يرى الشاعر المغربي سعد سرحان أن الشِّعر فقدَ معظم أسواقه، بدءاً من «عكاظ»، وُصولاً إلى عدد قرّائه الذي «لا يني يتضاءل يوماً بعد آخر حتى صار فنّاً خاصاً بـ(الأقلية الساحقة)»، قبل أن يستدرك، في نص حمل عنوان «ديوان الشغب»، ضمن «مرايا عمياء»، منشورات «بيت الشعر في المغرب»، بقوله إن الظّاهرة لا تبدو عربيّة إلا باعتبار الشعر «ديوان العرب»، مع أنّ «ملايين العرب لا يشترون سوى مئات من دواوين الشعر»، مشيراً إلى أن «هنالك فرقاً بين تلقّي الشّعر وشرائه».
يقول سرحان، الذي راكم إصدارات مهمة، بدأها بـ«حصاد الجذور» (1994)، ثم «شكراً لأربعاء قديم» (1999)، و«نكاية بحطاب ما» (2004)، و«ص. بـ1492» (2006)، و«مراكش: أسرار معلنة» (2008) بالاشتراك مع الكاتب المغربي ياسين عدنان، و«أكثر من شمال أقل من بوصلة» (2013)، و«ديوان المائدة» (2014)، و«أضغاث نساء» (2014)، إن مهمّة الشعراء أضحت «أشدَّ صعوبة»، إِذْ «لم يعد كافيّاً أن يوفِّروا للعالم كفايته من القصائد، بل عليهم أيضاً أن يوفِّروا لهذه القصائد قراءً يقرأونها، ولهؤلاء القراء وقتاً يقرأونها فيه، وعليهم لذلك - وقبله طبعاً - أن يوفّروا حاملاتٍ للشّعر وأماكن ومناسبات لعرضه غير تلك المتعارف عليها تقليديّاً».
ويقارن سرحان بين أوضاع الشعر عبر العالم، فيقول: «يعرف الغرب أيضاً هبوطاً حادّاً في ضغط الشّعر، وللحدِّ من ذلك لجأ إلى كلِّ الوسائل المتاحة - وما أكثرها - للدّفاع عن أحد أعرق الفنون وأشدّها التصاقاً بالوجدان. فمن الإنترنت إلى الباص والمترو... صارت القصائد متحرّكة وعارية ومجانية، فسانحة فمقروءة طبعاً. وإذا كُنّا نحذو حذو الغرب في البيتزا والبابا نويل واقتصاد السوق، فلماذا لا نفعل كذلك بالنسبة للشّعر، فنحوّل زجاج المقاهي والحافلات ومقصورات القطارات وجدران المحطات الطرقية والمستشفيات والسجون إلى (ديوان للعرب). هكذا سيجد الشاعر من يوقفه فجأة ليخبره أن قصيدته المنشورة على نوافذ إحدى الحافلات رائعة، ويجد آخر من يثني على قصائده المنشورة على زجاج مقهى المسافرين... إلخ».
في كتابه الجديد، نكون مع مضامين تختصر تأملات سرحان، فهمه ونظرته لعدد من قضايا الكتابة، تناولها انطلاقاً من 41 نصاً، بينها «ديوان الشغب» و«أطباق الشعراء» و«القارئ الكبير» و«لسان الأفعى» و«خلف الأحمر» و«الدال والشين» و«الأحذية والأوهام» و«الأرانب» و«الأسد» و«آباء الأنابيب» و«مرق مرق الأرنب» و«الارتفاع عمقاً» و«هل غادر الشعراء» و«قناص الخوف» و«حادثة شعر».
في «أطباق الشعراء»، مثلاً، يرى أن «كثرة الشعراء ورداءة ما يصدر عنهم من شعر، خصوصاً بعد أن وجد هؤلاء في الشبكة العنكبوتية الصدرَ الرحب لما يكتبون، ليستا طارئتين. فالأولى (الكثرة) عبّر عنها جاك بيرك بكون الشعراء العرب بعدد النخل، أما الثانية (الرداءة) فقديماً أفرد لها النقد العربي طابقاً واطئاً في عمارته الشهيرة: (طبقات الشعراء)».
ينتهي سرحان من حديث «أطباق الشعراء» إلى أن «جعجعة الشعر العربي، بصرف النظر عن مقدار الطحين، ليست أمراً مزعجاً. فهي دليل على أن خامة الوجدان المتجدّدة لا تزال تُغري بالنحت، وأن أزاميل اللغة لا تزال ذات جدوى في بلاد لا تضاهي فيها نسبة الأميّة سوى نسبة الصحراء. فمهما تكاثر الشعراء بيننا، على اختلاف طبقاتهم وأوهامهم وغاويهم، فلن يصلوا أبداً إلى عدد اللصوص وتجّار المخدّرات والقتلة والنخّاسين وصيارفة الدم وغيرهم من مفسدي الحياة، ومهما كانت قصائدهم رديئة فإنها لا تشكّل على مستقبل البلاد من الخطر إلا ما يشكّل الزبد على الشاطئ، أمّا ما ينفع القراء منها فسيمكث، بكل تأكيد، في أرض الأدب».
ويتحدث سرحان عن «القارئ الكبير» بقوله إنه «وُجِد في كلّ العصور وفي مختلف الجغرافيّات، وإن القارئ الكبير هو القارئ يقرأ الكتاب كأنه يكتبه. وهو القارئ الذي يبعث الحياة في كتاب دارس. وهو القارئ يقرأ الكتاب الواحد أحسن مما يفعل آلاف غيره. وهو، ليس أخيراً، القارئ يقرأ الكتاب بقوة.
في نص «لسان الأفعى»، يرى سرحان أن «للترجمة مذاق الخيانة، وهي الخيانة التي قد يقتضيها الإخلاص للنص»، معتبراً أن «أغرب الترجمات هي التي تتمّ في صالونات الحلاقة، حيث يؤدي الزبائن ثمن تشقير نصوصهم (أي نقلها إلى إحدى اللغات الشقراء)، تماماً كما تفعل بعض السمراوات مع شعورهن. وأيّاً يكن الهدف منها: استجداء قراء، استعلاء على أبناء الجلدة، استقواء بالآخر، التماس مصافحات ناعمة... فإنّ خُصلة سوداء واحدة، خُصلة صغيرة لم تطلها الصباغة، قد تسقط الجنسية الوهميّة عن صاحبتها، وتشكك في أصالة شعرها حتى».
أما في نص «خلف الأحمر»، فسيقول لنا إنه لم يفطن للمقلب إلا حينما حاول أن ينسى، مشيراً إلى أنه كان لديه إصرار كبير على العمل بالنّصيحة، نصيحة خلف الأحمر، التي وجدت من يروّجها على مرّ القرون. يوضح الكاتب علاقته بوصية خلف الأحمر، فيقول: «كان صعباً عليَّ أن أحفظ ألف بيت شعري، أنا الذي أنسى عشاء البارحة (...). اقتنعت مع مرور الأيام بأن الجزء الأول من النصيحة هو الأهم».
ويفتح سرحان، في نص «هند»، هامشاً للحديث عن الأشكال الشعرية، مركزاً على قصيدة النثر، مشيراً إلى أن «الذهاب إلى الشّعر عن طريق النثر يشبه تماماً الإبحار غرباً إلى الهند. ففي كلتا الرحلتين نصل إلى أرض لم نتوقّعها»، قبل أن ينتهي إلى أن «قصيدة النثر جسد يلزمه من النضج ما يكفي للإفصاح عن جنسه، فهي كطفلة من دون ضفيرتين، تحتاج إلى سنوات قبل أن يعلن صدرها النافر أنها ليست غلاماً».
أما في «تشابه»، فيكتب سرحان عن «الشّساعة»، التي «هي ما كان يُميِّز حياة الإنسان العربي قديماً»، حيث «كانت الصحراء بيته والواحة حاكورته، فإذا سافر فلشهور، وإذا تزوّج فمن سربِ نساءٍ، وإذا حارب فلأربعين عاماً... لذلك فلا عجب أن يكون شعره عبارة عن معلّقات. أمّا الإنسان العربي اليوم فيعيش في شقّة... أو في (استوديو)، ويسافر في الطائرة... أو في (T.G.V)، ويتزوّج من واحدة على الأكثر (ولَكَمْ هو فحلٌ إذا لم يَسْتَجِرْ بالحبّة الزرقاء)، ويحارب لمدة ستّة أيام (قبل أن يستوي على الهزيمة)، كما أنّه لا يكفُّ عن النّظر إلى ساعته الإلكترونية... فهل من عجب أن يكتب قصائد تشبه نمط حياته؟».
«مرايا عمياء»... وهبوط حاد في «ضغط الشعر»!
«مرايا عمياء»... وهبوط حاد في «ضغط الشعر»!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة