في الوقت الذي تقف فيه سوريا الطبيعية على أعتاب المجهول، وهي تدخل مرحلة جديدة من تاريخها، يرحل واحد من أهم دارسي تاريخها القديم بعد سنوات طويلة من البحث والتدريس الأكاديمي. وبفقد الدكتور الباحث والمؤرخ محمد محفل الذي وافته المنية مساء الأربعاء الماضي في منزله بدمشق عن عمر يناهز التسعين عاما، تفقد سوريا قامة ثقافية وعلمية باسقة، غنية عن التعريف، رغم أن نشاطه بمجمله كانت ضمن الأروقة الأكاديمية البحثية، وتتلمذ على يديه أجيال عدة، نهلت من خبرته العميقة بتفاصيل ودقائق منطقة الشرق الأوسط، لا سيما سوريا الطبيعية أو ما يعرف ببلاد الشام بالتاريخ القديم، التي أخلص لها ووهبها جل سنوات عمره. كان يرى أن الآرامية كانت لغة أهل الأرض، وأنشأ لأحيائها معهدا للتدريس، لكن مشروعه اصطدم بسوء فهم. ويقول إن البعض لم يفهمه، فهو لم يشأ أن يدرس السريانية ولا الآرامية القديمة، بل يريد تدريس آرامية القرن الأول الميلادي التي وجدت في عصر السيد المسيح، أي الآرامية الفلسطينية التي هي لغة إنجيل متى ولغة سكان المنطقة، فهذه الكتابة موجودة، كما كان يجادل، في نقوش تدمر بترتيب: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت بالشكل نفسه مع تطوّرها، فـ«اللهجة الآرامية كانت لهجة أهل الأرض» قبل أن تتفرع، في عهد الإسكندر المقدوني.
ولم يقتصر التأثير العلمي والبحثي للدكتور الراحل محمد محفل على الجامعات ومعاهد التدريس والإشراف على الدراسات التاريخية، بل شمل مجال التدقيق التاريخي للأعمال الدرامية التاريخية، بما فيه من مسؤولية كبيرة تجاه المعلومات التي تضخها الدراما التلفزيونية على نطاق جماهيري واسع بثقافاته المختلفة والمتفاوتة، وظهر اسمه بصفته مدققا تاريخيا في أعمال درامية سورية تاريخية تركت بصمة واضحة في مسيرة الدراما العربية مثل مسلسل «صلاح الدين» و«صقر قريش» و«ربيع قرطبة» و«ملوك الطوائف» و«الظاهر بيبرس» ومسلسل «عنترة بن شداد» وفيلم «نوافذ الروح».
والدكتور محمد محفّل الذي سكن في حي المالكي بدمشق، ولد في حلب عام 1928، ونشأ فيها وتعلّم. حصل على إجازة في التاريخ عام 1949. وعلى دبلوم في التربية وعلم النفس عام 1953. ثم أوفدته وزارة المعارف إلى باريس والتحق بجامعة السوربون لنيل الدكتوراه في التاريخ القديم. وهناك تابع حلقات في اللغة الآرامية والتاريخ الآرامي وانتسب إلى معهد اللوفر لدراسة اللغة الآرامية، وتعمق في اللغتين اللاتينية واليونانية. ونال درجة الماجستير، إلا أن علاقته الوثيقة بالجزائريين المناهضين للاستعمار الفرنسي للجزائر، حينذاك، تسببت باستبعاده من فرنسا عام 1956. فغادرها إلى جامعة جنيف ليتابع دراسته ولينال شهادة الدكتوراه هناك في التاريخ القديم بعنوان «دور الرقيق في انحطاط الإمبراطورية الرومانية».
عاد إلى سوريا ليدرس في قسم التاريخ بجامعة دمشق التاريخ القديم واللغات القديمة، لا سيما الآرامية، ودرس في كليتي الفنون الجميلة وهندسة العمارة، تاريخ العمارة، إضافة إلى أنه درس في جامعة عمان بالأردن أستاذا زائرا من عام 1968 وحتى عام 1971. وفي عام 1994 أسهم في تأسيس لجنة كتابة التاريخ العربي، وكان أمين سر فيها حتى عام 2003. إلى جانب رئاسته تحرير مجلة «دراسات تاريخية» الأكاديمية المحكمة الصادرة عن جامعة دمشق، وفي غضون ذلك منحته جامعة الدراسات الإسلامية في كاراتشي درجة الدكتوراه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف.
في تشرين الأول عام 2008 انتخب عضوا في مجمع اللغة العربية في دمشق، وفي 2012 منح وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة لإنجازاته العلمية المهمّة.
ومن مؤلفاته: تاريخ الرومان، وتاريخ اليونان، والمدخل إلى اللغة الآرامية، وتاريخ العمارة، والدولة والمجتمع في المغرب، ودمشق: الأسطورة والتاريخ، من ذاكرة الحجر إلى ذكرى البشر.
رحيل محمد محفل... أحد أهم مؤرخي سوريا الطبيعية
رحيل محمد محفل... أحد أهم مؤرخي سوريا الطبيعية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة