بسام منصور: كلما اقتربت من الكلام هرب مني

قال إنه هرب من لبنان لأنه لا يحب «المواجهة في الوحل»

غلاف المجموعة  -  بسام منصور
غلاف المجموعة - بسام منصور
TT

بسام منصور: كلما اقتربت من الكلام هرب مني

غلاف المجموعة  -  بسام منصور
غلاف المجموعة - بسام منصور

صدر للشاعر والإعلامي اللبناني بسام منصور ديوان جديد هو «يكفي أن تعبر الليل» (دار النهضة العربية - بيروت) بعد انقطاع استمر فترة طويلة، لكن هذا لا يعني أنه انقطع عن كتابة الشعر، شاغله الأول والأخير. ويأتي الديوان الجديد وقد تكثفت فيه تجربته الشعرية التي تجلّت في ديوانيه السابقين «وجاء أنه» 1986 و«الفصول السبعة» 2002. عمل منصور منذ استقراره في باريس عام 1976، في مؤسسات صحافية عربية وأجنبية كثيرة، منها مسؤول إعلامي للمنطقة العربية في منظمة اليونيسكو، حيث أشرف على تأسيس موقعها وتحريره. هنا حوار معه عن تجربته الشعرية بمناسبة صدور مجموعته الجديدة:
> مر زمن طويل منذ أن أجريت معك حواري الأول، وها أنا أعود إليك بعد قراءة مجموعتك الجديدة بعين جديدة، ما الذي اختلف بين هذين التاريخين؟
- هل فعلاً مر كل هذا الوقت؟ هل ترانا ما زلنا على قيد الحياة أم يشبه لنا؟ في أي معطف اختبأنا حتى وصلنا إلى ما نحن وصلنا إليه وأي عربة زمن امتطينا؟ ليتني قادر أن أعود في هذه العربة إلى أول الوقت لأصحح كل أخطائي وأخطاء غيري، ينزلق الوقت بين أيدينا من دون أن نتمكن من الإفادة منه لتحسين ظروف حياتنا وتحسين مجتمعاتنا لبناء غد أفضل. أرى أن العالم يسير من سيئ إلى أسوأ، وما الابتكارات العلمية والرقمية الجديدة والمتسارعة إلا لتزيد من بؤسنا قبل أن تزيد من سعادتنا. في لقائنا الأول، كنا لا نزال نحلم بأن نبني مجتمعات عادلة قائمة على الإنصاف والمساواة والكرامة للجميع... والذي اختلف اليوم هو أننا نود أن نعود إلى ذلك الوقت لنكتفي به ونمنعه من التقهقر.
> لماذا ينقطع الشاعر في نظرك عن كتابة الشعر؟
- لا أعتقد أن الشاعر يمكن أن ينقطع عن كتابة الشعر لأنه شرط وجوده بالمعنى الفعلي والمجازي. قد يكون هناك بعض الخوف والتردد والشعور الكبير بالعبث ولكن التخلي والانقطاع من الأمور المستحيلة. إن الموهبة لا تجف وهي لا تمتلئ أبداً، الموهبة رحم يجب أن تخصب حتى تنجب. ولكن حالة الخصب فيها لا تكتفي بلقاح واحد إنه لقاح متعدد المصادر والأماكن. ما تكتبه الآن قد تجده ساذجاً غداً وتعود وتجده رائعاً بعد غد.
> حاولت في مجموعتك «يكفي أن تعبر الليل» أن تعمل على تكثيف تجربتك السابقة في ديوانيك «وجاء أنه» 1986 و«الفصول السبعة» 2002.
- «كلما كتبت كلمة ابتكرتها» كتبت ذات مرة. إن ما تسميه تكثيفاً موجود دائماً في محاولاتي الإبداعية. الكلمة عالم لا يتكرر. إنه تجديد دائم. كلما اقتربت من الكلام هرب مني كأنني وحش ضار في عالم من المخلوقات السحرية. وليس التجريد إلا محاولات صعبة لكشف ما يصعب الكشف عنه من عالمنا ووجودنا. قد تجد طريقك إلى النور عبر الحب أو عبر الغناء أو عبر الرياضة، أما أنا فطريقي في الحب والغناء والرقص والرياضة بالكلام. الكلمة هي كبسولة وصولي إلى خفايا الكون المجهول.
> أثارت قصيدة النثر جدلاً بين شعر التفعيلة والشعر التقليدي العربي، يصل أحياناً إلى الطلاق بينهما... ما رأيك؟
- إن الشعر موجود في النثر منذ بدايات الوقت وفي كل الثقافات والحضارات. وفي اللغة العربية قبل غيرها، فإن النثر العربي التراثي خزان شعري هائل والأمثلة كثيرة. وضع الدكتور والشاعر أديب صعب في مقالته عن «مجموعة يكفي أن تعبر الليل» إصبعه على جانب لم أكن أعيه؛ هو أنني اعتمدت التفاعيل في أمكنة ما من دون وعي بذلك. واسمح لي أن أشاركك رأيه: «نلاحظ أنّ العبارة الأخيرة، (تُغمِض في جفن الحبّ ويَسهو)، تجري على إيقاع (فعلن)، الذي يتكون منه الوزن المتدارَك. على هذا الإيقاع أيضاً عبارة (لو كان الشعرُ امرأةً)، وأيضاً: (وَجهُكَ أجملُ ما في المرآة). ومن الموزون على مجزوء الخفيف (فاعلاتن مفاعلن): (يَعبرُ الوقتُ دونَنا). ومن الإيقاع نفسه: (أنتَ والوقتُ توأمان). وعلى الكامل (متفاعلن): (ما لي وما لكِ والطريقُ قصيرُ؟). وعلى المتقارِب (فعولن): (وتَرمي بها في المحيطِ البعيد)».
إن التماهي في الشعر هو أكثر جدوى من التماهي في الأشكال. الشعر جوهر.
> لماذا لجأت إلى باريس بعد نشوب الحرب الأهلية؟ هل مهمة الشاعر الهروب من واقعه أم مواجهته؟
- إن الحرب الأهلية اللبنانية بالنسبة إلي أبشع الحروب في التاريخ. وما كان لي، وأنا في التاسعة عشرة من عمري، أن أتعايش مع هذه الحرب بأي شكل من الأشكال. تلك الحرب البشعة أجهضت أحلامنا بالتقدم والحرية والسعادة للجميع، وبدل أن نتقدم عدنا معها إلى العصر الحجري، بأسوأ صوره لأنه عصر حجري بتقنيات حديثة. وما كنت أخاف منه في ذلك الوقت تحقق اليوم بحيث توسعت هذه الحرب الأهلية واتسعت وأصبحت حرباً أهلية عربية. هربت؟ نعم هربت. لا أحب المواجهة في الوحل. وأدعو جميع الشباب أن يفعلوا مثلي ويهربوا من الحروب حتى لا يعود لتجار السلاح من يشتري منهم.
> ما مخاطر الغنائية على الشعر في نظرك؟
- الغنائية ليست خطراً ما دام أنها لا تنزلق إلى السطحية. وأعتقد أننا اليوم في وقت تداخلت فيه المدارس القديمة لابتكار عالم جديد معقد كلما دخلت إليه تعيد اكتشافه من جديد. في قول المتنبي: «حببتك قلبي قبل حبِّك من نأى وقد كان غداراً فكن أنت وافياً»، هناك غنائية دائمة لكل العصور وعلى مدى الدهور. وكذلك في «عيناك غابتا نخيل ساعة السحر» لبدر شاكر السياب... مهمتي أن أهز أغصان الشعر من كل العصور حتى تبقى المواسم مثمرة بالكلام الأليف.
> ما علاقتك بالشاعر الراحل أنسي الحاج؟ وما تقييمه لك من وجهة نظر شاعر، وأنت تخاطبه في بعض قصائدك؟
- أنسي الحاج الشاعر الملعون، الشيطان والملاك في آن. لقد اجتمعت فيه كل الصفات وليست قادرة على تلخيصه. كان شاعراً نادراً وكائناً نادراً وصحافياً نادراً. في الشعر كان من أوائل الثوار، بمعنى دفع الشعر حتى الطرف الآخر للحرية في التعبير والخيال، وكان متطرفاً في مخيلته التي تحولت معه آلة للخصب الدائم. إنني محظوظ جداً أن هذا الشاعر الكبير وهذا الإنسان الكبير كان واحداً من أساتذتي.
> هل تعتقد أن القصيدة تنتهي عند عنوان معين؟ أم أن النص هو الذي يحرر الشاعر من قيوده؟
- أحياناً، يكون العنوان أصعب شيء يمكنني أن أكتبه بعد الانتهاء من القصيدة. تشتبك العناوين في مخيلتي وتتزاحم. وأحياناً، يأتي العنوان كأنه الطلق الأول لمولد القصيدة. إن القصيدة تبدأ ولا تنتهي لأن حدودها المطلقة هي ما تجعلها تتفتح في مخيلة القارئ.
> تسعى على الدوام إلى استخدام مفرداتك الشعرية التي تميزك... هل تعتقد أن على الشاعر أن يؤسس لمفرداته الخاصة؟
- باختيارك المفردات تختار القصيدة. الكلمة هي التي تحدد مسار المعاني والصور والرموز. الكلمة ابتكار يتجدد مثل الحب لا ينضب إلا ليمتلئ من جديد. المهارة في الشاعر أن تكون قادراً على ابتكار مفرداتك ولغتك كما تبتكر من تحب... المرأة التي تحب لا يمكن أن تكون إذا كنت عاجزاً عن ابتكارها.
> الليل مادة لطالما عالجها الشعراء والكتّاب في كتاباتهم... هل كان الليل دليلك إلى الشعر والحياة؟
- الليل هو أحب الأوقات إلى قلبي وأكثرها سطوة. ربما في حب الليل تتألق مازوشيتي وتصل إلى أوجها. بقدر ما أحب الليل أخافه. أذكر، في الماضي، كنت أصل الليل بالنهار سهراً وعملاً ومتابعة. كنت أخرج من النادي الليلي إلى البيت لأستحم وأرتدي ملابس جديدة وأذهب إلى العمل أو إلى الجامعة أو المكتبة. كان هناك تواصل مطلق بين الليل والنهار والنوم كان عدوي الدائم. حينما بدأ الليل يتحول إلى زمن للنوم الصعب أخذ يتحول إلى عبء وكابوس.
> أنت شاعر «تعلق مرساتك في الرمال المتحركة»... ألا وجدت الأرض الثابتة التي تقف عليها؟
- وجدت الأرض؟ نعم وجدتها، بل وجدت الأراضي ولكنها كلها متحركة وغير ثابتة، لا شيء فيها يمكن أن نقول إنه صلب. هناك قول لأبي العلاء في وصفه الأرض: «خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد». الرمال المتحركة هي نحن، والمرساة نعلقها في أجسادنا.
> لماذا هذا الاقتصاد شديد في اللغة؟
- كما هو ممكن أفعل. هل هو اقتصاد في اللغة أم هو نوع من أن نوفر أكبر كمية من الوقت لتكون حياة أوفر؟ هناك لعبة مرآة بين الوقت واللغة. هل اللغة ترى نفسها في الوقت أم الوقت هو الذي يرى نفسه في اللغة؟ يمر عقد من الزمن من عمرك كأنه لحظة، فلا يمكنك أن تجعل من هذه اللحظة قاموساً بملايين الكلمات. إذا ابتكرت كلمة أو اثنتين تكون عملاقاً.
> نلاحظ أن فلسطين تتردد في شعرك قضية وجودية وليست سياسية...
- لو لم تكن مأساة فلسطين لكنت أكثر الناس سعادة اليوم. أنا لا أحولها من قضية سياسية إلى قضية وجودية، إنها أصلاً مسألة وجودية وإنسانية في الصميم. تعالَ نتأمل بالذي حصل ويحصل؛ هل كان يمكن أن يتم ذلك من دون أن يتبعه زلزال وجودي في الصميم في أي مكان آخر في العالم؟ المهم عندي هو أن تنتهي مأساة الشعب الفلسطيني. ووجود فلسطين في شعري يأتي من شعوري بمصدر الألم الحقيقي. وربما لهذا السبب أرادوا أن يحولوا بلداننا كلها إلى جراح مفتوحة.
> تتناول الحياة اليومية ولكنك تسعى على الدوام إلى رفعها إلى مستوى الأسطورة؟
- ربما هناك تماهٍ ما بين اليومي وما وراء اليومي، ما بين الواقع والوهم، أو ما بين الحياة وما بعد الحياة أو ما فوقها. أن تجعل من سلسلة الثواني والدقائق والساعات والأيام حبكة جديدة تبني عليها قصتك مع العمر، تحدٍ حقيقي يجعل منك أنت الكائن البسيط نوعاً من جلجامش بملامح عامل مقهى أو سائق باص أو راكب دراجة أو رجل يسير على الرصيف دون أن يعرف إلى أين يمضي.
والوقت هنا هو أخي التوأم يشبهني وأشبهه حينما ينتهي أنتهي معه. أنا حليفه وهو الفخ الذي ولد معي.
> تشير إلى الموت من خلال بعض الرموز السياسية اللبنانية... هل يصطف الشاعر إلى جهة معينة في نظرك؟ ألا يشكل خطراً على شعرك؟ أم لك موقف صارم من بعض القضايا؟
- أعتقد أنك تقصد قصيدة «إلى جبران تويني»، وفي هذا العنوان أعود إلى محنتي مع العناوين أحياناً. كتبتها مثل الجرح الذي ينزف في عشر دقائق ونمت عليها طويلاً. جبران تويني لم يكن سياسياً بالمعنى التقليدي وإن انتخب عضواً في المجلس النيابي. كان صحافياً ومناضلاً يدافع عن الحرية بصورة عامة وعن حرية التعبير والصحافة بصورة خاصة. وكنا أصدقاء منذ المراهقة. ويوم قتل بتلك الطريقة الوحشية، وكل جريمة قتل هي جريمة وحشية، شعرت أن شيئاً من شبابي قتل معه. هل عندي موقف صارم من بعض القضايا؟ نعم، لا يمكنني أن أقبل بأن يكون القتل طريقة لحل الخلافات السياسية وغير السياسية بين الناس.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.