المشهد: : صراع مهرجانات

لارس فون تريير
لارس فون تريير
TT

المشهد: : صراع مهرجانات

لارس فون تريير
لارس فون تريير

* لمن لم تتح له مشاهدة «شبق»، فيلم لارس فون تريير المليء بالمشاهد الجنسية مموّهة باسم الفن، حين عُـرض في مهرجان برلين مطلع هذا العام، أو من خلال عروضه التجارية في معظم عواصم أوروبا، هناك فرصة (سيقبل عليها جمهور إيطالي غفير بلا ريب) لعرض الفيلم في جزأيه (الأول 118 دقيقة، والثاني 123 دقيقة) على شاشة مهرجان فينيسيا المقبل. أعتقد أنها المرّة الأولى التي سيعرض فيها مهرجان فينيسيا فيلما عُـرض في مهرجان برلين وإذا ما كان لا بد من التساؤل حول السبب فهو بالتأكيد لا يعود إلى جودة الفيلم أو أهميّـته، بل إلى ظاهرته.
* وهل سيجد مهرجان فينيسيا نفسه، مرّة أخرى، هذا العام محاطا بالأسلاك الشائكة الكندية؟ لا، بل بالمزيد منها. في العادة أن يخطف مهرجان تورنتو الذي ينطلق في الرابع من الشهر المقبل، سبتمبر (أيلول)، قسم لا بأس به من الأفلام والنقاد والإعلاميين من المهرجان الإيطالي الذي تبدأ أعماله في السابع والعشرين من هذا الشهر وتنتهي في الثامن من الشهر المقبل. لذلك نرى عددا كبيرا من السينمائيين وعددا موازيا من النقاد والصحافيين يتركون المهرجان الإيطالي للحاق بالكندي.
* هذا هو المنوال المعتاد منذ بضع سنوات. هذه المرة يزيد تورنتو الخناق على فينيسيا، فهو اختار أن يعرض معظم الأفلام التي تنطلق عروضها العالمية الأولى فيه، خلال الأيام الأربعة الأولى (من الرابع وحتى الثامن) ما يضع قسما من الذين كانوا يودّون قضاء أسبوع إيطالي ثم ترك فينيسيا في نهايته للحاق بتورنتو في حرج كونهم الآن قد يفضّـلون عدم التوجه إلى فينيسيا أصلا والسفر إلى تورنتو من بدايته.
* يستطيع فينيسيا، كرد على هذا التدبير، أن يقدّم موعد انعقاده أسبوعا فينطلق مثلا في العشرين من أغسطس (آب) وينتهي في الأول من سبتمبر ما يتيح لمن يريد الانتقال بعد ذلك إلى تورنتو الوقت الكافي ويجنّـب فينيسيا بعض الكدمات الزرقاء في الوجه. وربما كانت هناك حلول أخرى يعرفها هو ونجهلها نحن، لكن شيئا ما يجب أن يتم فعله قبل فوات الأوان.
* المخرج التركي - الألماني فاتح أكين سيعرض في فينيسيا فيلمه الجديد «القطع» The Cut وبه يكمّـل ثلاثية أقدم عليها منذ سنوات وشملت «تصادم» و«حافة الجنة» وكلاهما عرض في برلين، لكن اختيار فينيسيا بالنسبة إليه كان «مدعاة لسروري»، كما يقول. وهو يضيف أن «هذا الفيلم هو فيلم شخصي جدّا بالنسبة إلي لأنه يتناول مسائل ضميرية كما يتناول حبّـي للسينما».
* لا أدري ما السبب، لكن المخرج أكين كان سحب هذا الفيلم من مهرجان «كان» قبل بدء الدورة الأخيرة. أحد مسؤولي مكتب السينما التركية قال لي هناك بأن المسألة لا تحتمل التعقيد: «فاتح اعتقد أن الفيلم سيكون جاهزا تماما للعرض في (كان)، لكنه حين أدرك أن عليه التسليم قبل الإتمام الكامل قرر سحب الفيلم». مقبول ولو أن صحافية فرنسية سمعت أن المخرج لم يرد منازلة مخرج تركي آخر هو نوري بيلج شيلان الذي نال السعفة فعلا عن فيلمه «سبات شتوي».
* هذا الفيلم الذي يتطلب نحو ثلاث ساعات من الصبر، سينطلق للعروض الباريسية في السادس من أغسطس الحالي، وهو توقيت مختلف بالنسبة لفيلم لم يقصد لأن يكون جماهيريا ولن يكون. ففي العادة تخلو قاعات السينما الباريسية من أفلام فنية جديدة خلال الصيف (ما زالت هناك صالات تقفل أبوابها في باريس خلال الشهرين السابع والثامن) ويتم حشرها صوب مطلع الخريف بعد عودة الجمهور إلى العاصمة من إجازاتهم. بذلك، هناك مخاطرة تقدم عليها الشركة موزعة الفيلم (مومنتو) بعرض الفيلم صيفا. لكنها تؤكد أن الفيلم سينجح في كسر هذا التقليد بنجاح.



بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
TT

بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»

بشير الديك، كاتب القصّة والسيناريو لعدد كبير من الأفلام المصرية طوال العقود الأربعين الماضية، الذي توفي في اليوم الأخير من العام الراحل، 2024، كان أحد السينمائيين الخارجين عن قوانين السينما التقليدية في النصف الأول من سنوات مهنته. لكن على الرغم من أنه في النصف الثاني وقّع على أعمال كثيرة من التي يمكن وصفها بالتقليدية، ومن بينها 6 أفلام من بطولة نادية الجندي، فإنه واظب على معالجة نصوصه باحتراف يجمع بين حكايات تحمل مضامين تنتمي إلى نزعة جادة وتنشد ميزانيات كبيرة.

لعل حقيقة أن نادية الجندي كانت تصبو دوماً إلى أدوار تخلّدها وأفلام تحافظ عبرها على مكانتها لعب بشير الديك دوراً في تلبية هذه الرغبات عبر حكايات تشويقية في المقام الأول، وشخصية رئيسية مضخّمة وذلك في أفضل نصوص ممكنة ضمن التوليفة التجارية.

بدأ هذا التعاون على نحوٍ ثلاثي: بشير الديك يكتب، ونادر جلال يُخرِج ونادية الجندي تلعب دور البطولة. هذه الأفلام هي «الإرهاب» (1989)، و«شبكة الموت» (1990)، و«عصر القوّة» (1991)، ومن ثَمّ «مهمّة في تل أبيب» (1992)، و«الشطّار» (1993)، ولاحقاً «امرأة هزّت عرش مصر» (1995).

كمال الشناوي ونادية الجندي في «مهمّة في تل أبيب»

‫اتجاهان‬

بعد بدايات متفاوتة الأهمية من بينها «مع سبق الإصرار» لأشرف فهمي (1979)، و«دعوني أنتقم» لتيسير عبّود (1979)، و«الأبالسة» لعلي عبد الخالق (1980) التحق الديك ببدايات المخرج الراحل محمد خان عبر 6 أفلام هي «الرغبة» (1980)، و«موعد على العشاء» (1981)، و«طائر على الطريق» (1981)، و«نص أرنب» (1983)، و«يوسف وزينب» (1984) و«الحرّيف» (1984) وكلها من أفضل ما حققه خان.

تعامُل الديك مع الموضوعات الجادة التي عرفتها تلك الأفلام سمح له بكتابة واحد من أفضل أعماله وهو «سواق الأتوبيس»، الذي حققه الراحل عاطف الطيب سنة 1982، وكلاهما لاحقاً تعاونا على تحقيق فيلم مهم (أكثر مما كان جيداً) آخر هو «ناجي العلي» (1992). لجانبهما فيلم ثالث هو «ضد الحكومة» (1992) من بطولة أحمد زكي ولبلبة.

في تقييم كتابات بشير الديك تتداخل بعض العناصر التي يمكن إيجاز هذا التقييم عبرها.

من ناحية، حاول دوماً التطرّق صوب قضايا مهمّة تطرح قصصاً ذات جانبٍ وطني مثل «مهمّة في تل أبيب»، الذي دار حول جاسوسة مصرية تعمل لصالح إسرائيل، ومن ثَمّ تندم فتطلب منها الاستخبارات المصرية (ممثلة بكمال الشناوي)، العمل لحساب مصر وتنجح. «ناجي العلي» ينضم إلى هذا النحو من الأعمال.

السيناريست المصري بشير الديك (وزارة الثقافة)

في ناحية أخرى، لم يتأخر عن كتابة ما كان سائداً في الثمانينات والتسعينات من اتجاه صوب الحديث عن مراكز قوى في الشارع المصري والصراع بين الأخيار والأشرار. هذه الموجة لم تعرف بداية ونهاية محدودتين فتاريخها عريق يعود لعقود سابقة، لكنها عرفت في تلك الفترة تدافعاً بين المخرجين للحديث عن تلك المراكز في حارات القاهرة (في مقابل الكثير من صراع الخير والشر على ساحلَي بور سعيد والإسكندرية في أفلام الخمسينات والستينات) في أجواء ليست بعيدة عن الخط الذي وضعه نجيب محفوظ وشخصياته.

مخرجون عديدون حقّقوا هذه الأفلام التي شُكّلت حكاياتها من صراع القوى في الشارع المصري مثل أشرف فهمي («الأقوياء»، 1982)، وأحمد السبعاوي («السلخانة» 1982 و«برج المدابغ» 1983) وكمال صلاح الدين («جدعان باب الشعرية» 1983). لكن من مزايا ما كتبه بشير الديك في هذه الأعمال التي لاقت رواجاً جماهيرياً إنه كتب ما هو أعمق في دلالاته من قصص المعلّم الشرير ضد سكان منطقته وأزلامه الذين يتصدّون للأبرياء إلى أن يخرج من رحم تلك الحارة من يواجههم جميعاً.

بداية من «نصف أرنب» توّجه الديك إلى حكاية تشويقية ذات طابع بوليسي، وفي «سوّاق الأتوبيس» وقف مع ابن المدينة في موضوع حول تفتت المجتمع مادياً. أما في «الحرّيف» فنقل اهتمامه إلى الوسط المهمّش من سكان القاهرة وأحلامهم ومتاعبهم الشخصية.

‫هموم المجتمع‬

ما يجمع بين هذه الأعمال هموم تسلّلت إلى عدد كبير من كتابات بشير الديك السينمائية.

في مقابلة تمّت بين المخرج عاطف الطيب وبيني بعد مشاهدة فيلمه النيّر «سواق الأوتوبيس»، سألت المخرج عن كيف بدأ التفكير في تحقيق «سوّاق الأتوبيس». أجاب: «بدأت الفكرة في جلسة صداقة مع بشير الديك ومحمد خان. وكنا نتحدث بشأن همومنا وطموحنا الخاص لصنع سينما أخرى مختلفة، وكانت الظروف الحياتية نفسها تجمعنا كلنا تقريباً. فقد كنت أشعر في ذلك الوقت بالذنب إزاء فيلمي الأول (يقصد «الغيرة القاتلة»، 1982)، الذي اضطُرِرت فيه إلى الاعتماد على سيناريو مأخوذ عن أصل أدبي (أجنبي) رغم إيماني الدائم بضرورة الكتابة المباشرة للسينما. اقترح محمد خان وبشير الديك فكرة وُضع لها عنوان: (حطمت قيودي)، تدور حول عائلة مهدّدة بالضياع نتيجة فقدان الأب للورشة التي أسسها وبحْثُ الابن، سائق الأتوبيس، عن مخرج من الأزمة بلا جدوى وأعجبتني الفكرة، خصوصاً أنني أميل كثيراً إلى الدراما التي تدور في نطاق عائلة. وبدأنا بالفعل في تطوير الفكرة خلال الكتابة وتبادل الآراء. وكنا كلما نتعمق في الموضوع تتضح لنا أهمية الفكرة التي نريد التعبير عنها. في الكتابة الثانية للسيناريو، وصل الفيلم إلى ما أصبح عليه».

كتب بشير الديك نحو 60 فيلماً ومسلسلاً تلفزيونياً، معظمها جمع هذه الصفات المجتمعية على نحو سائد أو مخفف. هذا ما جعله أحد أبرز كتاب السيناريو في مصر في حقبة كان للسينما البديلة والمستقلة عن السائد دور فاعل في نهضة الفيلم المصري عموماً.

مع الطيّب وخان ورضوان الكاشف ورؤوف توفيق وخيري بشارة ورأفت الميهي وسواهم، ساهم بشير الديك في منح تلك الفترة مكانتها الساطعة التي لا تغيب.