جورج قرم يطرح «نظرة بديلة إلى مشكلات لبنان»

المواطنون يزدادون يأسا من تحسن أوضاع بلادهم بسبب النظام الطائفي المعتمد

جورج قرم
جورج قرم
TT

جورج قرم يطرح «نظرة بديلة إلى مشكلات لبنان»

جورج قرم
جورج قرم

قد يجد القارئ في هذا الكتاب تفسيرا لسوء الأداء السياسي والاقتصادي في لبنان، الذي يحرم المواطن من أبسط ظروف العيش الكريم. لقد مر لبنان كما هو معروف بأحداث جسيمة تغلب على تداعياتها، لكن تفاقم الأزمات والمشاكل السياسية والإنمائية، وتدنِّي أداء الدولة، وتفاقم الأزمات المعيشية، وتراجع حالة الخدمات العامة، زاد من يأس المواطنين في تحسين أوضاع بلادهم، خصوصا مع ما يحصل في دول الجوار من ثورات، ويرتد سلبا على الوطن الصغير المساحة. فقد ازداد الانقسام الحاد بين الزعامات السياسية اللبنانية، وارتفع الدين العام على الرغم مما أنفقته الدولة منذ ثلاثين سنة بحجة الإعمار، وعلى الرغم من موارده الطبيعية، وكفاءاته البشرية التي لا يعلم كيف يستغلها في الداخل فيرحلها إلى خارج حدود الوطن.
قسّم المؤلف كتابه الصادر عن «دار الفارابي»: «نظرة بديلة إلى مشكلات لبنان السياسية والاقتصادية»، إلى جزءين: الأول يتعلق بالأوضاع السياسية، والثاني بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وفي الجزءين اقتراحات عديدة حول المعالجات الممكنة خارج الإطار التقليدي لكل من الثقافة السياسية والاقتصادية اللبنانية، وذلك اعتقادا منه بأن المشكلة التي نشعر بأنها مستعصية الحل هي مطروحة بشكل غير صحيح.
يطرح المؤلف مجموعة أسئلة محورية حول إمكانية فصل السياسة عن الاقتصاد في الأزمة اللبنانية، ومصير نظام لبنان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وما هي قدرة البلاد على الصمود أمام المتغيرات العملاقة التي تشهدها المنطقة
هناك الكثير من اللبنانيين الذين يعتقدون أن الأزمة هي نتيجة سوء أداء السياسيين واستهتارهم بالمصلحة العامة، ولذلك لا ترى هذه الفئة أي فائدة من الخوض في أمور الإصلاح، طالما أن لبنان خاضع للنظام الطائفي الذي جعل خيرات البلاد مجرد تقاسم مغانم بين الزعماء.
ويرى بعض اللبنانيين أن أصل البلاء هو في هيمنة سوريا على هذا النظام وتداخلها فيه بشكل متواصل، سواء خلال سيطرتها ووجودها في لبنان أم بعد خروجها من لبنان عام 2005. وفي نظر هؤلاء أن مجرد تغيير النظام في سوريا سيسمح بحل المشاكل التي يتخبط فيها لبنان.
ويرى فريق ثالث من اللبنانيين أن أصل الداء في سوء تطبيق اتفاق الطائف وانحرافه نحو نظام «الترويكا» وعدم تحقيق الإنماء المتوازن والوفاق الوطني الحقيقي. وهناك فئة واسعة من اللبنانيين تعتقد أن الوضع لا يمكن أن يتحسن في ظل استمرار الصراع العربي الإسرائيلي.
هذه الطروحات الأربعة تؤكد استحالة إجراء أي إصلاح اقتصادي من دون إعادة النظر في الوضع الإقليمي، وكذلك في الوضع السياسي الداخلي، وهي طروحات تؤدي كلها إلى طريق مسدود.
ويرى المؤلف ضرورة إعادة النظر بشكل جذري في هذه الطروحات. ويقول إن الحكمة التقليدية ترى أن استقرار الأحوال وحسن الحكم السياسي هما القاعدة الأساسية للنمو الاقتصادي والازدهار. لكن هناك دولا مارست أنواعا مختلفة من الاستبداد والعشوائية، ومع ذلك فإن معدلات النمو الاقتصادية فيها كانت عالية. مثال ألمانيا في القرن التاسع عشر في عهد بسمارك، وتشيلي في سبعينات القرن الماضي عندما استولى الجيش على الحكم. وكوريا الجنوبية التي لم يسد فيها الفساد فقط إنما أيضا الاضطراب الأمني والحرب الشعواء التي عصفت بشبه الجزيرة الكورية، وقسّمتها إلى دولتين متناحرتين، كما يستشهد بالإنجازات الأولى للثورة الصناعية وبوادرها التي تمت في أجواء الحروب الدينية بين البروتستانت والكاثوليك، أو في حالة حرب مستمرة في إيطاليا بين الإمارات والممالك والجمهوريات الشهيرة مثل البندقية وجنوى وفلورنسا.
أما الفكر الاقتصادي العربي فلا يزال يعتمد النظرة التبسيطية، فهو يجد في الأوضاع الأمنية المضطربة عذرا سهلا لتفسير العجز الهائل للمجتمعات العربية في امتلاك القدرات التكنولوجية الحديثة والمساهمة في حركة التجارة الدولية والعولمة على قدم المساواة مع البلدان التي انتشلت نفسها من الحلقة المفرغة للتخلف وأصبحت فريقا مهما في الحياة الاقتصادية الدولية، مثل دول شرق آسيا ككوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وماليزيا، وهذه الأخيرة دولة إسلامية تمكنت من الإفلات من حلقة التخلف.w
يعرض المؤلف المنظومة الفكرية بين أنصار وظيفة لبنان الخدماتية والتوسطية وأنصار الإنماء المتوازن، والتي أثارت جدلا بين مدرستين. فالمدرسة الأولى استلهمت كتابات ميشال شيحا، وتبرر طرحها بالتراث الغني والمتعدد الجوانب، وتختصر هذا الإبداع بالتجارة والسياحة والهجرة والسمسرة، بينما كانت المدرسة الثانية تبرر موقفها بأن للبنان موارد مائية وزراعية مهمة وكفاءات بشرية مهمة. لذلك كانت ترى إمكانية تطوير الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد متنوع يعتمد على القطاع الزراعي والصناعي والخدماتي في آن واحد. وكانت ترى في هذا التطوير تأمينا لفرص عمل كافية لاستيعاب سرعة زيادة السكان.
كسبت المدرسة الأولى المعركة إلى عهد فؤاد شهاب الذي عمل بسياسة اقتصادية واجتماعية تهدف إلى التنمية المتوازنة بين كل المناطق اللبنانية، وإلى تقوية كل من القطاعين الزراعي والصناعي، إضافة إلى تقوية أجهزة الدولة الاقتصادية والاجتماعية. فأنشأ البنك المركزي والضمان الاجتماعي والمشروع الأخضر وكثيرا من المشاريع التنموية.
لم تحظ الشهابية بدعم البرجوازية التجارية والمالية التي ظلت أسيرة حلم وخيال تحويل لبنان إلى جمهورية تجارية مركزة في بيروت، تخدم المنطقة، وتصبح نوعا من إمارة شبيهة بمونت كارلو. وكانت هناك مساع مختلفة لجعل لبنان جنة ضريبية. ومن العوامل التي دعمت اتجاهات المدرسة الأولى إثراء المنطقة العربية بعد عام 1973 وارتفاع أسعار النفط، وهجرة الكثير من اللبنانيين إلى الدول المصدرة للنفط وإثراؤهم السريع نتيجة السمسرة والتوسط. فوجد لبنان نفسه في نهاية الحرب أمام أعداد ضخمة من الأثرياء الذين يرون الانتعاش الاقتصادي فقط من خلال الصفقات والأعمال المخالفة للقوانين الضريبية والاقتصادية بشكل عام.
والحقيقة أن الفريق الإعماري فاتته التغييرات الاقتصادية الكبيرة التي حصلت في المنطقة العربية خلال السنوات العشرين التي عصفت خلالها الحرب في لبنان. فدول الخليج العربي طورت بنيتها التحتية إلى أبعد الحدود، وأقامت مؤسسات مصرفية وتجارية وخدماتية عملاقة. وتم إلغاء التشريعات الاشتراكية التقييدية في الدول التي كانت تنحو هذا المنحى. لذلك لم يعد الاقتصاد اللبناني حاجة ماسة لاقتصاد المنطقة، إذ إن جميع الأقطار العربية المجاورة أسست علاقات وثيقة مع الأسواق العالمية الصناعية والمالية والخدماتية.
إن إصلاح البنية الاقتصادية اللبنانية يتطلب إصلاح ثلاثة محاور أساسية في رأي جورج قرم:
1) النظام الضريبي لجعله يتناول المداخيل المالية والريعية الطابع وتخفيف وطأته عن المداخيل الناتجة عن نشاطات إنتاجية.
2) القضاء التدريجي على دولرة الاقتصاد، وعلى استعمال ازدواج العملة لتوليد مداخيل غير شرعية على حساب الخزينة.
3) إصلاح النظام التربوي لكي يهتم بإبقاء شباب لبنان في وطنهم، فهجرة الكفاءات ليست أمرا حتميا.
ويرى المؤلف أن النظام الطائفي في لبنان نتاج تاريخه الحديث، فنظام جبل لبنان في ظل الإمارة المعنية والشهابية كان نظاما إقطاعيا عابرا للطوائف. وقد بدأ مسار تسييس الطوائف بتصاعد نفوذ الدول الأوروبية الكبرى داخل مقاطعات السلطنة العثمانية، وبعد انهيار السلطنة توسع ‏تسييس الطوائف. ‏
إن لعبة تسييس الطوائف وإدخالها في شبكات النفوذ الإقليمي والدولي يحول دون قيام دولة قوية ومستقلة. فالنظام الطائفي يعكس التوازنات الإقليمية والدولية بدلا من أن يكون أداة صالحة لتحقيق الديمقراطية التوافقية كسويسرا وبلجيكا وهولندا التي تلعب فيها العرقية أو المذهبية دورا كبيرا، ‏إنما ضمن ديمقراطية شفافة وسيادة كاملة لسلطة الدولة. أما في لبنان فالطوائف تقف حاجزا بين المواطن والدولة، فوجود الدولة مشروط باستمرار بحسن نية زعماء الطوائف، وهم بدورهم خاضعون لنفوذ دول أجنبية. فالطريق إلى السيادة يتطلب العمل على جبهتين:
1) رفض المواطنين ‏لظاهرة تسييس الطوائف من جهة.
2) فصل البنية القانونية للدولة عن البنية القانونية للطوائف من جهة أخرى.‏
ويقترح المؤلف أفكارا للإصلاح المؤسساتي في لبنان. فعلى صعيد السلطة التنفيذية يرى أن يُنتخب رئيس السلطة التنفيذية بالاقتراع العام، لأن رئيس الدولة الذي لا ينتخبه الشعب ما هو إلا صورة شكلية للحكم لا يتمتع إلا بالقليل القليل من السلطة والصفة التمثيلية. فالانتخاب على أساس الاقتراع العام سيسمح بإلغاء الالتباس بين تمثيل الطائفة وتمثيل الشعب كله.
أما النظام الانتخابي الأغلبي في دورة واحدة فهو الأسوأ بين الأنظمة، فهو يكرس نظام الزعامة ووراثة التمثيل السياسي. فحكم الزعماء يعني تحويل الديمقراطية إلى حكم الأثرياء، أي أنه نقيض الروحية الجمهورية. وحده النظام الانتخابي النسبي كفيل بأن يؤمّن تمثيل كل التيارات السياسية ويشجع وجود الأحزاب التي تقدم برامج واضحة، في حين أن الاقتراع بالأغلبية في دورة واحدة يشجع الشعبية الفردية وتأثير المال ونفوذ الزعماء.
يرى المؤلف أن تناول قضية الشرق الأوسط ووضع لبنان الصعب فيه من الأمور المعقدة والحساسة. فانقسام اللبنانيين منذ قرنين كان موضوعه تحالفات البلاد مع الخارج. ولا يزال هذا الانقسام يشكل نقطة التباين المحوري وفي حال لم ننجح في تخطي هذا التباين ستستمر التجاذبات المتناقضة في تمزيق لبنان. فالثقافة الأوروبية ترى في منطقة الشرق الأوسط منطقة مركزية في الصراعات الدولية. فالشرق الأوسط يحوي أكبر مخزون طاقة في العالم، ويتمتع بموقع استراتيجي بين القارات الثلاث، ومنبع الديانات التوحيدية.
فلماذا تخلف العرب وتقدم الغرب؟ يكمن الجواب في نقاط يختصرها المؤلف في انقسام العرب بين مؤيد للغرب ورافض له. وقد تغلبت المدرسة الأولى، غير أن الأقاليم العربية التي تحررت من السلطنة العثمانية وقعت في قبضة الدول الأوروبية، ولم تتمكن من التوحد، وتكونت بعض المحاور المتخاصمة بين الأقطار العربية.
كتاب الدكتور جورج قرم مساهمة جدية في توصيف المجتمع اللبناني والفرقاء الذين يقبضون على خناق اللبنانيين.



متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»


قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة
TT

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب «سيمياء الخطاب الشعري... مقاربات نقدية في الشعرية المعاصرة» للناقد والأكاديمي المصري الدكتورأحمد الصغير، أستاذ الأدب العربي.

يقدم الكتاب عبر (428) صفحة من القطع المتوسط، رؤى تأويلية لعوالم قصيدة النثر، من خلال رصد الملامح الجمالية والمعرفية في قصيدة الحداثة، ويعتمد على مقاربة سيميائية تأويلية من خلال إجراءات السيمياء والتأويل عند روبرت شولز، وبيرس، وجريماس، وسعيد بنكراد، وكمال أبو ديب، وعز الدين إسماعيل، وصلاح فضل، وجابر عصفور، ومصطفى ناصف... وغيرهم.

يتكون الكتاب من مقدمة وتمهيد وتسع عشرة قراءة نقدية، منها: بنية الخطاب الدرامي في الشعرية العربية المعاصرة، بناء الرمز في قصيدة محمد سليمان، بلاغة المفارقة في توقيعات عز الدين المناصرة، تعدد الأصوات في ديوان «هكذا تكلم الكركدن» لرفعت سلام، «قراءة في الشعر الإماراتي، عين سارحة وعين مندهشة» للشاعر أسامة الدناصوري، «في المخاطرة جزء من النجاة»... قراءة في ديواني «حديقة الحيوانات ومعجزة التنفس» للشاعر حلمي سالم، قراءة في ديوان «الأيام حين تعبر خائفة» للشاعر محمود خير الله، قراءة في ديوان «الرصيف الذي يحاذي البحر» للشاعر سمير درويش، قراءة في ديوان «أركض طاوياً العالم تحت إبطي» للشاعر محمد القليني، أسفار أحمد الجعفري «قليل من النور، كي أحب البنات»، شعرية الأحلام المجهضة «لعبة الضوء وانكسار المرايا» للنوبي الجنابي، قراءة في «مساكين يعملون في البحر» للشاعر عبد الرحمن مقلد، وشكول تراثية في قصيدة علي منصور، وصوت الإسكندرية الصاخب في شعر جمال القصاص، وشعرية الحزن في ديوان «نتخلص مما نحب» للشاعر عماد غزالي، وشعرية المعنى في ديوان «في سمك خوصة» للشاعر محمد التوني، وشعرية المجاز عند أسامة الحداد.

يقول الصغير في المقدمة: تأتي أهمية هذا الكتاب من خلال الوقوف على طرح مقاربات نقدية استبصارية، معتمدة على المقاربات التطبيقية للقصيدة العربية المعاصرة تحديداً، وذلك للكشف عن بنية الخطاب الشعري في الشعرية العربية المعاصرة، مرتكزاً على منهجية معرفية محددة؛ للدخول في عوالم القصيدة المعاصرة، مستفيدة من مقاربات السيميائية والتأويلية بشكل أساس؛ لأن القصيدة العربية، في وقتنا الراهن، ليست بحاجة إلى شروح تقليدية، لأنها صارت قصيدة كونية، ثرية في المبنى والمعنى، تحتاج لأدوات نقدية متجددة، تسهم في عملية تفكيكها وتأويلاتها اللانهائية، كما يطرح البحث أدوات الخطاب الشعري التي اتكأ عليها الشعراء المعاصرون، ومن هذه الأدوات «الرمز الشعري، المفارقة بأنواعها، والدرامية، الذاتية، والسينمائية، السردية، وغيرها من الأدوات الفنية الأخرى».

يذكر أن أحمد الصغير، يعمل أستاذاً للأدب والنقد الحديث بكلية الآداب، جامعة الوادي الجديد. ومن مؤلفاته «بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربي الحديث»، و«النص والقناع»، و«القصيدة السردية في شعر العامية المصرية»، و«القصيدة الدرامية في شعر عبدالرحمن الأبنودي»، و«تقنيات الشعرية في أحلام نجيب محفوظ». و«آليات الخطاب الشعري قراءة في شعر السبعينيات»، و«التجريب في أدب طه حسين».