{تل الورد}... البلاد التي انتهك الجميع حرمتها

الروائية السورية أسماء معيكل تعيد رسم تاريخ بلدها

{تل الورد}... البلاد التي انتهك الجميع حرمتها
TT

{تل الورد}... البلاد التي انتهك الجميع حرمتها

{تل الورد}... البلاد التي انتهك الجميع حرمتها

تتعاقب الأحداث وتتداخل، في رواية أسماء معيكل «تلّ الورد» الصادرة حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.
و«تلّ الورد» في هذه الرواية لا يُراد به مكان له وجود على خريطة الأرض السورية، فهو حيّز متخيّل يرمز إلى البلاد كلها، مع أن اسم المكان شائع، ويطوي كثيراً من الدلالات الثرية، وفيه يتجسّد المصير المأساوي لعائلة «راغد المعرّاوي»، الأب التقيّ، والرجل الورع، الذي يرتبط بنسب بعيد بشيخ المعرّة أبي العلاء، ويعاني محنة موازية لمحنة سلفه العظيم.
ولئن لاذ السلف بعماه احتجاجاً على أحداث عصره، فقد استجار الخلف بالصمت معرضاً عن بلاد تناهبَتْها الأهواء والأطماع، ودنَّسها الاستبداد والإرهاب، وعاضدته زوجته «حسيبة اللاذقاني» في امتناعها عن قبول مرور الزمن، فأوقفت تياره منذ اللحظة التي أجبرها فيها ابنها على التوبة كونها من طائفة دينية أخرى، وعاشت في ماضيها الجميل، تمضع أحلام السعادة العائلية طعاماً يومياً، وقد حل النسيان في عالمها محل التذكّر. ولم تقبل، على الإطلاق، بزمن المنون الذي حكم مصير أسرتها، وقلب عاليها سافلها، فشغلت نفسها لسنين بحياكة ملابس زواج ابنها عمران كأنّ الزمن لم يمض بها، فتستعيد ذكرى بعيدة قبل تشتّت أسرتها كأنها واقع دائم الحضور، فحسيبة نظيرة «أورسولا» في رواية «مائة عام من العزلة» لماركيز، لكنها عملت على وقف الزمن قصداً، والأخذ بالنسيان عمداً، وهي في منتصف عمرها، فيما وقعت أورسولا ضحية نسيان كامل جراء تخريف الشيخوخة، وقد جاوزت مائة عام من عمرها.
بين أب احتجّ بالصمت على المهانة التي حلَّت به وببلاده، وأمّ انطوت على نفسها مما شاهدته وعرفته، كشفت رواية «تلّ الورد» عن مصير ثلاثة من الأبناء: ابنة وابنين. ثبتت الابنة باهرة، وقاومت الآثار الهائلة التي تعرّضت لها، وعانت من اغتصاب الأنصار والخصوم لها، وقد تمرغ على جسدها الإرهابيون وأزلام النظام، وتناوبوا عليها في فتك وحشي لعفافها من غير رحمة، وكأنها المكافئ السردي لسوريا في انتهاك الجميع لحرمتها، وكانت تنال من مغتصبيها بالاغتيال. أما الابنان: عمران وربيع، فهما الأمثولة السردية للشباب السوري الذي باغتته الأحداث، فهرب منها، أو انجرّ معها، في خيارين كلاهما شديد المرارة، وما ثبت أنه مفيد لأحد.
وفي تفاصيل الرواية، يلوذ عمران برفقة زوجته كافي وابنه حيان بتركيا حيث ظن أنه سيعتصم بها إلى أن يحل السلام بسوريا، لكن الملاذ الذي استجار به جزّ آماله جزّاً، وفيه تآكلت أحلامه بالسعادة والأمن، فقد أرسل ابنه بمعية المهربين إلى هولندا، وهو دون العاشرة، ليتولى جمع شمل الأسرة بعد محنتها، وبلغها فعلاً بعد أشهر من الأسفار الصعبة بين البلاد الأوروبية قبل أن ترأف به عائلة في هولندا، وتؤويه، بانتظار أن تلتحق به أسرته. وفي ظل غياب الابن - الأمل تفكّكت العلاقة بين الأبوين، فأدمنت الأم الشابة تعذيب نفسها بالوشم، ووخزه بالإبر تعبيراً عن القلق النفسي، واستعذبت ذلك، واستحلّته، ثم استغرقتها هلاوس دينية بالطهارة جرّاء الاغتصاب الذي أخفته عن زوجها بعد أن تعرضت لاغتصاب جماعة من الأوباش الأتراك، فتوهمت النقاء المطلق بعد أن جرى اغتصابها، فراحت تكافح أوهام العفاف الجسدي والروحي في عالم صرف اهتمامه بها، فيما غاص عمران في بوهيمية فردية طوال السنوات التي قضاها في تركيا، ولاذ بالمخدّرات، والتهريب، والإدمان على مشاهدة الأفلام الماجنة، يعالج بذلك توتراً أصابه بسبب انقطاع أخبار ابنه حيان عنه، وسقوط زوجته في «المازوكية» التي أحالتها إلى شبح امرأة، طوال وجودهما في إسطنبول.
وحينما التحق الأبوان بابنهما في هولندا، بعد سنوات طويلة، إذا بالفتى المراهق قد نشأ على غير ما تخيله له أبوه وأمه، وما لبث أن توارى عن الأنظار في مشهد يوحي بأنه رمى نفسه في البحر. وقد اختار الابتعاد عن أسرته التي جاءت بأعرافها وقيمها وعاداتها إلى مجتمع يختلف عنها بكل ذلك. زاد هروب الابن من علل الوالدين، فانهارا جراء فقدان حلمهما في فيافي الغرب، وعادا يائسين إلى تلّ الورد في رحلة معاكسة للطريق الذي سلكه الابن، يجرّان أذيال الخيبة، وهما أشبه بالحطام، إذ دُفنت كافي في ظل شجرة الزيتون حيث دفن المعرّاوي من قبل، وهي الشجرة الوحيدة الوارفة في تل الورد بعد أن جفت سائر الأشجار، فكأنها تتغذّى من رفاته.
فيما كان مصير الأخ الأصغر ربيع أكثر مأساوية، فجراء أعمال قمع الثوار السلميين، والتنكيل بهم، ترك عمله شرطياً، والتحق بالثورة، وحينما اخترقتها الجماعات الدينية المتطرّفة انضم إليها، وبالغ في تشدّده المذهبي، وجعل من أسرته موضوعاً لتطبيق رؤيته السلفية الضيقة، فحاكم أباه المعرّاوي لامتناعه عن دعم «المجاهدين»، وذوده عن قبر أبي العلاء، فألقاه في السجن لامتناعه عن تقديم العون للقتلة، واتهمه بعبادة القبور، وأُجرِيَت له محاكمة انتهت بتكفيره وقتله، ورمى جثته أمام بيته، وأرغم أمه على الاستتابة، والتبرّؤ من طائفتها كونها تنحدر من أصول بعيدة في جبال اللاذقية. وعلى خلفية من هذا العقوق لازم الأب الصمت، وامتنعت الأم عن قبول الزمن الذي تعيش فيه، وقد فُجِعا بابنهما يقترف آثام الجحود بحقهما من غير شعور بالعار. خاض ربيع تجربة الجهاد الديني بحذافيرها، وآمن بها إيمان التابع الأعمى لأمراء الجهاد، وانتهى معاقاً، وعاجزاً، مقطّع الأوصال، يعالج في إحدى المشافي التركية، ويعاني أهوال الذل والهوان، وهو يحلم بحوريات الجنة فيما كان جسده كسيحاً.
وبقليل من التأويل يصحّ القول إن عائلة المعرّاوي في رواية «تلّ الورد» مرآة «تمرأت» على سطحها ويلات مجتمع ضربته الفوضى في صميمه، وأحالته حطاماً كاملاً، أو بتعبير الرواية جعلته «حبطراش»، وهو عنوان آخر فصول الرواية. و«حبطراش» لفظة شائعة في المحكيّة السورية تدلّ على الخراب الذي لا سبيل لإعادة بنائه، والدمار المتعذّر إصلاحه، وبهذا المعنى المخصوص وردت في سياق الرواية بما يكشف مآل البلاد السورية بعد المحنة التي عصفت بها، فالفصل الأخير هو ذروة الأحداث حيث تنطمر «تل الورد» تحت الأحداث، ولا يتجول في طرقاتها المهجورة إلا المجانين من أكلة لحوم البشر، ولا يرى غير الحطام الذي شمل كل شيء فيها جرّاء الأعمال العسكرية. وفي اتصال قوي بفكرة الازدهار والأفول بدأت الرواية بالزهور والعطور، والشذى والأريج، وانتهت بروائح الموت من نتانة الجثث المجهولة، وعفونة البيوت المهجورة، والتهمت المقبرة الصغيرة بجوار بستان المعرّاوي القرية كلها، حتى أمست تل الورد مقبرة لا يحدها حدّ، ولا يحيط بموتاها عدّ.
لا يوجد في رواية «تل الورد» بطولة فردية، فقد جعلت الكاتبة من جميع شخصياتها أبطالاً، ولكل بطل قصته الفاجعة، ومصيره المأساوي الذي لم يختره، بل سيق إليه رغماً عنه، بفعل الأحداث التي عصفت بالبلاد والعباد، فقد تلاعبت الأقدار بالناس البسطاء الذين دفعوا ثمن نزاع لم يكونوا طرفاً فيه، ولتكون «تل الورد» بأهلها معادلاً موضوعياً لسوريا كما هو واقعها الآن. وقد ابتعدت الكاتبة في سردها الشائق عن الأدلجة والتقريرية، أو ما تذهب إليه الروايات حينما تتناول مثل هذه الموضوعات من طريقة وثائقية وتسجيلية، وركزت على معاناة الجميع في ظل الحرب، فالحروب الأهلية لا رابح فيها. الكل خاسرون.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.