العواطف الجماعية في قفص الاتهام

دوريس ليسنج في مقاربات بين الشخصية والسياقات المجتمعية

العواطف الجماعية في قفص الاتهام
TT

العواطف الجماعية في قفص الاتهام

العواطف الجماعية في قفص الاتهام

عبر خمس محاضرات، طرحت الأدبية البريطانية الحائزة على جائزة نوبل دوريس ليسنج خريطتها الخاصة لمفاهيم ترى أنها تقف وراء كثير من رؤية الفرد لذاته، ومفاهيم العالم حول تاريخه، وارتباكات الإنسان حول جذور إنسانيته، وسلوكه الحيواني الصادم كذلك.
جمعت ليسنج سلسلة محاضراتها تلك، التي ألقتها برعاية هيئة الإذاعة الكندية عام 1985. تحت اسم «سجون نختار أن نحيا بها»، في كتاب، وصدرت أخيراً ترجمته إلى العربية في تعاون مشترك بين المركز القومي للترجمة ودار «العين» للنشر في القاهرة، وأنجزتها المترجمة المصرية سهير صبري.
في الكتاب، الذي يقع في 104 صفحات، تعقد ليسنج مقاربات بين شخصيتها وبين السياقات المجتمعية التي تنتقدها، فتتوقف مثلاً عند لمحة طريفة من سيرتها الذاتية، قامت فيه بحيلة لاختبار مدى تأثير العقل الجمعي على موقف وإرادة الأفراد، فحكت عن قيامها ذات مرة بكتابة كتابين باسم مستعار لكاتبة مغمورة وهو «جين سومرز»، وقامت بتسليمهما لناشرين باعتبار أنهما لتلك الكاتبة المغمورة وليست بصفتها الحقيقية كأديبة بارزة، تقول: «قمت بذلك بدافع الفضول والرغبة في إلقاء الضوء على جوانب معينة من آلة النشر، والآليات التي تحكم كتابة التحليلات النقدية». كانت المفاجأة أن رفض عدد أكبر من الناشرين كتابيها، وقبله عدد محدود، وفوجئت بأن عدداً كبيراً ممن يعتبرون أنفسهم خبراء في أعمالها لم يتعرفوا على أسلوبها ووقعوا في فخ «الاسم المستعار»، وهنا تخلص ليسنج إلى «أننا جميعاً نعتمد على أسماء العلامات التجارية والتغليف أكثر مما نظن عن أنفسنا»، وفي النهاية وبعدما كشفت عن الخدعة، ظهر الكتابان باسم «مذكرات جين سومرز» بقلم دوريس ليسنج.
تشد دوريس على مدار محاضراتها خيطاً مُحكماً بين تمسك الفرد بإنسانيته في مواجهة غيلان الحرب، وغسيل الأدمغة، وسطوة الفكر الجماعي، وادعاء التحضر، وكذلك العواطف الجماعية. تعلق على ذلك بقولها: «غالباً ما تكون العواطف الاجتماعية هي تلك التي تلوح كالأنبل والأفضل والأجمل، ولكن في غضون عام أو خمسة أعوام أو عقد أو خمسة عقود، سيتساءل الناس: كيف لهم أن يعتقدوا في ذلك؟ لأن أحداثاً ستكون قد وقعت وأقصت تلك العواطف الجماعية إلى مزبلة التاريخ، إذا جاز لنا القول»... يتكرر تساؤل ليسنج عبر محاضراتها في انتصار لافت لقيم التجرد من العواطف الجماعية في مقابل الاستقراء والمراقبة والنقد الواعي. تنحاز دوريس ليسنج للفرد، كنواة لكل الأشياء، للتاريخ، وللمستقبل، تتأمل على مدار محاضراتها ذلك التجريف الذي ينال من حرية الفرد وسيطرته على محيط أفكاره دون انحياز، وكانت أصابع اتهامها غالباً ما تشير إلى ضغوط الجماعة، وسياسة القطيع، تتأمل قائلة: «حيث أنظر إلى الوراء، أرى الأثر العظيم الذي يمكن أن يُحدثه الفرد، حتى الشخص غير المعروف الذي يحيا حياة بسيطة هادئة، الأفراد من يُغيرون المجتمعات، ويولدون الأفكار».
تتراءى للكاتبة البريطانية وهي في محض حديثها عن النظر إلى وراء، صورة إخناتون، الفرعون المصري، جاعلة منه مثالاً للفرد الذي وقف وتحدى معتقدات متوارثة غارقة في عبادة الموت، فجاء هو ليتبع ديناً يقوم على الحب، وعلى الإله الواحد، ومع ذلك لم يحكم كثيراً وأُطيح به، وعادت الديانة القديمة أدراجها وأطلقوا على إخناتون «المهرطق والمجرم الكبير». ورغم محاولاتهم طمس أي هوية له، فإنه أعيد اكتشافه في القرن الـ19. وصار له أبلغ الأثر في زمان آخر. وتستشهد دوريس باقتباس توماس مان لشخصية «إخناتون» في روايته العظيمة «يوسف وإخوته»، والأوبرا التي كتبها فيليب جلاس عنه... وتتساءل: كيف كان لهذا الملك الذي حكم منذ 3500 عام، هذه القدرة على إثارة خيالنا؟
تعتبر دوريس الاستشهاد بشجاعة «الفرد» كما في سياق «إخناتون» درساً في أهمية انحياز الفرد لـ«فحص الأفكار» تعتبر أن الحصول على الحريات لا يعني المشاركة في المظاهرات والأحزاب السياسية، وما إلى ذلك فحسب، فهذا جانب واحد من العملية الديمقراطية، بل «فحص الأفكار، لنرى كيف يمكننا المساهمة النافعة في حياتنا وفي المجتمعات التي نحيا فيها».
ومن ثم، تتخذ من التاريخ أمثلة على قيم التفرد في مواجهة الجماعة، والأقلية في مواجهة الأغلبية، فاتخذت مثلاً من الواقعة الشهيرة لإضراب عمال المناجم في بريطانيا عام 1984. تفنيداً لفهم كلمة الأقلية، وتأثيرها، وتوقع ردود الأفعال حيال نزوعها للاختلاف، تقول: «علينا التفكير في سبل نُعلم بها أبناءنا تعزيز هذه الأقلية وليس تبجيل الجماعة».
كما تستهل المحاضرة الأولى بقصة مزارع شهير في روديسا الجنوبية القديمة، حيث نشأت ليسنج. وكان هذا المزارع قد قرر الانتقام من ثور عقاباً له عن جريمة قتله لحارسه الصبي غير عابئ بتوسلات الأهالي له لتركه لأن طبيعته كثور دفعته لمهاجمة من يجاوره كما حدث لحارسه. وسجلت واقعة أخرى قام أحدهم بالانتقام من شجرة فأعدمها. اعتبرت ليسنج الواقعتين، تكريساً لارتداد الإنسان إلى الهمجية، وسقوطه رغم تفوقه في كثير من دروب الحياة في قبضة السلوك الحيواني، محاولة عبر محاضراتها الإجابة عن سؤال: إلى أي مدى وبأي تواتر يهيمن علينا ماضينا الهمجي، كأفراد وجماعات؟
وتعتبر صاحبة «العُشب يُغني» أن الأدب ينبغي وضعه جنباً إلى جنب مع كتب الأنثروبولوجيا باعتباره «عيناً أخرى»، فهو يُعلق على الحالة الإنسانية، ويفهم تطور الشعوب. الأدب كذلك فرع من التاريخ، بل إن الأدب والتاريخ فرعان للذاكرة الإنسانية، وهي تعتبرهما بمثابة «علوم ناعمة»، ومع ذلك تأسف لتناقص تقديرهما بين الشباب أكثر فأكثر، وبين القائمين على التعليم كذلك، رغم أنه عبر كل منهما يتعلم المرء كيف يكون مواطناً وإنساناً، فيتحرر من الهمجية. تفترض ليسنج أنه لو نظر الناس إلى زمننا من شرفة المستقبل سيتعجبون لحالنا لا لشيء إلا لأننا رغم أننا أصبحنا نعرف أكثر مما عرفه الناس في الماضي، لكننا ما زلنا غير قادرين على وضع تلك المعرفة محل التنفيذ.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية» تُعلن قائمتها الطويلة

«جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية» تُعلن قائمتها الطويلة
TT

«جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية» تُعلن قائمتها الطويلة

«جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية» تُعلن قائمتها الطويلة

أعلنت «جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية»، في الكويت، اليوم (الأحد)، عن القائمة الطويلة لدورتها السابعة (2024 - 2025)، حيث تقدَّم للجائزة في هذه الدورة 133 مجموعة قصصية، من 18 دولة عربية وأجنبية. وتُعتبر الجائزة الأرفع في حقل القصة القصيرة العربيّة.

وقال «الملتقى» إن جائزة هذا العام تأتي ضمن فعاليات اختيار الكويت عاصمة للثقافة العربية، والإعلام العربي لعام 2025، وفي تعاون مشترك بين «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب»، و«جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية»، في دورتها السابعة (2024 - 2025).

وتأهَّل للقائمة الطويلة 10 قاصّين عرب، وهم: أحمد الخميسي (مصر) عن مجموعة «حفيف صندل» الصادرة عن «كيان للنشر»، وإيناس العباسي (تونس) عن مجموعة «ليلة صيد الخنازير» الصادرة عن «دار ممدوح عدوان للنشر»، وخالد الشبيب (سوريا) عن مجموعة «صوت الصمت» الصادرة عن «موزاييك للدراسات والنشر»، وزياد خدّاش الجراح (فسطين) عن مجموعة «تدلّ علينا» الصادرة عن «منشورات المتوسط»، وسامر أنور الشمالي (سوريا) عن مجموعة «شائعات عابرة للمدن» الصادرة عن «دار كتبنا»، وعبد الرحمن عفيف (الدنمارك) عن مجموعة «روزنامة الأغبرة أيام الأمل» الصادرة عن «منشورات رامينا»، ومحمد الراشدي (السعودية) عن مجموعة «الإشارة الرابعة» الصادرة عن «e - Kutub Ltd»، ومحمد خلفوف (المغرب) عن مجموعة «إقامة في القلق» الصادرة عن «دار إتقان للنشر»، ونجمة إدريس (الكويت) عن مجموعة «كنفاه» الصادرة عن «دار صوفيا للنشر والتوزيع»، وهوشنك أوسي (بلجيكا) عن مجموعة «رصاصة بألف عين» الصادرة عن «بتانة الثقافية».

وكانت إدارة الجائزة قد أعلنت عن لجنة التحكيم المؤلّفة من الدكتور أمير تاج السر (رئيساً)، وعضوية كل من الدكتور محمد اليحيائي، الدكتورة نورة القحطاني، الدكتور شريف الجيّار، الدكتور فهد الهندال.

النصّ والإبداع

وقال «الملتقى» إن لجنة التحكيم عملت خلال هذه الدورة وفق معايير خاصّة بها لتحكيم المجاميع القصصيّة، تمثّلت في التركيز على العناصر الفنية التي تشمل جدة بناء النصّ، من خلال طريقة السرد التي يتّخذها الكاتب، ومناسبتها لفنّ القصّ. وتمتّع النصّ بالإبداع، والقوّة الملهمة الحاضرة فيه، وابتكار صيغ لغوية وتراكيب جديدة، وقدرة الرؤية الفنيّة للنصّ على طرح القيم الإنسانيّة، وكذلك حضور تقنيّات القصّ الحديث، كالمفارقة، وكسر أفق التوقّع، وتوظيف الحكاية، والانزياح عن المألوف، ومحاكاة النصوص للواقع. كما تشمل تمتّع الفضاء النصّي بالخصوصيّة، من خلال محليّته وانفتاحه على قضايا إنسانية النزعة.

وقالت إن قرارها باختيار المجموعات العشر جاء على أثر اجتماعات ونقاشات مستفيضة ومداولات متعددة امتدت طوال الأشهر الماضية بين أعضاء اللجنة، للوصول إلى أهم المجاميع القصصيّة التي تستحق بجدارة أن تكون حاضرة في القائمة الطويلة للجائزة، المكوّنة من 10 مجاميع، بحيث تقدّم مشهداً إبداعياً قصصياً عربياً دالّاً على أهمية فن القصة القصيرة العربية، ومعالجته لأهم القضايا التي تهم المواطن العربي، ضمن فضاء إبداعي أدبي عالمي.

وستُعلن «القائمة القصيرة» لجائزة «الملتقى» المكوّنة من 5 مجاميع قصصيّة بتاريخ 15 يناير (كانون الثاني) 2025، كما ستجتمع لجنة التحكيم في دولة الكويت، تحت مظلة «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب»، في منتصف شهر فبراير (شباط) 2025، لاختيار وإعلان الفائز. وسيُقيم المجلس الوطني احتفالية الجائزة ضمن فعاليات اختيار الكويت عاصمة للثقافة والإعلام العربي لعام 2025. وستُقام ندوة قصصية بنشاط ثقافي يمتد ليومين مصاحبين لاحتفالية الجائزة. وذلك بمشاركة كوكبة من كتّاب القصّة القصيرة العربيّة، ونقّادها، وعدد من الناشرين، والمترجمين العالميين.