تفكيكها وتأويلاتها اللانهائية، كما يطرح البحث أدوات الخطاب الشعري التي اتكأ عليها الشعراء المعاصرون، ومن هذه الأدوات «الرمز الشعري، المفارقة بأنواعها، والدرامية، الذاتية، والسينمائية، السردية، وغيرها من الأدوات الفنية الأخرى».

يذكر أن أحمد الصغير، يعمل أستاذاً للأدب والنقد الحديث بكلية الآداب، جامعة الوادي الجديد. ومن مؤلفاته «بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربي الحديث»، و«النص والقناع»، و«القصيدة السردية في شعر العامية المصرية»، و«القصيدة الدرامية في شعر عبدالرحمن الأبنودي»، و«تقنيات الشعرية في أحلام نجيب محفوظ». و«آليات الخطاب الشعري قراءة في شعر السبعينيات»، و«التجريب في أدب طه حسين».