سنوات السينما

ثريا خوري في «حروب صغيرة»
ثريا خوري في «حروب صغيرة»
TT

سنوات السينما

ثريا خوري في «حروب صغيرة»
ثريا خوري في «حروب صغيرة»

حروب صغيرة (1982) ‫الطابور الأميركي الخامس ‬
‫«حروب صغيرة» ثاني أعمال الراحل مارون بغدادي من بعد «بيروت يا بيروت» عام 1975. ومثل المخرج المعتزل الآن برهان علوية اضطر بغدادي للانتظار طويلاً من قبل أن تسنح له فرصة تقديم فيلم روائي آخر. لكن يمكن القول إن «بيروت يا بيروت» هو حفر في التأسيس و«حروب صغيرة» هو نتيجة هذا التأسيس الأولى.‬
كان «بيروت يا بيروت» فيلماً قريباً من نماذج المجتمع التي نراها فيه لكن بغدادي لم ينجز الكثير مما صبا إليه.
في «حروب صغيرة» يسرع المخرج من إيقاعه ويصبح أكثر خبرة في تكوين الصورة الأكثر نبضاً بالحياة وجذباً للانتباه. من ناحية أخرى، «حروب صغيرة»، هو البلورة الحقيقية لمخزونه في الثقافة التقنية، ولما اكتسبه خلال السنوات الفاصلة بين فيلميه الروائيين من معرفة على الصعيد الاجتماعي أيضاً ـ هو فيلم جيد بمواصفات الفيلم العربي التقليدية. مهم في محيط المحاولات العربية الشابة لخلق سينما مختلفة ومتطورة.
يتكون ‫الفيلم من ثلاث شخصيات أساسية: ثريا (ثريا خوري) فتاة التي اكتشفت رجلاً آخر في شخص الإنسان الذي أحبته، رجل غادر موقعه الأول الذي التزم به قبل الحرب اللبنانية بعدما اجتذبته التيارات الفكرية والسياسية بعيداً عن ذاته الأولى. إنه طلال (روجيه حوا) الذي انتقل من وظيفة اجتماعية قادها لنفسه إلى وظيفة أخرى تريد أن تفعل وتخطط وتشارك في الحرب الدائرة. الشخصية الثالثة هي لنبيل (نبيل إسماعيل) إفراز نموذجي لطائفة من الذين عاشوا غمار السنوات الأخيرة بفوضاها. هو كل شيء يمكن أن يصبو إليه عقله في غمار تلك الحرب ولا يستطيع أن يحققه إلا بمثل تلك الفرص المتوفرة في الفوضى. لكن إذ يفعل فإن ما يصل إليه ويحققه هو اكتشافه بأن طريقه كانت محفوفة بالمخاطر وأن النهاية قد رسمت ملامحها منذ البداية. نبيل هو الشخص الذي وُلد خاسراً وسيمضي خاسراً إذا ما بقي حياً ونحن نراه يجاهد في سبيل البقاء حياً أكثر من سواه بعدما أدرك ملامح نهايته.‬
إنها شخصيات تتلاقى وسط المعارك (قبيل الغزو الإسرائيلي). إنهم أشخاص هامشيون وحروبهم هامشية في ثنايا الحرب الكبيرة، لكن تلك الحروب الصغيرة تشكل في تراكماتها الجانب الكبير من الحرب الأشمل. بغدادي يقصد هذا وينجح في إظهاره ويبدأ حياة أبطاله وينهيها أيضاً.
‫في سرده للقصة يبقي المخرج بطلته ثريا محوراً يجمع الخطين الآخرين معاً. طلال الذي يخلف والده في قيادة حزب سياسي في الجبل ونبيل الذي يعيش على هامش الحرب. الأول نموذج على الساحة النظرية التي امتلأت بها الحرب، الثاني نموذج مختلف لبنية تحتية يستفيد من تناقضاتها القائمة. إنه الشخصية الأكثر جذباً للمتفرجين، ربما على غير خاطر المخرج، ‬يأخذ الفيلم من الحرب نبضها وإمارتها. يستفيد أنها كانت حاضرة وقتما قام المخرج بتصوير فيلمه هذا. على الشاشة، هي حرب هاذية، مجنونة، ممزقة للنظم والعلاقات والفيلم تماماً مثلها. مثل الحياة في بيروت طوال سنوات الاقتتال صار الموت على الشاشة مجنوناً يعبر عنه بغدادي أفضل تعبير في مشهد يقع في الربع ساعة الأولى عندما يصل نبيل وجماعته إلى المستشفى لإسعاف صديق يصاب بالعمى لاحقاً نتيجة معركة من دون قضية. هذا الشاب الأعمى يصير واحداً من ثلاثة عميان في الفيلم. الآخران هما: عم ثريا الذي يعيش في الماضي معتقداً أن الفرنسيين هم الذين سيحلون الإشكال اللبناني، والمخطوف البريء الذي تعصم عيناه. العمى لا يصير حالة ملموسة فقط، بل هو أيضاً حالة رمزية كذلك.
يطول الحديث في هذا الإنجاز الأفضل لمارون بين كل أفلامه التي تناولت الحرب وتبعاتها أو تأثيرها داخل لبنان أو خارجه.

قيمة تاريخية (4*)
قيمة فنية (3*)



بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
TT

بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»

بشير الديك، كاتب القصّة والسيناريو لعدد كبير من الأفلام المصرية طوال العقود الأربعين الماضية، الذي توفي في اليوم الأخير من العام الراحل، 2024، كان أحد السينمائيين الخارجين عن قوانين السينما التقليدية في النصف الأول من سنوات مهنته. لكن على الرغم من أنه في النصف الثاني وقّع على أعمال كثيرة من التي يمكن وصفها بالتقليدية، ومن بينها 6 أفلام من بطولة نادية الجندي، فإنه واظب على معالجة نصوصه باحتراف يجمع بين حكايات تحمل مضامين تنتمي إلى نزعة جادة وتنشد ميزانيات كبيرة.

لعل حقيقة أن نادية الجندي كانت تصبو دوماً إلى أدوار تخلّدها وأفلام تحافظ عبرها على مكانتها لعب بشير الديك دوراً في تلبية هذه الرغبات عبر حكايات تشويقية في المقام الأول، وشخصية رئيسية مضخّمة وذلك في أفضل نصوص ممكنة ضمن التوليفة التجارية.

بدأ هذا التعاون على نحوٍ ثلاثي: بشير الديك يكتب، ونادر جلال يُخرِج ونادية الجندي تلعب دور البطولة. هذه الأفلام هي «الإرهاب» (1989)، و«شبكة الموت» (1990)، و«عصر القوّة» (1991)، ومن ثَمّ «مهمّة في تل أبيب» (1992)، و«الشطّار» (1993)، ولاحقاً «امرأة هزّت عرش مصر» (1995).

كمال الشناوي ونادية الجندي في «مهمّة في تل أبيب»

‫اتجاهان‬

بعد بدايات متفاوتة الأهمية من بينها «مع سبق الإصرار» لأشرف فهمي (1979)، و«دعوني أنتقم» لتيسير عبّود (1979)، و«الأبالسة» لعلي عبد الخالق (1980) التحق الديك ببدايات المخرج الراحل محمد خان عبر 6 أفلام هي «الرغبة» (1980)، و«موعد على العشاء» (1981)، و«طائر على الطريق» (1981)، و«نص أرنب» (1983)، و«يوسف وزينب» (1984) و«الحرّيف» (1984) وكلها من أفضل ما حققه خان.

تعامُل الديك مع الموضوعات الجادة التي عرفتها تلك الأفلام سمح له بكتابة واحد من أفضل أعماله وهو «سواق الأتوبيس»، الذي حققه الراحل عاطف الطيب سنة 1982، وكلاهما لاحقاً تعاونا على تحقيق فيلم مهم (أكثر مما كان جيداً) آخر هو «ناجي العلي» (1992). لجانبهما فيلم ثالث هو «ضد الحكومة» (1992) من بطولة أحمد زكي ولبلبة.

في تقييم كتابات بشير الديك تتداخل بعض العناصر التي يمكن إيجاز هذا التقييم عبرها.

من ناحية، حاول دوماً التطرّق صوب قضايا مهمّة تطرح قصصاً ذات جانبٍ وطني مثل «مهمّة في تل أبيب»، الذي دار حول جاسوسة مصرية تعمل لصالح إسرائيل، ومن ثَمّ تندم فتطلب منها الاستخبارات المصرية (ممثلة بكمال الشناوي)، العمل لحساب مصر وتنجح. «ناجي العلي» ينضم إلى هذا النحو من الأعمال.

السيناريست المصري بشير الديك (وزارة الثقافة)

في ناحية أخرى، لم يتأخر عن كتابة ما كان سائداً في الثمانينات والتسعينات من اتجاه صوب الحديث عن مراكز قوى في الشارع المصري والصراع بين الأخيار والأشرار. هذه الموجة لم تعرف بداية ونهاية محدودتين فتاريخها عريق يعود لعقود سابقة، لكنها عرفت في تلك الفترة تدافعاً بين المخرجين للحديث عن تلك المراكز في حارات القاهرة (في مقابل الكثير من صراع الخير والشر على ساحلَي بور سعيد والإسكندرية في أفلام الخمسينات والستينات) في أجواء ليست بعيدة عن الخط الذي وضعه نجيب محفوظ وشخصياته.

مخرجون عديدون حقّقوا هذه الأفلام التي شُكّلت حكاياتها من صراع القوى في الشارع المصري مثل أشرف فهمي («الأقوياء»، 1982)، وأحمد السبعاوي («السلخانة» 1982 و«برج المدابغ» 1983) وكمال صلاح الدين («جدعان باب الشعرية» 1983). لكن من مزايا ما كتبه بشير الديك في هذه الأعمال التي لاقت رواجاً جماهيرياً إنه كتب ما هو أعمق في دلالاته من قصص المعلّم الشرير ضد سكان منطقته وأزلامه الذين يتصدّون للأبرياء إلى أن يخرج من رحم تلك الحارة من يواجههم جميعاً.

بداية من «نصف أرنب» توّجه الديك إلى حكاية تشويقية ذات طابع بوليسي، وفي «سوّاق الأتوبيس» وقف مع ابن المدينة في موضوع حول تفتت المجتمع مادياً. أما في «الحرّيف» فنقل اهتمامه إلى الوسط المهمّش من سكان القاهرة وأحلامهم ومتاعبهم الشخصية.

‫هموم المجتمع‬

ما يجمع بين هذه الأعمال هموم تسلّلت إلى عدد كبير من كتابات بشير الديك السينمائية.

في مقابلة تمّت بين المخرج عاطف الطيب وبيني بعد مشاهدة فيلمه النيّر «سواق الأوتوبيس»، سألت المخرج عن كيف بدأ التفكير في تحقيق «سوّاق الأتوبيس». أجاب: «بدأت الفكرة في جلسة صداقة مع بشير الديك ومحمد خان. وكنا نتحدث بشأن همومنا وطموحنا الخاص لصنع سينما أخرى مختلفة، وكانت الظروف الحياتية نفسها تجمعنا كلنا تقريباً. فقد كنت أشعر في ذلك الوقت بالذنب إزاء فيلمي الأول (يقصد «الغيرة القاتلة»، 1982)، الذي اضطُرِرت فيه إلى الاعتماد على سيناريو مأخوذ عن أصل أدبي (أجنبي) رغم إيماني الدائم بضرورة الكتابة المباشرة للسينما. اقترح محمد خان وبشير الديك فكرة وُضع لها عنوان: (حطمت قيودي)، تدور حول عائلة مهدّدة بالضياع نتيجة فقدان الأب للورشة التي أسسها وبحْثُ الابن، سائق الأتوبيس، عن مخرج من الأزمة بلا جدوى وأعجبتني الفكرة، خصوصاً أنني أميل كثيراً إلى الدراما التي تدور في نطاق عائلة. وبدأنا بالفعل في تطوير الفكرة خلال الكتابة وتبادل الآراء. وكنا كلما نتعمق في الموضوع تتضح لنا أهمية الفكرة التي نريد التعبير عنها. في الكتابة الثانية للسيناريو، وصل الفيلم إلى ما أصبح عليه».

كتب بشير الديك نحو 60 فيلماً ومسلسلاً تلفزيونياً، معظمها جمع هذه الصفات المجتمعية على نحو سائد أو مخفف. هذا ما جعله أحد أبرز كتاب السيناريو في مصر في حقبة كان للسينما البديلة والمستقلة عن السائد دور فاعل في نهضة الفيلم المصري عموماً.

مع الطيّب وخان ورضوان الكاشف ورؤوف توفيق وخيري بشارة ورأفت الميهي وسواهم، ساهم بشير الديك في منح تلك الفترة مكانتها الساطعة التي لا تغيب.