أفلام الموسيقى والغناء تنجح بأزمات فنانيها الشخصية

حياة جيمس براون على الشاشة

شادويك بوزمان في دور جيمس براون  -  من «فتيان جيرسي» حظ أقل
شادويك بوزمان في دور جيمس براون - من «فتيان جيرسي» حظ أقل
TT

أفلام الموسيقى والغناء تنجح بأزمات فنانيها الشخصية

شادويك بوزمان في دور جيمس براون  -  من «فتيان جيرسي» حظ أقل
شادويك بوزمان في دور جيمس براون - من «فتيان جيرسي» حظ أقل

أحد الأفلام التي اعتلت لوائح النقاد الأميركيين إعجابا، في الأسبوع الماضي، كان «Get On Up»: سيرة حياة وضعها المخرج تايت تايلور، الذي كان آخر ما حققه تلك الدراما التي غاصت تحت غلاف الوضع العنصري في أميركا الستينات، وذلك في «المساعدة» قبل ثلاث سنوات.
الفيلم الجديد لتايلور يعود أيضا إلى الستينات، ليعيد سرد حياة المغني جيمس براون، مستخدما عنوان إحدى أغانيه عنوانا له. هذا العنوان إباحي المدلول وستختلف ترجمته بين أبناء العربية، لكن الأقرب إلى المقصود هو فعل الإثارة الجنسية. والأغنية، التي يبلغ مداها أكثر من خمس دقائق، ولو أنها تبث بنسخة مختصرة على الأثير هنا وهناك، تلازم هذا المعنى. أطلقها براون في منتصف السبعينات وأحدثت، كسابقاتها وأكثر قليلا، رهجة ناجحة بين عشاق نوع «الريذم آند بلوز» و«الصول ميوزك»، النوعين اللذين جمعهما براون معا كما فعل آخرون من مغني الفترة الأفرو - أميركيين.
جيمس براون كان يختلف، رغم ذلك، بحيويته الكبيرة على المسرح. لا أحد مثله، لكن ميك جاغر، من فريق «ذت رولينغ ستونز»، يكاد يقلده، وهو كان أفصح عن تأثره بحركات براون على المسرح وعن حبـه إياه إلى درجة أنه سعى ليكون أحد منتجي هذا الفيلم. براون كان يمشي.. ينتفض.. يحـرك رأسه يمنة أو يسرة في مواقع معيـنة من الغناء.. يصيح.. يقفز.. يمشي.. يستدير، وكل ذلك إثر ساعات من التدريبات المفصـلة والمسبقة للحظة الافتتاح. بذلك، كان مسرحيا استعراضيا في الوقت ذاته الذي كان فيه مغنيا من الذين مثـلوا جيلا موسيقيا بارزا في تلك الفترة. لكن المنتج الأساسي هنا هو برايان غرازر الذي ابتاع حقوق تحويل قصـة حياة براون إلى فيلم سينمائي، قبل ثلاث عشرة سنة، أي قبل وفاة جيمس براون نفسه في عام 2006. هذا تسبب في إرجاء الموضوع إلى أن دخل ميك جاغر على الخط واقترح تعاونا.

* مشاكل شخصية
بخروج «غت أون أب» إلى العروض، تكمن إضافة موسيقية فوق عدد من السير الذاتية لموسيقيين ومغنين حفلت بها السينما في السنوات الثلاثين الأخيرة وجوارها. تلتقط الخيط هنا فتطالعك أفلام مثل «راي» (عن المغني راي تشارلز) و«أمشي الخط» (عن جوني كاش)، و«لا مامبا» (عن ريتشي فالنز)، و«ما علاقة الحب به؟» (عن تينا تيرنر)، و«سيلينا» (عن سيلينا كوينتانيللا) من بين أخرى كثيرة.
«الفيلم الذي يتناول حياة مغنين وموسيقيين»، يقول المخرج أوليفر ستون، «يشكـل أحد أنجح أنواع السير البيوغرافية على الشاشة. طبيعيا، لديك جمهور واسع من محبي الموسيقى وعشاق المغني وهواة السينما معا».
ستون يعرف - حتى من دون أن نتذكر - أنه هو من أخرج أحد هذه الأفلام. في عام 1991، قام بإخراج سيناريو جرت كتابته عن المغني الراحل جيم ماريسون إلى الفيلم المشبع «ذا دورز»، على اسم فرقة الروك الحديثة التي قادها موريسون في النصف الثاني من الستينات. الممثل فال كيلمر قام بالبطولة وساعده شكله وما أضيف إليه، كما موهبته بصفته ممثلا جيـدا في احتواء شخصية مضطربة قضت بفعل إدمانها، لكنها كانت من بين الأنجح والأكثر موهبة في مهنتها.
والاضطراب، بأشكاله المختلفة ونتائجه المتنوعة، هو القاسم الكبير لمعظم الأفلام التي تناولت حياة عمالقة الموسيقى، مع استثناء بعض الأفلام الأقدم مثل «أماديوس» لميلوش فورمان (1984)، و«ابنة عامل المنجم» لمايكل أبتد (1980).
«غت أون أب» يكشف عن تعرض جيمس براون للضرب والتعنيف وهو صغير من قبل أبيه، ولنبذه من قبل والدته التي أسندت رعايته إلى عمـته التي كانت تدير صالونا للمتعة في الثلاثينات. الكثير من الوحدة، والسباحة في الفقر والعوز وقفا وراء الحاجة لخوض معترك الغناء تعبيرا عن الألم العاطفي والاجتماعي، حسب رأي المخرج تايلور الذي كان يستطيع الكف عن تمحيص هذه الخلفية عوض الحك على الجرح أكثر مما يقتضي الأمر.
جوني كاش في «أمشي الخط»، كما أخرجه جيـدا جيمس مانغولد وقام ببطولته على نحو رائع واكين فينكس عام 2005، تعامل مع برودة الأب العاطفية القاتلة لابنه جوني، وسقوط الثاني في إدمان المخدرات، ولو إلى حين.
قبل ذلك الفيلم بعام، قام المخرج تايلور هاكفورد بتقديم قصـة حياة المغني الضرير راي تشارلز في فيلم سماه «راي»، مع جايمي فوكس في البطولة. فوكس نال الأوسكار عن دوره هنا الذي نص على سرد حياة مفعمة بالعواطف الحادة، كون المغني خسر البصر صغيرا ثم خاض حياته وحيدا ثم مدمنا، بينما كانت مهنته تتبلور صوب نجاحاتها الكبيرة التي حققتها.

* بطعم السكـر
الجمهور وقف وراء هذه الأفلام. كل واحد من تلك أعلاه حظي بنجاح لا بأس به؛ ليس ذلك النجاح الذي يحققه «كابتن أميركا» أو «آيرون مان» مثلا، لكنه نجاح وقبول بين الباحثين - قصدا - عما هو مختلف عن مغامرات «السوبر هيروز» والحكايات الفانتازية. وهو قاد في أغلب هذه الحالات إلى الترشيح في سباق الأوسكار، فنالت ريز ويذرسبون أوسكارها عن دورها في «أمشي الخط» (لكن فينكس أخفق في الوصول إلى المصاف ذاته) ونال جايمي فوكس الأوسكار عن «راي»، بينما سبق لسيسي سبايسك أن نالت أوسكار أفضل ممثلة عن دورها في «ابنة عامل المنجم» الذي حكى قصـة حياة مغنية الكانتري لوريتا لين التي نشأت أيضا في بيئة صعبة ماديا تخللتها قضايا عمالية ونقابية عايشتها كما والدها (قام بالدور تومي لي جونز).
لكن وقوف الجمهور إلى جانب الأفلام المذكورة (حاليا «غت أون أب»، و«راي»، و«أمشي الخط» سابقا) ليس توقيعا على بياض يشمل كل فيلم سيرة حياة لمغنين أو فرق موسيقية. قبل نحو شهرين، قام المخرج والمنتج كلينت إيستوود بإطلاق فيلم جيـد بعنوان «فتيان جيرسي»، تناول فيه قصـة حياة فرانكي فالي وفرقته «ذا فور سيزنز». هنا، كان عليه العودة إلى الخمسينات مما عني، ولو جزئيا، التعامل مع جمهور توقـف غالبه عن الذهاب إلى صالات السينما.
كذلك، فإن الفيلم تحلـى بطعم السكـر وليس بطعم الحنظل كما الحال في الأفلام الأخرى. صحيح أنه يتعرض لمتاعب أعضاء الفرقة (المحيط الاجتماعي كان قاسيا وبعض الأعضاء دخل السجن بسبب السرقة)، لكن ذلك يبقى في حيـز محدد من التعامل. إيستوود، للمناسبة ليس غريبا عن الأفلام التي تبحث في الموسيقى والموسيقيين، كان تناول حياة عازف الساكس تشارلي باركر في «بيرد» (1988)، كما قام به فورست ويتيكر الذي خرج بجائزة مهرجان «كان» كأفضل ممثل حينها، وصنع كذلك أفلاما موسيقية أخرى عن الجاز والبلوز، بالإضافة إلى أنه أطلق لصوته عنان الغناء في «هونكي تونك مان» (1982).
ولو أردنا سبر غور التاريخ لأبعد من الثمانينات قليلا، لطالعنا بالطبع الفيلم التسجيلي «وودستوك» (1970) الذي قام مايكل والدلي بتحقيقه عن تلك الحفلة العملاقة التي قام بها عشرات المغنين من الستينات؛ ومنهم: ريتشي هافنز، وجو كوكر، وجوان بايز، وأرلو غوثري، وجون سيباستيانن ومن الفريق: سانتانا، وذا هو، وجيفرسون أيروبلاين، وسلاي آند ذ فاميلي ستون.
ذلك الفيلم عكس جوهرا اجتماعيا مهمـا كحال «ابنة عامل المنجم»، و - حديثا - ذلك الفيلم عن حياة مغني «الرايغي» بوب مارلي. لكن هذه النوعية الدالة على رسالات اجتماعية هي الأقل نجاحا من تلك التي تدور حول المشاكل الفردية.

* المشروع المتعثـر لردينغ
* ربما ينفض النجاح الحالي لفيلم «غت أون أب» الغبار عن مشروع مشابه جرى وضعه قبل عشرين سنة عن المغني الراحل أوتيس ردينغ الذي سقطت طائرته بفريقه فقضى وهو في السادسة والعشرين من العمر، بعد حياة قصيرة زاخرة. في عام 1992، جرى تحريك الموضوع صوب الإنتاج الفعلي، لكن ذلك لم يثمر عن تحقيقه.



السينما في 2025... عام مفصلي لتطور تقنيات الإبهار

«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
TT

السينما في 2025... عام مفصلي لتطور تقنيات الإبهار

«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)

في مجمله، كان عام 2025 نقطةً مفصلية في مسار السينما على أكثر من صعيد. بدقّة عالية يمكن تحديد العام الحالي على أساس نقطة تفصل بين ما قبله وما بعده، تماماً كما حدث عندما داهم وباء «كورونا» العالم قبل 5 سنوات، فوجدت السينما، كغيرها من القطاعات، نفسها في موقع التحدي والمواجهة.

لكنّ ما يحدث هذه المرّة يختلف؛ فالسينما تدخل عصراً جديداً تبلورت ملامحه في الأعوام السابقة، ثم تجسّد عام 2025 بوصفه واقعاً ثابتاً وقوة مؤثرة في مختلف عناصر الصناعة. الإحاطة بهذه التطورات تكشف حجم تأثير دخول التقنيات إلى عمق البنية الصناعية للسينما.

«بوليت» المطاردة تبدو واقعية لليوم (وورنر)

استبدال شامل

حتى سنوات قليلة مضت، ظلّ إنتاج الأفلام يجري بالطريقة التقليدية: الموافقة على المشروع، ومن ثَم تطويع كل الإمكانات الفنية والتقنية لخدمته وفق موضوعه ونوعه. وكان من المعتاد اللجوء إلى تقنيات الكمبيوتر غرافيكس لإتمام ما يصعب تحقيقه واقعياً، مثل مشاهد مطاردات السيارات في أفلام مثل «بولِت» (Bullitt) 1968، و«ذَ فرنش كونكشن» (The French Connection) 1971، و«رونَن» (Ronin) 1998، التي كانت تُنجز بجهود بشرية شاقة وبمخاطر حقيقية.

اليوم تغيّر القاموس التنفيذي بالكامل. بات في الإمكان تصوير ممثل يركض في «شوارع باريس»، وهو في الحقيقة واقف داخل ستوديوهات «يونيڤرسال»، أمام شاشة خضراء. ويكفي عقد مقارنة بين تلك الأفلام الكلاسيكية وأي فيلم من سلسلة «Fast and Furious» للتأكد من حجم التحوّل.

لكن المدّ لا يتوقف هنا. فالاعتماد على الذكاء الاصطناعي شهد هذا العام قفزة جديدة. صار من الممكن، تنفيذ الفيلم من السيناريو إلى الشاشة عبر منظومة غير بشرية بالكامل: كتابة، إخراج، تصوير، مونتاج، بل وحتى أداء الممثلين.

دافع رئيس

قبل أسبوعين، اعتلى المخرج غييرمو دل تورو منصّة «أميركان فيلم إنستتيوت» لتسلُّم جائزته عن فيلمه الجديد «فرانكنستين»، ونال تصفيقاً حاراً حين أعلن: «فيلمي فني في كل لقطة. خالٍ بنسبة 100 في المائة من الذكاء الاصطناعي».

وعلى الرغم من هذه المواقف، يبقى الدافع الأساسي لاعتماد التقنية واضحاً: تقليص الميزانيات الضخمة للأفلام التجارية. فالذكاء الاصطناعي قادر على خفض التكاليف إلى النصف تقريباً، بحيث تبقى الرواتب هي العبء الأكبر وحدها.

وهذا يتقاطع مع استعداد جمهور واسع لقبول كل ما يقدّم له ما دام يحتوي على جرعات عالية من الأكشن والخيال، دون الاكتراث بما إذا كان الفيلم «بشرياً» أم مُنتجاً آلياً.

«فرانكنستين» 100 في المائة سينما (نتفليكس)

تفكير بالنيابة

يرى المدافعون عن الذكاء الاصطناعي (AI) أنّه يطوّر بصريات الفيلم ويجوّد مؤثراته، لكن هذا صحيح بقدر محدود. فالسينما بلغت قممها على أيدي فنانين أكفّاء صنعوا روائع مثل «ووترلو»، أو «بوني وكلايد»، أو «لورنس العرب»، أو «صنست بوليڤارد»، أو «القيامة الآن».

ما يطلبه الذكاء الاصطناعي ببساطة هو: «لا تفكّر... سأفكّر نيابةً عنك».

وهو ما يشبه ما حدث مع الهواتف الذكية وخرائط «غوغل»: استبدال الجهد الذهني بالاعتماد التام على التقنية.

ولا يعمل الذكاء الاصطناعي وحده في هذا المسار. فعام 2025 هو الامتداد الأكثر شراسة لما بدأ قبل سنوات مع المنصّات المنزلية، التي توفّر عليك مهمّة الانتقال إلى صالات السينما. غايتها ليست راحتك ولا حتى مساعدتك على الحد من النفقات (لم ترتفع أسعار التذاكر إلى المستوى الحالي إلا كرد فعل على انخفاض الإقبال) بل مد أصابعها إلى محفظتك كل شهر. أنت بالتالي، وعلى عكس روعة الحضور الفعلي لصالة السينما، لست أكثر من رقم محفوظ ومصمم لكي تُفيد جهة لن تقوم مطلقاً بتوفير أفلام فنية أو تعالج موضوعات جادّة بفاعلية طالما إنها ليست مطلب الجمهور.

وفي هذا السياق جاء هجوم «نتفليكس» الأخير لشراء «وورنر»، في خطوة توسّع رقعة هيمنة المنصّات. بينما جاء دخول «باراماونت» على خط الاستحواذ لعرقلة هذا التفرّد وإعادة بعض التوازن إلى المنافسة.

لكن السينما المناوئة لم تُهزم بعد وتجد في المهرجانات الفنية مساحة كبيرة للمقاومة كما في مواقف مخرجين يدركون جيّداً أن عليهم الصمود في وجه هذه التيارات.


شاشة الناقد: ثلاثة أفلام من مهرجان «البحر الأحمر» تكسر المعتاد

«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
TT

شاشة الناقد: ثلاثة أفلام من مهرجان «البحر الأحمر» تكسر المعتاد

«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)

THE SECRET AGENT ★★★★

إخراج: ‪ كلايبر مندوزا فيلو‬

البرازيل | تشويق سياسي

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

يتألّف هذا الفيلم الذي شهد عرضه الأول في مهرجان «ڤينيسيا» هذا العام واستُقبل جيداً في مهرجان البحر الأحمر قبل أيام من 3 أقسام، كل منها بعنوان مختلف، لكن ليس بغرض سرد 3 حكايات مختلفة، بل لربط أحداث كل فصل وشخصياته بخيط واحد يتناول، بالإيحاء غالباً، الجريمة السياسية في البرازيل سنة 1977. وسواء تحدّث القسم الأول عن جرائم قتل ارتكبها نظام تلك الفترة ضد المواطنين، أو رغبة بطل الفيلم مارسيلو (واغنر مورا) في البحث في أرشيف الدولة عن تاريخ عائلته (القسم الثاني)، أو لجوئه للتخفي بعيداً عن أعين مطارديه في محاولته لإعادة فهم وتقييم الواقع المُعاش (عموم الأقسام الثلاثة)، فإنه يوفّر من خلال شخصية بطله نظرة جامعة لأثر الاضطهاد السياسي على حياته فرداً وحياة الآخرين مجموعةً. وهو يفعل ذلك بدراية كاملة وبحرية فنية تجعل الفيلم أكثر إشباعاً لمحبي السينما وتمنح المُشاهد معالجة تبدو كما لو كانت مستقاة من خطوط أحداث لا نراها، بل نعايشها كما نعايش الماثل أمامنا. هذا كان شغل فيلو منذ فيلمه الأول «أصوات مجاورة» (Neighboring Sounds) وما زال شغله الآن، حيث ما نراه وما لا نراه يتساويان في الإيحاء والأهمية.

يستخدم فيلو السينما مرآة تعكس ذاكرة تقض المضاجع. مارسيلو يعيش في ماضيه كما في واقعه الحالي. يلجأ إلى بلدة تعيش طقوساً احتفالية لا يأبه لها كثيراً، إذ إن غايته إعادة الوصل بينه وبين ابنه الذي يعيش في الخيال. كل هذا والشعور بأن السلطة والعاملين فيها أو متعاملين معها موجودون عن قرب، حتى وإن لم نرَ لهم حضوراً فعلياً.

يتحرك الفيلم بحرية بين موضوعاته وأقسامه، غير مرتبط بمنهج سرد معيّن، ولكثرة مشاغله وما يود البحث فيه هناك تطويل يطغى، لكنه يبقى قادراً على جذب الاهتمام طوال الوقت. ما يتبلور على الشاشة هو عمل يجمع بين سيرة شبه شخصية لرجل يرفض نسيان الأمس وبين حب السينما كلغة تعبير، وثقة المخرج بالكيفية التي ينجز فيها مفرداته هذه.

BLACK RABBIT‪,‬ WHITE RABBIT ★★★

إخراج: شهرام مقري

طاجيكستان/ الإمارات العربية

المتحدة | دراما

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

هذا فيلم غريب يُقدّر لحريّة المخرج في معالجته المبنية، بوضوح، على الخروج من شروط السرد المعتمد عادةً إلى آخر يتطلّب من المُشاهد التحرك بالاتجاه نفسه، متجاوزاً بدوره ما اعتاد عليه.

«أرنب أسود، أرنب أبيض» (مهرجان البحر الأحمر)

يدور في أرض تعود إلى استوديو حيث يُصوَّر فيلمان معاً في رقعة واحدة. رغبة المخرج مقري تعتمد على الإكثار من استخدام حريّته في رصف الفيلم الذي يريد كما يريده. هذا يخلق وضعاً تتكرر فيه المشاهد والحوارات، كما الحال عادةً خلال صنع الأفلام. نرى المشهد نفسه مع تغيير طفيف أكثر من مرة، تبعاً لرؤية مخرج يهوى التجريب ويراه مدخلاً مناسباً لسينماه. امرأتان ورجل ومسدس قديم هم محور ما يدور، لكن في وسط ما يبدو تكراراً، حضور لطبقات جديدة تتوالى الظهور.

من حسنات الفيلم التصوير (لمرتضى غايدي)، الذي يؤسس لنظام عمل متكامل يتواكب مع رغبة المخرج في تشغيل مخيلة المُشاهد وتعزيز أسلوبه. في أحيان كثيرة، يؤدي ذلك، ولو بالقصد، إلى الخلط بين الحدث الذي يقع في الفيلم الذي نراه، وذلك الحدث الآخر الذي ينطوي عليه الفيلم داخل الفيلم.

LOST LAND ★★★

إخراج: أكيو فوجيموتو

اليابان/ ماليزيا/ فرنسا

دراما عن الهجرة

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

لا بد أن الشعور الإنساني في صميمه هو ما يدفع مخرجاً يابانياً للانتقال إلى بنغلاديش لتصوير موضوع محلي الحدث مع شخصيات محلية بدورها.

«أرض مفقودة» (مهرجان البحر الأحمر)

في «أرض مفقودة» متابعة لمصير صبي في الرابعة من العمر وشقيقته ابنة التاسعة، وقد قررا الاشتراك في رحلة تبدأ في حافلة تقل عشرات الأشخاص وتنتهي بهما بعد أيام من المشاق، وقد أصبحا وحيدين. مما يتبدى أن غاية المخرج فوجيموتو هي الحديث عن الهجرة غير الشرعية عموماً، مع تمهيد للشخصيتين قبل التحوّل عنهما لتصوير آخرين يؤمّون الهدف نفسه ويعيشون مصاعبه. سيعود المخرج للصبي شافي وأخته سميرة لاحقاً بعد أن يؤسس صورة عامة.

رغبة هذين الولدين هي ترك بنغلاديش في محاولة للقاء والديهما اللذين كانا قد هاجرا إلى ماليزيا. ليس هناك كثيراً لتداوله حول ظروف ما قبل قرارهما بالهجرة، لكن الحكاية تنتهي بهما وقد وجدا نفسيهما في تايلاند. على ذلك، يلتقي هذا المنهج مع حقيقة أن الشخصيات المحيطة تهاجر من دون القدرة على اتخاذ قرارات صائبة. في عموم الفيلم، هم آملون بمستقبل أفضل في عالم لا أمل فيه بالنسبة إليهم على الأقل.

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز


شهد أمين لـ«الشرق الأوسط»: «هجرة» يكسر نموذج المرأة الواحدة

شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)
شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)
TT

شهد أمين لـ«الشرق الأوسط»: «هجرة» يكسر نموذج المرأة الواحدة

شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)
شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)

بين حضور دولي، بدأ مع فيلم «سيدة البحر» عام 2019، وصولاً إلى اختيار فيلمها الجديد «هجرة» لتمثيل السعودية في سباق الأوسكار 2026، تبدو المخرجة السعودية شهد أمين أكثر وضوحاً في صياغة رؤيتها السينمائية، خاصة أن الفيلمين يتقاطعان في السرد النسوي، حيث يقدمان نظرة لأحوال المرأة ومعالجة عميقة لقصصها.

وفي حوار أجرته معها لـ«الشرق الأوسط» من داخل مهرجان البحر الأحمر السينمائي بجدة، حيث يشارك فيلمها في المسابقة الرسمية، جاء السؤال الأول عن هذا التقاطع، لتجيب: «كنتُ واعية تماماً وأنا أعمل على (هجرة)، فأنا لا أريد تكرار نفسي، ولا تقديم فيلم يشبه (سيدة البحر)... أردتُ أن أكتب من نقطة مختلفة، من اللحظة التي نعيشها الآن، ومن السؤال الذي يشغلني شخصياً: ما الذي أريد قوله للعالم اليوم؟».

نساء الأجيال الثلاثة

أمين، التي تقدم في «هجرة» رحلة المرأة السعودية عبر 3 أجيال، تشير إلى انزعاجها من الفكرة الدارجة اليوم حول تصوير «المرأة المعاصرة» بوصفها النسخة الوحيدة الصحيحة، وكأنها جاءت لتُصحّح أخطاء الأجيال السابقة من الأمهات والجدات وكل النساء السابقات، مضيفة: «شعرتُ أن هذه النظرة فيها قدر من النرجسية». وتتابع: «نحن نرى الحياة اليوم من منظور معاصر ومختلف جذرياً، لكن هذا لا يعني أن تفكيرنا هو الصحيح وتفكيرهنّ هو الخطأ... كنتُ أريد أن أعطي حقاً للنساء اللواتي جئن قبلنا».

وتمضي لشرح رؤيتها التي تشكلت في «هجرة» قائلة: «أردتُ أن أقدم أجيال النساء من دون أحكام... نعم، هناك صراع بين الأجيال، لكنه صراع ينتهي بتفاهم، وبإدراك أن اختلافنا طبيعي وليس تهديداً. اليوم، العالم كلّه يضغط ليجعلنا نموذجاً واحداً، وفكرة واحدة... بمعنى: إذا لم تشبهني فأنت مخطئ أو شرير أو مريض. بينما الحقيقة أننا يمكن أن نختلف، ونظل نتقبّل بعضاً».

فيلم هجرة يتناول العلاقات المتشابكة بين أجيال من النساء (الشرق الأوسط)فيلم «هجرة» يتناول العلاقات المتشابكة بين أجيال من النساء (الشرق الأوسط)

«هجرة»... الحكاية العميقة

حضرت «الشرق الأوسط» عرض فيلم «هجرة» في المهرجان، حيث شهد إقبالاً كبيراً وبيعت التذاكر بالكامل، والفيلم الذي يأتي من بطولة خيرية نظمي ونواف الظفيري والوجه الصاعد لمار فادن، تعود قصته لعام 2001، حين تقرر الجدة اصطحاب اثنتين من حفيداتها لأداء فريضة الحج، وبعد أن تتوه واحدة منهما، تقرر الجدة في لحظة صعبة أن تترك الحج وتبحث عن حفيدتها الضائعة، وخلال الرحلة يتكشف الكثير من الأسرار.

شهد أمين حرصت على إظهار واقعية العلاقة الإنسانية بين الجدة والحفيدة، بعيداً عن الحوارات المطولة والتعابير المبالغ بها، حيث برزت لغة العيون والإيماءات بشكل أكبر في أداء كل شخصية، كما أظهرت تفاصيل ما يحدث حول رحلة الحج ذاتها، والشخصيات الهامشية التي تعيش على بيع السبح وماء زمزم وتوصيل الحجاج، والطقوس التي تعصف بالمكان في تلك الفترة الغنيّة بالقصص والأحداث، ما يجعله فيلماً ينحاز للعمق وصدق التجربة.

الأوسكار... الواقعية قبل الحلم

وبواقعية شديدة، تجيب أمين حول سؤالها عن فرص فيلم «هجرة» في الوصول إلى القائمة القصيرة ومن ثم النهائية للأوسكار، قائلة، «دعينا نقول إن الوصول إلى القائمة القصيرة هو الخطوة الأهم... وبصراحة، كل مخرج يكون لديه قدر من التفاؤل في هذه المرحلة، لكن يجب أن نكون واقعيّين؛ لأن الوصول إلى الأوسكار لا يعتمد فقط على جودة الفيلم، بل يحتاج أيضاً إلى حملة إعلامية ضخمة في لوس أنجليس».

وتستكمل حديثها: «نتمنى الوصول إلى القائمة القصيرة، لكني أرى أن الوصول إلى القائمة النهائية صعب جداً... ومع ذلك، لم لا؟ نقول إن شاء الله... في هذا العام أفلام عربية جميلة وقوية، وجودتها عالية، وأتوقع أن يصل أحدها إلى الأوسكار... نتمنى أن نكون نحن، لكن قد يكون فيلماً عربياً آخر، لا أحد يعلم!».

أحدث جلسة تصوير لشهد أمين في مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)

أفلام المهرجانات أم السينما التجارية؟

ولأن أفلام شهد أمين دائماً حاضرة في المهرجانات السينمائية بخلاف دور العرض التجارية، تحتم علينا سؤالها إن كانت مخرجة لأفلام المهرجانات، لترد: «بصراحة، نعم. أفلامي تُصنَّف عادة ضمن أفلام المهرجانات، صحيح أن (سيدة البحر) عُرض في صالات السينما، لكن حضوره كان أفضل في المهرجانات».

وترى أمين أن هناك فرقاً كبيراً بين أفلام شباك التذاكر والأفلام التي تُقدَّم للمهرجانات، وعن ذلك تقول: «الأفلام التجارية تستهدف السوق مباشرة، وتُبنى على فورمات معروفة تشبه ما اعتدنا عليه في السينما الأميركية أو نوع الأفلام الخفيفة التي يعرف الجمهور شكلها مسبقاً، بحيث يدخل المشاهد الفيلم وهو يعرف تقريباً الإيقاع المتوقع، والنهاية المحتملة، والمشاعر التي سيخرج بها».

وتضيف: «أفلام المهرجانات شيء آخر... فهي أفلام تحاول أن تأخذ الجمهور في رحلة مختلفة، بتجربة بصرية أو سردية غير مألوفة. ليست مصممة لاسترضاء الجميع، وقد لا تحظى بقبول واسع، لكنها دائماً تحمل طبقات وعمقاً وتجريباً أكبر من الأفلام التجارية، ولهذا السبب نجد المهرجانات تبحث عن هذا النوع من الأعمال؛ لأنها تضيف صوتاً جديداً وشكلاً جديداً للسينما».

وبالسؤال عن طرح «هجرة» في صالات السينما السعودية، تكشف أمين عن أن الموعد «قريب جداً»، وقد يكون «في مطلع عام 2026 تقريباً»، لكنها تؤكد أن القرار يعود للموزّعين والمنتجين. وتضيف: «الحلم الحقيقي لأي صانع أفلام هو تحقيق المعادلة الصعبة: فيلم يحمل عمقاً فكرياً وشاعرية، وفي الوقت نفسه يمنح الجمهور تجربة ممتعة ومؤثرة... إذا نجح (هجرة) في ذلك فسأكون ممتنّة جداً».

المخرجة العربية... خارج القوالب

وعند الحديث عن حضور المخرجات العربيات، من هيفاء المنصور إلى كوثر بن هنية ونادين لبكي وشيرين دعيبس، في المهرجانات الدولية، ترى أمين أن الصورة أكثر تعقيداً مما يبدو، قائلة: «في الغرب، وخصوصاً في أميركا، تعمل المخرجات غالباً في مساحة السينما المستقلة؛ لأن السينما التجارية ما زالت ذكورية... القصص يكتبها رجال، ويُنتجها رجال، وتُساق ضمن قوالب مألوفة».

وتشير إلى أن السينما المستقلة تمنح المخرجات مساحة أكبر لتقديم رؤية مختلفة، مضيفة: «في العالم العربي اليوم، عدد المخرجات الشابات أكبر من عدد المخرجين، ولهذا نراهن كثيراً في المهرجانات العالمية... البعض يظن أن وجود المرأة في هذه المنصات هو مجرد (مجاملة)، وهذا غير صحيح إطلاقاً... كل الأسماء التي نراها - من الخليج إلى شمال أفريقيا - قدّمت أفلاماً تستحق مكانتها».

وتختم المخرجة شهد أمين حديثها بالقول: «دائماً ما يُسألني الناس: ما الصعوبات التي واجهتها لأنك امرأة؟ الحقيقة أن المخرجات السعوديات والعربيات اليوم أكثر حضوراً من نظيراتهن في أوروبا... وأنا فخورة جداً بذلك».