للأسبوع السادس على التوالي، نزلت مجدداً «السترات الصفراء» إلى شوارع باريس وغالبية المدن الرئيسية، رغم الإجراءات والتدابير التي أقرّتها الحكومة، والتي ستكلف خزينة الدولة أكثر من عشرة مليارات يورو. لكن الحركة الاحتجاجية، التي انطلقت في السابع عشر من الشهر الماضي، اتخذت أمس منحى جديداً، إذ سعى أصحاب «السترات الصفراء» إلى إغلاق المنافذ الحدودية بين فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا وبلجيكا. كما اختاروا وجهة جديدة هي مدينة فرساي وقصرها الشهير، رمز الملكية في فرنسا. أما المعطى الجديد الآخر فهو أن السلطات باتت تشعر اليوم أنها في وضع أفضل، وأنها قادرة على اعتقال واحد من أبرز رموز الحركة، ووضعه قيد التوقيف وتوجيه تهم عديدة إليه.
وكما في كل يوم سبت، نزل أصحاب «السترات الصفراء» إلى الشوارع، على عكس ما اعتقده عدد كبير من الذين راهنوا على «تنفيس» الحركة بسبب تجاوب الدولة مع أبرز مطالبها، والانقسامات التي ألمّت بها، بين مَن يرغب في «هدنة» بسبب الأعياد، أو وقفها نهائياً، والقبول بالجلوس إلى طاولة المفاوضات في إطار «الحوار الوطني الموسّع»، الذي دعا إليه الرئيس ماكرون. وبين مَن يدعو إلى الاستمرار في الحركة الاحتجاجية باعتبار أن ما «أعطته» الحكومة ليس سوى «الفتات»، وأن الكثير من المطالب، وبعضها سياسي، لم تتم تلبيته.
ونتيجةً لكل ذلك، فإن فرنسا شهدت يوماً احتجاجياً إضافياً. لكن «التعبئة» الشعبية، التي تترجمها أرقام المحتجين والمتظاهرين، بيّنت وجود تراجع واضح في عدد المحتجين. فالأرقام التي أعطتها وزارة الداخلية والتي يشكك العديد في مصداقيتها، أفادت بأن نحو 24 ألفاً من أصحاب «السترات الصفراء» نزلوا إلى الشوارع أمس في كل فرنسا، منهم 2000 شخص في باريس.
وحتى مساء أمس، عمدت القوى الأمنية التي امتنعت وزارة الداخلية عن كشف أعدادها، إلى توقيف 142 متظاهراً في باريس وحدها، بينهم 16 متظاهرا، وجهت إليهم تهماً مختلفة، وسيمْثلون أمام القضاء، بينهم إريك درويه، أحد الوجوه المعروفة لحركة «السترات الصفراء»، وهو سائق شاحنة وأحد الناطقين باسم الحركة الاحتجاجية، والذي أصبح وجهه معروفاً لدى الفرنسيين لأنه كان ضيفاً دائماً على القنوات الإخبارية، وكان أحد الأوائل الذين أطلقوا الحركة المشار إليها. ومن التهم الموجهة إليه حيازة سلاح، والدعوة لمظاهرة غير مرخص لها، والتجمع لارتكاب أعمال عنف وخلافها.
وفي باريس، وتحديداً في جادة الشانزليزيه و«المثلث الذهبي» الذي يضم قصر الإليزيه، والقصر الحكومي والبرلمان ووزارة الداخلية وساحة الكونكورد، تكرر بعض المشاهد التي اعتاد عليها الباريسيون في الأسابيع الماضية، ومنها التجمهر في جادة الشانزليزيه والجادات والشوارع المفضية إليها.
ووسط حضور أمني مشدد من الشرطة والدرك وقوات مكافحة الشغب، المدعومة بالآليات وخراطيم المياه، كان التوتر ملموساً بين الطرفين، ولجأت قوى الأمن إلى استخدام خراطيم المياه لدفع المتظاهرين باتجاه أعلى الجادة، وإبعادهم عن المنطقة الحساسة. وبعكس ما حصل صباحاً، حيث كانت الجادة هادئة والمطاعم والمخازن مفتوحة، توتر الوضع عصراً. لكن حتى السادسة مساء لم تحصل مواجهات جدية بين الطرفين. كما غابت الحرائق وعمليات الكر والفر، وحوادث تهشيم واجهات المحلات. كما غابت السرقات وعمليات اللصوصية التي كانت تحصل في نهاية المظاهرات، والتي يقوم بها أشخاص مندسون على المظاهرات.
وقبل الشانزليزيه، اختار «السترات الصفراء» التجمع في حي مونمارتر السياحي الشهير، حيث حصلت عدة مناوشات مع القوى الأمنية، ومن هناك نزلوا باتجاه المخازن الكبرى القريبة من ساحة الأوبرا، وبعدها باتجاه جادة الشانزليزيه.
ومنذ الصباح الباكر، عمدت مديرية الشرطة إلى إغلاق محطات المترو القريبة من «المثلث الذهبي»، كما عمدت إدارة قصر فرساي، أحد الأماكن السياحية الذي يستقبل أكبر عدد من السياح، احترازياً، إلى إغلاق القصر وحدائقه الشهيرة خوفاً من المشاغبين.
ولم تنحصر الحركات الاحتجاجية على العاصمة رغم أهميتها وكونها مركزاً للسلطة، بل امتدت إلى العديد من المدن، بينها ستراسبورغ وليون وتولوز وبوردو ومرسيليا ونانت وأميان.
وباختصار، يمكن القول إن أياً من المدن الرئيسية لم تكن بمنأى عن الحركة الاحتجاجية. كما شهدت طرقات فرعية ورئيسية تجمعات، فيما شهدت المنافذ الحدودية لساعات معدودات إغلاق عدد من المعابر، لكن سارعت القوى الأمنية إلى فتحها لاجئة أحياناً إلى خراطيم المياه.
واستمر أصحاب «السترات الصفراء» في التجمهر على طرق ثانوية في كل أنحاء فرنسا. ويبدو أن ثمة جناحاً داخل الحركة الاحتجاجية عازماً على الاستمرار فيها، رغم اقتراب أعياد الميلاد ورأس السنة، والتي تعرف منذ مئات السنين ما يسمى «هدنة الحلويات».
وفي مدينة تولوز «جنوب» جرت مواجهات بين أصحاب السترات الصفراء والقوى الأمنية. أما في بوردو «جنوب غرب» فقد تجمع نحو ألفي شخص، فيما عرفت مدينة أنغوليم «غرب» تجمهر «السترات الصفراء» حول دمية تمثل الرئيس ماكرون، الغائب عن فرنسا في زيارة لتشاد، وعمدوا إلى شنقها.
وفي محيط مدينة بربينيان، الواقعة قريباً من الحدود مع إسبانيا، قُتل أحد المتظاهرين «عاشر قتيل حتى الآن» دهساً بشاحنة، على الطريق السريع الواصل بين البلدين. أما في منتجع «لو توكيه»، حيث تملك زوجة الرئيس ماكرون منزلاً، فقد تجمع عشرات المتظاهرين، لكن الشرطة سارعت إلى تفريقهم. وسُمعت في أكثر من تجمع دعوات لاستقالة ماكرون.
هكذا، تمر الأسابيع والحركة الاحتجاجية ما زالت قائمة، وما زالت الحكومة، التي تراجعت عن مواقفها بفعل الضغوط التي تعرضت لها، تراهن على تلاشيها مع الوقت بفعل انقساماتها الداخلية، وتحت تأثير التدابير التي اتخذتها، وأخيراً بفعل تراجع تعاطف الرأي العام معها. لكن ثمة من يرى أن الحركة تعكس «مزاجاً عاماً»، وأنها ستستجلب حركات إضافية، كما حصل مع رجال الشرطة. وبرزت في الأفق حركة للموظفين الحكوميين، الذين يريدون مثل محتجي «السترات الصفراء» رفع قدراتهم الشرائية، وزيادة الرواتب. والحال أن ميزانية الدولة لا تستطيع الاستجابة لمطالب جديدة، ما دامت مصادر التمويل الإضافية غير متوافرة، وما دامت المفوضية الأوروبية تتابع عن كثب ما تقوم به الحكومة حتى لا تبتعد كثيراً عن القواعد المعمول بها داخل الاتحاد الأوروبي في مسائل عجز الميزانية.
احتجاجات «السترات الصفراء» تطال المنافذ الحدودية ورمز الملكية في فرنسا
أعداد المشاركين تتراجع
احتجاجات «السترات الصفراء» تطال المنافذ الحدودية ورمز الملكية في فرنسا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة