خمسة أفلام تضمن {إختلاف} مهرجان لوكارنو للسينما الشابّة

شخصيات تعود إلى الحياة بعد غياب.. وسبّاك روسي ضد الفساد

لقطة من الفيلم الكوري «جيونجيو»  -  لقطة من «الغبي» حول فساد روسي
لقطة من الفيلم الكوري «جيونجيو» - لقطة من «الغبي» حول فساد روسي
TT

خمسة أفلام تضمن {إختلاف} مهرجان لوكارنو للسينما الشابّة

لقطة من الفيلم الكوري «جيونجيو»  -  لقطة من «الغبي» حول فساد روسي
لقطة من الفيلم الكوري «جيونجيو» - لقطة من «الغبي» حول فساد روسي

انتهت الدورة السابعة والستين لمهرجان لوكارنو السينمائي، التي امتدت من السادس إلى السادس عشر من هذا الشهر، لتؤكد عزم المهرجان السويسري على الالتزام بخطّه المختلف عن كل تلك المهرجانات المحيطة به. هذا الاختلاف ليس سهلا في عصر تتكاثر فيه المهرجانات كالطفيليات، ومعظمها ينطلق واعدا نفسه بالتقدّم ليكتشف - بعد سنوات قليلة - أنه ما زال في المكان نفسه. وليس سهلا أيضا في وسط منافسة مهرجانات أخرى، بعضها أكبر وبعضها من حجمه، تجذب إليها كل أنواع الأفلام الممكنة. بعضها لا يعرف الاختصاص فيلتقط كل ما يعبر في سمائه، وبعضها الآخر يختص بنوع أو بسمة أو تيار، وكلاهما يشكل منافسة لا مجال لنكران حدتها.
لكن لوكارنو القابع عند البحيرة والذي تشرف عليه جبال الألب في امتدادها صوب إيطاليا القريبة لا يزال مميّزا بنجاح مهمّته الدؤوبة في اكتشاف الجيد والجديد من كل أنحاء العالم. إنه متخصص بالأفلام الأولى والثانية في مسابقته الرئيسة مع جوائز أخرى تمنح في أقسام وتظاهرات أخرى.
الأقرب إلى صنوه هو مهرجان «صندانس»، لكنه يقع على بعدين، واحد مكاني، إذ يقام في مرتفعات ولاية يوتا الأميركية، والثاني زمني إذ يُقام في مطلع كل عام. والأكثر من ذلك أنهما يستوعبان من دون تقاطع أو حاجة لتكرار الأعمال، أعدادا كبيرا من الأفلام الحديثة. بالنسبة لمهرجان لوكارنو فإن كل فيلم ممكن إذا ما كان جيدا سواء أكان قصيرا (تظاهرة «باردي دي دوماني») أو روائيا ينبئ بولادة مخرج سيكون له مستقبل واعد (مسابقة مخرجي الحاضر) أو سواء إذا كان من ذلك النوع الذي يوفر لمشاهديه تجارب فنية مختلفة ومميّزة (تظاهرة «إشارات حياتية»). هذا بالطبع عدا المسابقة الدولية والتظاهرة الخاصة بالاستعادات الكلاسيكية.
ما شوهد من أفلام، عبر وسائط من خارج المهرجان، يفي بالتأكيد بأن الدورة جاءت بمستوى بعض أفضل دورات الماضي التي حضرناها فعليا. طبعا المشاهدة عبر مواقع إلكترونية قانونية بنسخ نظيفة ولقاء اشتراك خاص لا تعوّض الحضور الفعلي بكامله، لكنها تفي بحاجة استكشاف الملامح المهمّة لدورة هذا العام، وتتيح للراغب مشاركة الحاضرين في بعض ما تم عرضه من أعمال.
مما شاهده هذا الناقد خمسة أفلام مثيرة للاهتمام، ولو أنها تختلف جودة كل منها عن الأخرى في الحصيلة النهائية، كما في التفاصيل. في حين أن اختيارها هنا غير مرتبط بمنهج أو بسبب معيّن، إلا أنها تفي بتعدد طروحاتها وطراوة أساليب مخرجيها الشبّان.

* امتدادا لحلم
اعتاد المخرج زانغ لو، كوري من أصل صيني، على تناول قضايا اجتماعية حادّة ناتجة عما يراه من انفصال قائم بين الأفراد والمجتمع الذي يعيشون فيه. وهو في «جيونجيو» لا يتخلّص تماما من هذا المنحى، لكنه يبتعد بوضوح عن الجدّية التي عرفتها أفلامه السابقة ليعالج موضوعه الجديد بقدر من الكوميديا الخفيفة. وهو ما إن يقدم على هذا الابتعاد حتى يقع في صرح المخرج الأميركي ريتشارد لينكلتر وسلسلة أفلامه العاطفية الثلاثة التي حققها على مدار بضع سنوات وهي «قبل الشروق» (1995) و«قبل المغيب» (2004) ثم «قبل منتصف الليل» (2013)، ذلك لأن حكاية زانغ لو تنضوي أيضا على شاب (اسمه «جيونجيو») يتعرف على امرأة شابة وجميلة يمضي معها النهار وجزءا من الليل في مشي وكلام.
الأفضل تناولا لموضوعه فيلم كوري آخر للمخرج الجديد بارك جونغ بوم «حي»: دراما من ثلاث ساعات (ومصادر المهرجان تقول إن المخرج اضطر لتقليصه) حول حياة رجل يبذل كل ما في وسعه لتأمين حياة أفضل لنفسه. أحلامه تبدو غير واقعية وكبيرة بالنظر إلى الحياة التي يعيشها داخل خيمة وبالنظر إلى عمله (مصنع صغير للحلوى). ليس أنه مقطوع من شجرة بقدر ما يتحمّل أعباء حياته منفردا في بيئة خارج مدينة سيول، مما يجعل تلك المدينة تبدو امتدادا لذلك الحلم البعيد. الممثل بارك ميونغ هون يوفّر للمشاهد ذلك التعاطف من دون تكلّـف وادعاء، والحكم نفسه ينطلي على إخراج جونغ بوم، فعلى الرغم من عمق المادة وسعتها فإن معالجته هي أيضا بسيطة وإن لم تكن سهلة على الإطلاق.
وهناك دراما إنسانية أخرى من الجانب الكوري ينضوي عليها فيلم «بداية جديدة». فنيا لا يصل إلى مشارف جديدة بالمقارنة مع «حي» لكنه يبقى بداية مشجعة لمخرج شاب، هو جانغ وو تجين، يتعامل وجمهور من جيله وله. بطله شاب يعود إلى الحياة المدنية بعد أن خدم في الجيش لسنوات. ما يجده يختلف عما خلفه وراءه عندما انضم إلى العسكر، والفيلم يمضي به وهو يحاول إعادة توطين نفسه في مجتمع بات غريبا عليه. لا وجود لحدث درامي كبير بل متابعة ليوميات الحياة وللأفكار التي تلد في سيناريو من الملاحظات الشخصية.

* فساد
«الغبي» هو أحد الأفلام التي شهدت إقبالا وإعجابا أكثر من سواها في مهرجان لوكارنو، كما ورد في بعض التقارير. مشاهدة الفيلم تجيب مباشرة عن السبب: إنه واحد من بضعة أفلام روسية حديثة تعكس خيبة الأمل في المؤسسة وتتعاطى مع تصوير الفساد الإداري المنتشر كما لو كان ورما خبيثا.
مخرجه هو يوري بيكوف، وبطله أرتم بيستروف نال جائزة أفضل ممثل لاعبا دور سبّاك في بلدة صغيرة يؤم المنازل لإصلاح ما عليه إصلاحه. ترسله البلدية ذات مرّة لإصلاح أنبوب في حمام منزل في بناية من تسعة أدوار فيكتشف أن المبنى كله معطوب ومهدد بالسقوط. عبثا تذهب نداءاته ومحاولاته لفت نظر المسؤولين للمشكلة. في البداية يخبرونه بأنها ليست مشكلته، ولاحقا يحاولون الضغط عليه لكي يهتم بشؤونه ويترك المتاعب. لكن بطل الفيلم لا يستطيع أن يغفل أن مئات السكان قد يفقدون حياتهم في أي لحظة، ولا أن إلحاحه بات يسبب خطرا على حياته وحياة زوجته.
على بعد 180 درجة يكمن فيلم «أميرة فرنسا» للمخرج ماتياس بينييرو. هذا الإنتاج الأرجنتيني يتعامل والمسرح والأدب والفن. مخرج شاب يسعى لتقديم مسرحية شكسبيرية في برنامج إذاعي، وممثلات تتمنّى كل منهن الدور المناسب لها لكي تبز به الأخريات. الصراع ليس بالضرورة علنيا، لكنه يذكّر بالفيلم الأخير لآلان رينيه الذي تم تقديمه في إطار مهرجان برلين الأخير وعنوانه «حياة رايلي»، باختلاف أننا لا نشاهد هوية المخرج أو شكله في فيلم رينيه، لكنه حاضر بوضوح في فيلم بينييرو.

* جوائز لوكارنو
* نال الفيلم الفلبيني «ما كان عليه قبلا» ذهبية المسابقة الدولية، وهو من إخراج لاف داياز، وبلغت مدته 333 دقيقة (أكثر من خمس ساعات)، وتم تصويره بالأبيض والأسود. وخرجت السينما البرتغالية بجائزة أفضل إخراج ونالها بيدرو غوستا عن «مال حصان». أفضل ممثل لأرتم بيستروف عن «الغبي» (روسيا)، وأفضل ممثلة هي أريان لابد عن «أوديسا أليس» (فرنسا).



بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
TT

بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»

بشير الديك، كاتب القصّة والسيناريو لعدد كبير من الأفلام المصرية طوال العقود الأربعين الماضية، الذي توفي في اليوم الأخير من العام الراحل، 2024، كان أحد السينمائيين الخارجين عن قوانين السينما التقليدية في النصف الأول من سنوات مهنته. لكن على الرغم من أنه في النصف الثاني وقّع على أعمال كثيرة من التي يمكن وصفها بالتقليدية، ومن بينها 6 أفلام من بطولة نادية الجندي، فإنه واظب على معالجة نصوصه باحتراف يجمع بين حكايات تحمل مضامين تنتمي إلى نزعة جادة وتنشد ميزانيات كبيرة.

لعل حقيقة أن نادية الجندي كانت تصبو دوماً إلى أدوار تخلّدها وأفلام تحافظ عبرها على مكانتها لعب بشير الديك دوراً في تلبية هذه الرغبات عبر حكايات تشويقية في المقام الأول، وشخصية رئيسية مضخّمة وذلك في أفضل نصوص ممكنة ضمن التوليفة التجارية.

بدأ هذا التعاون على نحوٍ ثلاثي: بشير الديك يكتب، ونادر جلال يُخرِج ونادية الجندي تلعب دور البطولة. هذه الأفلام هي «الإرهاب» (1989)، و«شبكة الموت» (1990)، و«عصر القوّة» (1991)، ومن ثَمّ «مهمّة في تل أبيب» (1992)، و«الشطّار» (1993)، ولاحقاً «امرأة هزّت عرش مصر» (1995).

كمال الشناوي ونادية الجندي في «مهمّة في تل أبيب»

‫اتجاهان‬

بعد بدايات متفاوتة الأهمية من بينها «مع سبق الإصرار» لأشرف فهمي (1979)، و«دعوني أنتقم» لتيسير عبّود (1979)، و«الأبالسة» لعلي عبد الخالق (1980) التحق الديك ببدايات المخرج الراحل محمد خان عبر 6 أفلام هي «الرغبة» (1980)، و«موعد على العشاء» (1981)، و«طائر على الطريق» (1981)، و«نص أرنب» (1983)، و«يوسف وزينب» (1984) و«الحرّيف» (1984) وكلها من أفضل ما حققه خان.

تعامُل الديك مع الموضوعات الجادة التي عرفتها تلك الأفلام سمح له بكتابة واحد من أفضل أعماله وهو «سواق الأتوبيس»، الذي حققه الراحل عاطف الطيب سنة 1982، وكلاهما لاحقاً تعاونا على تحقيق فيلم مهم (أكثر مما كان جيداً) آخر هو «ناجي العلي» (1992). لجانبهما فيلم ثالث هو «ضد الحكومة» (1992) من بطولة أحمد زكي ولبلبة.

في تقييم كتابات بشير الديك تتداخل بعض العناصر التي يمكن إيجاز هذا التقييم عبرها.

من ناحية، حاول دوماً التطرّق صوب قضايا مهمّة تطرح قصصاً ذات جانبٍ وطني مثل «مهمّة في تل أبيب»، الذي دار حول جاسوسة مصرية تعمل لصالح إسرائيل، ومن ثَمّ تندم فتطلب منها الاستخبارات المصرية (ممثلة بكمال الشناوي)، العمل لحساب مصر وتنجح. «ناجي العلي» ينضم إلى هذا النحو من الأعمال.

السيناريست المصري بشير الديك (وزارة الثقافة)

في ناحية أخرى، لم يتأخر عن كتابة ما كان سائداً في الثمانينات والتسعينات من اتجاه صوب الحديث عن مراكز قوى في الشارع المصري والصراع بين الأخيار والأشرار. هذه الموجة لم تعرف بداية ونهاية محدودتين فتاريخها عريق يعود لعقود سابقة، لكنها عرفت في تلك الفترة تدافعاً بين المخرجين للحديث عن تلك المراكز في حارات القاهرة (في مقابل الكثير من صراع الخير والشر على ساحلَي بور سعيد والإسكندرية في أفلام الخمسينات والستينات) في أجواء ليست بعيدة عن الخط الذي وضعه نجيب محفوظ وشخصياته.

مخرجون عديدون حقّقوا هذه الأفلام التي شُكّلت حكاياتها من صراع القوى في الشارع المصري مثل أشرف فهمي («الأقوياء»، 1982)، وأحمد السبعاوي («السلخانة» 1982 و«برج المدابغ» 1983) وكمال صلاح الدين («جدعان باب الشعرية» 1983). لكن من مزايا ما كتبه بشير الديك في هذه الأعمال التي لاقت رواجاً جماهيرياً إنه كتب ما هو أعمق في دلالاته من قصص المعلّم الشرير ضد سكان منطقته وأزلامه الذين يتصدّون للأبرياء إلى أن يخرج من رحم تلك الحارة من يواجههم جميعاً.

بداية من «نصف أرنب» توّجه الديك إلى حكاية تشويقية ذات طابع بوليسي، وفي «سوّاق الأتوبيس» وقف مع ابن المدينة في موضوع حول تفتت المجتمع مادياً. أما في «الحرّيف» فنقل اهتمامه إلى الوسط المهمّش من سكان القاهرة وأحلامهم ومتاعبهم الشخصية.

‫هموم المجتمع‬

ما يجمع بين هذه الأعمال هموم تسلّلت إلى عدد كبير من كتابات بشير الديك السينمائية.

في مقابلة تمّت بين المخرج عاطف الطيب وبيني بعد مشاهدة فيلمه النيّر «سواق الأوتوبيس»، سألت المخرج عن كيف بدأ التفكير في تحقيق «سوّاق الأتوبيس». أجاب: «بدأت الفكرة في جلسة صداقة مع بشير الديك ومحمد خان. وكنا نتحدث بشأن همومنا وطموحنا الخاص لصنع سينما أخرى مختلفة، وكانت الظروف الحياتية نفسها تجمعنا كلنا تقريباً. فقد كنت أشعر في ذلك الوقت بالذنب إزاء فيلمي الأول (يقصد «الغيرة القاتلة»، 1982)، الذي اضطُرِرت فيه إلى الاعتماد على سيناريو مأخوذ عن أصل أدبي (أجنبي) رغم إيماني الدائم بضرورة الكتابة المباشرة للسينما. اقترح محمد خان وبشير الديك فكرة وُضع لها عنوان: (حطمت قيودي)، تدور حول عائلة مهدّدة بالضياع نتيجة فقدان الأب للورشة التي أسسها وبحْثُ الابن، سائق الأتوبيس، عن مخرج من الأزمة بلا جدوى وأعجبتني الفكرة، خصوصاً أنني أميل كثيراً إلى الدراما التي تدور في نطاق عائلة. وبدأنا بالفعل في تطوير الفكرة خلال الكتابة وتبادل الآراء. وكنا كلما نتعمق في الموضوع تتضح لنا أهمية الفكرة التي نريد التعبير عنها. في الكتابة الثانية للسيناريو، وصل الفيلم إلى ما أصبح عليه».

كتب بشير الديك نحو 60 فيلماً ومسلسلاً تلفزيونياً، معظمها جمع هذه الصفات المجتمعية على نحو سائد أو مخفف. هذا ما جعله أحد أبرز كتاب السيناريو في مصر في حقبة كان للسينما البديلة والمستقلة عن السائد دور فاعل في نهضة الفيلم المصري عموماً.

مع الطيّب وخان ورضوان الكاشف ورؤوف توفيق وخيري بشارة ورأفت الميهي وسواهم، ساهم بشير الديك في منح تلك الفترة مكانتها الساطعة التي لا تغيب.