التحولات التقنية في عالم صناعة الإعلام من انتشار مواقع الأخبار على الشبكة العنكبوتية، والضغوط المتزايدة على الإعلام الورقي المكتوب، ومخاوف الأخبار الكاذبة، إلى جانب تحول التمويل الإعلاني إلى عمالقة الإنترنت، من أمثال «غوغل» و«فيسبوك»، أثارت مخاوف في أوساط الصناعة وبين مسؤولي الحكومة البريطانية. لذلك؛ اتخذت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي خطوة تكليف الباحثة الاقتصادية المرموقة فرانسيس كيرنكروس بإعداد تقرير عن حالة الإعلام البريطاني، وتقديم اقتراحات لتحسين الوضع الحالي، في عام 2018. وبعد سنة كاملة من البحث، قدمت كيرنكروس تقريرها النهائي وتوصياتها التي نشرت الأسبوع الماضي.
وصفت كيرنكروس تقريرها بالقول: إن الاقتراحات التي تقدمت بها من شأنها أن تحسّن الأفق للصحافة عالية المستوى، وأن تشجع نماذج إعلامية جديدة ليس فقط من ناحية التقنيات المتاحة، بل أيضاً من جوانب التجديد وأساليب المهنة الصحافية. واستعانت بخبراء إعلام من الصحافة الوطنية والإعلام الرقمي وصناعة الإعلان، كما ركزت في تقريرها على استعادة التوازن بين ناشري الأخبار وبين المنصات الرقمية التي تنشر ما ينتجونه. يأتي التقرير في مرحلة بها الكثير من المتغيرات في التقنية وتوجهات المستهلك؛ مما يمثل تحديات للصحافة ذات النوعية الجيدة، سواء في بريطانيا أو حول العالم.
وترى كيرنكروس، أنه في بعض الأحيان لا بد من الإشراف الحكومي من أجل التزام منصات أخبار الإنترنت بمعايير إعلامية لتحسين الثقة في الأخبار التي تبثها مع تعيين مراقب عليها. كما يتعين على الحكومة النظر في الدعم المباشر لمصادر الأخبار المحلية، وتقديم إعفاءات ضريبية للإعلام الذي يتوجه للصالح العام. كما طالب التقرير بمؤسسة توفر الدعم عبر صندوق خاص بالابتكار في مجال الأخبار التي تهم الصالح العام.
من بين التوصيات الأخرى التي قدمتها كيرنكروس:
- الالتزام بمعايير جديدة لاستعادة التوازن بين الناشرين وبين منصات الإنترنت.
- تنظر لجنة الاحتكارات في سوق الإعلان الرقمي للتأكد من وجود منافسة عادلة.
- لا بد أن تبذل منصات الإنترنت جهداً في تحسين حصول مستخدميها على الأخبار بأسلوب جيد وتحت رعاية من جهات رقابية.
- تنظر مؤسسة «أوفكوم» الحكومية للرقابة الإعلامية ومنع الاحتكار في نشاط أخبار هيئة الإذاعة البريطانية، وعما إذا كانت بعض المجالات يمكن خدمتها بطريقة أفضل من مؤسسات تجارية.
- على هيئة الإذاعة البريطانية أن تقدم المزيد من الدعم للناشرين المحليين بحيث تكون الأخبار التي تقدمها مكملة للأخبار المحلية.
- لا بد من تأسيس معهد مستقل لتوفير الأخبار التي تهم الصالح العام في المستقبل.
- ضرورة إنشاء صندوق للابتكار يساهم في تحسين توفير الأخبار التي تهم الصالح العام.
- إعفاءات ضريبية لتشجيع الدفع مقابل الأخبار الرقمية ولدعم الإعلام المحلي والصحافة الاستقصائية.
- توسيع مجال الدعم المالي لمصادر الأخبار المحلية بمساهمة هيئة الإذاعة البريطانية؛ لأنها تدعم تعددية الأصوات والديمقراطية.
وسوف تنظر الحكومة البريطانية في هذه التوصيات بالتفصيل، وفق ما أعلنت، ويكتب وزير الثقافة جيريمي رايت إلى سلطات منع الاحتكار و«أوفكوم» وغيرهما لفتح مناقشة حول تطبيق هذه التوصيات كل في مجاله. وترد الحكومة على توصيات التقرير خلال العام الحالي.
دواعي التقرير
هناك الكثير من التحديات التي تواجه الإعلام البريطاني الرصين من صحف قومية ومصادر أخبار ومجلات ومحطات تلفزيونية. مصدر هذه التحديات هو التوغل الرقمي الذي لا يعرف حدوداً جغرافية، وشبه الاحتكار في مجالات التواصل الذي تنفرد به مؤسسات عملاقة تعمل على نطاق عالمي. فهي لا تجذب فقط ملايين المستخدمين، بل تجذب معهم أيضاً مليارات الدولارات من الإيراد الإعلاني الذي تحول إليها من وسائل الإعلام المحلية، خصوصاً الصحف والتلفزيون.
هناك أيضاً مخاوف جانبية عبر عنها مستخدمو الأخبار، وهي كيفية التعرف على الأخبار الكاذبة التي تحولت إلى ظاهرة اسمها «Fake News». فقد اعترف ربع مستخدمي منصات الإنترنت بأنهم لا يعرفون كيفية التعرف على هذه الأخبار أو التحقق منها.
ويرى التقرير، أن على منصات الإنترنت التعرف السريع على الأخبار الكاذبة وإزالتها من على المواقع. ويتهدد خطر الأخبار الكاذبة الصحافة المكتوبة، سواء الورقية أو على الإنترنت؛ لأنها توفر أكبر نسبة من الأخبار الأولية المؤثرة مقارنة بالراديو والتلفزيون، وخصوصاً جانب الصحافة الاستقصائية منها.
وفي حين يعترف التقرير بوجود أزمة تحول في مجال الإعلام، كما هو الحال في الكثير من المجالات الأخرى، إلا أن بعض التوصيات تثير تساؤلات أكثر مما تجيب عن مخاوف. فما هي الحاجة مثلاً «إلى معهد مستقل لتوفير الأخبار التي تهم الصالح العام في المستقبل» أو تأسيس صندوق للابتكار؟ كما أن توفير حوافز حكومية أو إعفاءات ضريبية، أو حتى إشراف حكومي، سواء على الصحف أو على مصادر أخبار الإنترنت، كلها عناصر تتعارض جذرياً مع حرية الصحافة المفترضة، خصوصاً تلك التي تتوجه «إلى الصالح العام». ولا يهدف التقرير إلى حماية الناشرين أنفسهم، وإنما يتطلع إلى توفير المناخ عالي الكفاءة الذي يعملون فيه.
ردود الأفعال
تباينت ردود الأفعال من مواقع الإعلام المختلفة، خصوصاً تلك التي سبق لها التفاعل مع لجنة كيرنكروس. وكانت أبرز التعليقات من الجهات التالية:
- «فيسبوك»: أكد متحدث من «فيسبوك»، أن الشركة ملتزمة تماماً بدعم الناشرين في بريطانيا، والتأكد أن الجمهور يتصفح أخباراً ذات مصداقية على «فيسبوك». وأضاف المتحدث: إن «فيسبوك» تعاون مع فريق إعداد تقرير كيرنكروس خلال فترة عمله، وإنه يراجع توصيات التقرير. وأضاف: «كما أشار التقرير، فقد أحرزنا بعض التقدم في توفير بعض الأدوات التي تمكّن المستخدمين من تحديد الأخبار التي يعتمد عليها على موقعنا، بما في ذلك زر يوضح مصادر الأخبار على الموقع».
كما دشن «فيسبوك» صندوقاً في بريطانيا قيمته 4.5 مليون إسترليني لدعم جرائد المحليات في أنحاء البلاد. ووعد «فيسبوك» بالاستمرار في العمل مع الحكومة والمسؤولين والناشرين لتوفير نماذج مستدامة للأخبار ومنصة يمكن الاعتماد عليها لنشر أخبار ذات مصداقية.
- «غوغل»: وقال نائب رئيس الشركة لقطاع الأخبار رتشارد غينغراس: إن الموقع ملتزم بتقديم خدمات إعلامية لها قيمة، حيث يقوم الموقع بالتعامل مع البحث عن مصادر أخبار 10 مليارات مرة كل شهر. وأضاف: إن الشركة تشارك الناشرين في 70 في المائة من إيرادها الإعلامي.
- هيئة الإعلان: وهي تمثل صناعة الإعلان البريطانية وقالت: إنها تدعم تماماً الحاجة إلى صناعة إعلام جيدة ومستقلة ومستدامة على المدى البعيد. وفيما يتعلق صناعة الإعلان على الإنترنت، ترى الهيئة أن أي خطوات تتخذ في هذا المجال يجب أن تكون متناسبة مع الواقع ومبنية على أدلة؛ حتى لا يتضرر أحد من أطراف منظومة الإعلانات من المعلن والوكالة ووسائل الإعلام أو الشركات التقنية.
- لجنة الثقافة والإعلام والرياضة: وهي لجنة حكومية يرأسها داميان كولينز، الذي رحب بالتقرير وبالحاجة إلى قواعد للمهنة تعم على منصات الإعلام الإلكتروني ووسائط التواصل الاجتماعي. واقترح كولينز، أن تقوم شركات التواصل الاجتماعي بتطوير الأدوات التي تساعد مستخدميها، وأن تنظم المحتوى على مواقعها. لكنه اعترض على تأسيس معهد مستقل لتوفير الأخبار التي تهم الصالح العام، وقال: إن المؤسسات القائمة تكفي للقيام بالمهمة.
- وزير الدولة للثقافة والإعلام والرياضة، توم واطسون: وكان له اعتراضاته على التقرير، حيث اعتبر أن المطالبة بإعفاءات ضريبية على وسائل أخبار رقمية تهم الصالح العام هي فكرة تنتمي إلى حزب العمال، كما أن مهاجمة هيئة الإذاعة البريطانية هي في الواقع مهاجمة للجهة الخطأ. واعتبر واطسون أن المشكلة الحقيقية تكمن في حصول «فيسبوك» و«غوغل» على نصف الدخل الإعلاني البريطاني؛ مما يجعل تطوير وسائل الإعلام المستقلة على أسس مالية مستدامة مسألة صعبة المنال.
> هيئة الإذاعة البريطانية: نفى متحدث عن الهيئة وجود أي دليل على أن «بي بي سي» تزاحم أي مصادر أخبار محلية. وأضاف: إن الهيئة مستعدة لمشاركة الناشرين المحليين بالتقنيات والخبرة، لكن سحب خدمات الهيئة من توفير الأخبار المحلية سوف تكون نتائجه عكسية لما يريد التقرير.
الإعلام البريطاني الورقي خسر ثلثي إيراداته الإعلانية في 10 سنوات
> أكد تقرير حول ديناميكية سوق الإعلام في بريطانيا كان ضمن المصادر التي اعتمد عليها تقرير كيرنكروس، أن موارد الإعلان للإعلام المطبوع تراجعت بنسبة الثلثين في السنوات العشر حتى عام 2017 . كما أشار التقرير إلى أن توزيع الصحف القومية في بريطانيا تراجع من 11.5 مليون نسخة في عام 2008 إلى 5.8 مليون نسخة في عام 2018.
وفيما يتعلق بالصحف المحلية فقد تراجع توزيعها من 63.4 مليون نسخة أسبوعياً في عام 2007 إلى 31.4 مليون نسخة أسبوعياً في عام 2017.
وبين عامي 2007 و2017 تراجع توزيع الصحف بشكل عام بنسبة النصف. وما زال تيار التراجع مستمراً. أما عدد الصحافيين المتفرغين في بريطانيا، فقد تراجع من 23 ألف صحافي في عام 2007 إلى 17 ألفاً في العام الحالي، وما زال العدد يتناقص.
وفيما يتعلق بالإيراد الإعلاني، زاد الإنفاق الإعلاني البريطاني على الإنترنت من 3.5 مليار إسترليني (4.5 مليار دولار) في عام 2008 إلى 11.5 مليار إسترليني (14.9 مليار دولار) في عام 2017، بنسبة نمو سنوية تبلغ 14 في المائة. وفي المتوسط، تذهب نسبة 62 في المائة من الإنفاق الإعلاني على الإنترنت إلى الناشر، وهي نسبة متفاوتة بين 43 و72 في المائة. وحصلت «غوغل» و«فيسبوك» على نسبة 54 في المائة من إجمالي الإنفاق الإعلاني الرقمي. ويعتمد الناشرون على الإعلانات التي تحولت الآن إلى أنظمة أتوماتيكية مبرمجة بالكامل وتعتمد على حجم المرور بالموقع الإخباري.