دعا رئيسا لحكومة الفرنسية ليل أمس، بعد يوم أسود إضافي عنيف إلى التهدئة وتغليب الحوار وإعادة بناء اللحمة الوطنية. لكن إدوار فيليب لم يكشف عن «خطوات» جديدة تنوي الحكومة اتخاذها لقلب صفحة احتجاجات «السترات الصفراء» التي انطلقت منذ 17 الشهر الماضي تاركا المجال مفتوحا لرئيس الجمهورية. وقال فيليب إنه «يعود لرئيس الجمهورية أن يقترح تدابير إضافية يكون من شأنها أن تمكن الفرنسيين من أن يكونوا على مستوى التحديات التي يواجهونها». وجاء كلام فيليب مستبقا تأكيدات وزير الداخلية كريستوف كاستانير الذي أكد أن التظاهرات التي حصلت في باريس وما رافقها أصبحت «تحت السيطرة» مقدما الأرقام «النهائية» لأعداد المصابين 118 من المحتجين و17 من رجال الأمن فيما بلغ عدد الموقوفين أكثر من 700 شخص.
بيد أن ما يقوله فيليب وكاستانير شيء وما عاشته باريس وكثير من المدن أمس شيء آخر. فنهايات الأسبوع في فرنسا تتعاقب وتتشابه. ولم يشذ أمس عن السبت الذي سبقه. العنف في باريس وكثير من المدن الفرنسية الرئيسية مثل مارسيليا وبوردو وتولوز وسان إتيان ونيس... لكن الأساس كان العاصمة باريس حيث أنظار المراقبين كانت تراقب ما سيحل فيها على ضوء الإجراءات الأمنية غير المسبوقة والاحتياطية التي نفذتها القوى الأمنية لتلافي تكرار المشاهد المحزنة التي عرفتها العاصمة السبت الماضي.
ومنذ الصباح الباكر، استفاقت باريس على وقع الخطة الأمنية الجديدة حيث نشر ما لا يقل عن 8 آلاف رجل كاملي التجهيز. والجديد جلب مدرعات تابعة للدرك قادرة على اقتحام الحواجز والمتاريس، إضافة إلى استخدام خيالة الدرك في بعض مناطق باريس لرد المتظاهرين ومنعهم من اختراق الحواجز والاقتراب من «المثلث الذهبي» الممنوع على المتظاهرين، الذي قلبه قصر الإليزيه ومجلس النواب ورئاسة الحكومة، إضافة إلى جادة الشانزليزيه والجادات المتفرعة عن ساحة «الأتوال».
وبما أن التدابير الأمنية الأسبوع الماضي ثبت فشلها، فإن الخطة الجديدة شددت على «حركية القوى الأمنية» وعلى ضرورة منع «المشاغبين» الذين قدر عددهم بنحو 1500 شخص من الوصول إلى أماكن التجمع. لذا، فإن القوى الأمنية بدأت منذ الصباح بتوقيف الأشخاص المشكوك بأمرهم على الحواجز في الشوارع وعلى مخارج محطات القطارات والمترو التي أغلق منها العشرات.
وكان الهم الأول للشرطة والدرك المرابطين حول قوس النصر الواقع في أعلى الشانزليزيه هو منع تكرار ما حصل الأسبوع الماضي عندما سيطرت «السترات الصفراء» على الموقع وعلى مرقد الجندي المجهول الواقع تحته. وتم رص السيارات الأمنية حوله وسدت المداخل المفضية إلى الساحة المذكورة. وبعكس السبت الماضي، فقد اعتمدت القوى الأمنية تكتيك «الحركية» بحيث هيأت مجموعات قادرة على التدخل عند الحاجة بالاستناد إلى ما يتاح لها من «أسلحة» تستخدمها، وأولها القنابل المسيلة للدموع والقنابل الصوتية لتفريق المتظاهرين وخراطيم المياه والهراوات والدروع. وعمدت الشرطة إلى إخضاع الواصلين إلى الشانزليزيه إلى عمليات تفتيش دقيقة بحيث صادرت منهم الأقنعة الواقية من الغاز والنظارات التي تستخدم في المسابح وكل ما يمكن استخدامه لنبش الطرقات واستخدام حجارتها.
بيد أن هذه التدابير، رغم أهميتها وشدتها، لم تكن كافية للسيطرة على الوضع. صحيح أنها منعت الآلاف من «السترات الصفراء» ومن انضم إليهم من الوصول إلى الشانزليزيه، إلا أن النتيجة أنهم تفرقوا في الجادات والشوارع الملاصقة. وكانت جادة مارسو الأكثر سخونة حيث دارت عمليات كر وفر مع القوى الأمنية التي لجأت إلى استخدام القنابل الصوتية والمسيلة للدموع بشكل مكثف إضافة إلى الانقضاض على المتظاهرين كلما اقتربوا من ساحة «الأتوال». وكالعادة، أحرقت عشرات السيارات في هذه الجادة وهشمت واجهات كثير من المخازن والأبنية. ولم تنج كثير من المحلات إلا بفضل التدابير الاحترازية التي اتخذت عن طريق حماية واجهاتها بألواح خشبية أو معدنية. وعكست جادة الشانزليزيه والجادات السياحية والتجارية الأخرى المتصلة بها صورا محزنة للمدينة التي «لا تنطفئ أنوراها».
حقيقة الأمر أن باريس أمس انقسمت إلى قسمين: مدينة ميتة ضعفت فيها الحركة التجارية وحركة السيارات والمارة. وباريس «القلعة» التي تحصنت وراء الحواجز الأمنية التي أقيمت بكثرة. وكان لافتا أن شارع فوبورغ سان هونوريه حيث يقع قصر الإليزيه والشوارع المفضية إليه قد أغلقت تماما بحواجز معدنية يمنع تخطيها إلا لسكان الحي. ومنذ أول من أمس طلبت الشرطة وبلدية باريس إغلاق المتاحف والمعالم السياحية الرئيسية والمسارح وتم تأجيل المباريات الرياضية. يضاف إلى ذلك أن شعورا بـ«الخوف» قد عمم عبر وسائل الإعلام والتحذيرات الرسمية. وكانت النتيجة أن التدابير الأمنية المشار إليها ودخول السياسيين على الخط للدعوة إلى التهدئة وتلافي العنف وانقسام «السترات الصفراء» بين من يريد الاستمرار وآخرين يريدون العودة إلى «سلمية» المظاهرات أن أعمال العنف قد تراجعت بعض الشيء ومعها تراجع عدد السيارات المحترقة والواجهات المهشمة وأعداد الجرحى من المحتجين ورجال الأمن والصحافيين الذين شكا كثير منهم من قوات الأمن. ووفق حصيلة غير نهائية، فإن الأجهزة الأمنية أحصت 31 ألف متظاهر ومحتج على كل الأراضي الفرنسية منهم 8 آلاف في باريس وحدها. وستكون السلطات قادرة على القول إن الحركة الاحتجاجية إلى تراجع ارتكازا إلى الأعداد المتناقصة للذين نزلوا إلى الشارع.
بيد أن المقلق أمس كان امتداد أعمال الشغب إلى المدن الرئيسية التي احتذت بما حصل في العاصمة، فيما الحواجز المقامة على الطرق السريعة عادت إلى الظهور والتكاثر أمس. كذلك، فإن الطريق الدائري المحيط بالعاصمة تم تعطيله في أكثر من موقع عن طريق إيقاف السيارات في منتصفه والتمدد أرضا. وعانت مدن شهيرة مثل بوردو ومارسيليا ونانت وتولوز وسان إتيان وغيرها من المدن الأقل حجما.
بعد انطلاق «الفصل الرابع» من العملية الاحتجاجية، يبقى السؤال: وماذا بعد؟ وما الذي تستطيع السلطات التي تساورها الشكوك بشأن تدخل عناصر «أجنبية» وأحزاب متطرفة في تهييج «السترات الصفراء» تقديمه لإغلاق هذه الصفحة التي لا تريد أن تتواصل، فيما البلاد على عتبة أعياد نهاية السنة؟
حتى الآن، بقي الرئيس إيمانويل ماكرون صامتا، وبحسب أوساطه فإنه لن يتوجه إلى المواطنين إلا الأسبوع القادم. ويقدر المراقبون أنه ينتظر أن تنجح القوى الأمنية في استعادة السيطرة الميدانية قبل أن يكشف عن الأوراق التي في جعبته. والرئيس ماكرون يجد نفسه، بعد أن تراجعت الحكومة عن زيادات الرسوم على المشتقات النفطية وعن الكهرباء والغاز وحثت المؤسسات على منح الموظفين «هدية» لرفع مستوى قدرتهم الشرائية، في موقف بالغ الصعوبة إذ عليه أن يواجه مطالب اقتصادية وسياسية متداخلة. فالمحتجون يريدون المزيد ويقول «قادتهم» إنهم «لن يقبلوا بالفتات» وما يريدونه رفع القدرة الشرائية وزيادات رواتب الحد الأدنى للأجور والمعاشات التقاعدية، وخصوصا خفض الضرائب التي تثقل كاهلهم.
أما سياسيا، فمنهم من يطلب استقالة الرئيس، وآخرون حل المجلس النيابي أو اللجوء إلى الديمقراطية الشعبية التي أساسها الاستفتاء في بلد يزيد عدد سكانه على 65 مليون نسمة. ولا يستطيع ماكرون ولوج باب التنازلات الاقتصادية خوفا من تهديد الميزانية وزيادة عجزها وبالتالي تجاوز القواعد المعمول بها في الاتحاد الأوروبي. أما سياسيا، فإن أي تراجع سيعد ضعفا للعهد والحكومة، وبالتالي فإنها مستبعدة.
هكذا، تغرق فرنسا شيئا فشيئا في نزاع ظاهره شيء وباطنه شيء آخر والباطن أهم من الظاهر لأنه يعكس حالة نفسية هي النقمة على سياسة ماكرون المتبعة منذ 16 شهرا. يضاف إلى ذلك أن صورة فرنسا آخذة بالتدهور في الخارج بينما موقعها داخل الاتحاد الأوروبي يتهاوى. ولذا، يتعين الخروج من الأزمة الراهنة بأسرع وقت. ولكن كيف؟ هذه هي المسألة.
- عدوى الاحتجاجات تنتقل إلى بلجيكا
ألقي القبض على نحو 400 شخص من أصحاب السترات الصفراء في بلجيكا وسط اشتباكات مع الشرطة احتجاجا على ارتفاع أسعار الوقود. واستخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه في الاشتباكات. وتركزت المظاهرات التي جرت أمس في بروكسل إلى حد كبير في الحي الأوروبي الذي تتخذ فيه كثير من المؤسسات الأوروبية مقرات لها.
وقالت وكالة «بلجا» إن المحتجين ألقوا أيضا الحجارة وعبوات الطلاء وغير ذلك من المقذوفات، في طريق مجاور بالقرب من مقر الإقامة الرسمي لرئيس الوزراء البلجيكي شارل ميشيل. وأدت الاحتجاجات إلى عرقلة حركة المرور على الطريق الدائري الداخلي، بينما أغلق المتظاهرون شريانا مهما لحركة المرور يمر عبر الحي الأوروبي.
كما أغلق أصحاب السترات الصفراء في المنطقة الشرقية من بروكسل طريق السيارات المعروف باسم «إي 40» المؤدي إلى المنطقة الحدودية العابرة إلى فرنسا، مما أجبر قائدي السيارات على تحويل مسارهم عبر بلدة أدينكرك، كما أغلق النشطاء طريق «إي 17»، باتجاه أقصى الجنوب.