* يوم آخر مر من الهدنة المؤقتة السارية في غزة، ففي اليوم الأول دبت روح الحياة بين الناس واليوم بدأوا يستعيدون حياتهم السابقة. الأسواق عادت لطبيعتها وإن كان بالشيء القليل، وخطوط المواصلات أصبحت أفضل بكثير بعد أن كانت متوقفة تماما بفعل الغارات الإسرائيلية، والأطفال عادوا يلهون في أزقة المخيمات والأحياء بحثا عن طفولة قضت عليها الصواريخ والقذائف التي قتلت مئات الأطفال.
لم تفارق الطائرات سماء قطاعنا، لكنها لم تجبر الناس على تجرع مرارة الألم مجددا، حين كانت تصطاد أبناءهم في كل لحظة وتغتال معهم أحلامهم، وفي المقابل ما زال البحث عن جثامين الضحايا مستمرا.
تجولت اليوم وهو اليوم الثاني من الهدنة في شمال قطاع غزة، رأيت الأسواق والمحال فتحت أبوابها إلا قلة، فهناك من أصحابها من فقد حياته وهناك من فقد عزيزا عليه فآثر إغلاق المحل على فتحه. آلاف المواطنين يتفقدون حياتهم بين ثنايا الموت والركام المنتشر في كل شارع وزقاق، أسواق تعج بالناس ومنازل مدمرة بحاجة لمن يحييها مجددا.
في بيت حانون شمالا كانت الصورة مغايرة، فالكل في حداد، لم تعد الحياة كما كانت بعد أن دمرت أحياء كاملة في تلك البلدة الحدودية التي كانت توصف بـ«جنة غزة» لكنها أصبحت أرضا محروقة لم يعد فيها من النعيم ما كان. قال لي أحد المزارعين بثقة وأمل: «اللي عمرها زمان بيعمرها كمان مرة». عزيمة لا تكاد توصف لدى هؤلاء السكان وهم يبحثون عن حياتهم التي تغتالها تلك الدبابات التي لا تبعد سوى 500 متر عن ذاك المزارع الذي كان يتحدث لي وهو يقف بثبات يتأمل في أرضه ويفكر متى ستعود لها الحياة.
يقول لي أحد زملائي الصحافيين متسائلا قبل وصولنا إلى بيت حانون: «كم بدها غزة حتى تعود للحياة؟». فأجبته: «سؤالك مش صعب هذا القطاع أمامك من جنوبه إلى شماله، الناس رجعت للحياة على طول. كنا في الحصار عملوا الناس الأنفاق وهربوا كل حاجة حتى السيارات، وحربان مروا من قبل والحياة رجعت بعد أيام». فرد قائلا: «فعلا ما فيه شيء كبير على أهل غزة».
غادرنا بيت حانون، تلك البلدة المنكوبة حقا وتعيش كارثةً كبيرة، ولكننا رأينا في سكانها الذين عادوا بلا سكن أو مأوى، رأينا فيهم مدى قدرتهم على تحمل كل هذه الآلام وهم يقولون: «الناس اللي ماتت مش أحسن من الحجارة اللي بتروح وبترجع لكن شو حيرجع الشباب لأهلهم؟».
كلمات هزت أعماق قلوب ومشاعر الصحافيين الذين رافقوا بعضهم البعض وهم يصورون آلام وعذابات وجراح الناس ولكنهم جزء من تلك المعاناة فمنهم من قتل ومنهم من أصيب ومنهم من فقد شقيقه أو دمر منزله ولم يبق من حياته سوى الكاميرا التي يحمل منها أمانة الرسالة.
يوميات مراسل من غزة: لا شيء كبيراً على أهل غزة
يوميات مراسل من غزة: لا شيء كبيراً على أهل غزة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة