لماذا تُنقذ النساء قبل الرجال من السفن الموشكة على الغرق؟

الصحافي الأميركي كروثامر يصدر كتابا جديدا عن «الأشياء التي تهم»

غلاف «الأشياء التي تهم»
غلاف «الأشياء التي تهم»
TT

لماذا تُنقذ النساء قبل الرجال من السفن الموشكة على الغرق؟

غلاف «الأشياء التي تهم»
غلاف «الأشياء التي تهم»

تخيل أنك في باخرة كبيرة الحجم تخترق المحيط. فجأة ارتطمت بجبل جليدي ضخم. ساد الذعر بين الركاب وبدأت السفينة بالغرق شيئا فشيئا. تم تجهيز الزوارق الصغيرة ولكنها لا تكفي الجميع. من المرجح أن يهتف صوت أحد المسؤولين معلنا: «الأطفال والنساء أولا» وسيتراجع الرجال إلى الخلف. ذات السيناريو حدث في قصة باخرة التايتانيك حين تم إفراغ السفينة من الأطفال والنساء، وتم طرد الرجال الذين حاولوا التسلل بينهم. إذا كنت امرأة فستشعرين بأنك محظوظة لأنك ستنجين، وإذا كنت رجلا فستشعر بالبؤس المغلف بإحساس البطولة وستتمنى لو كنت امرأة. ولكن حدث شيء غير متوقع هذه المرة. اعترض أحد الرجال الغاضبين بالقول: «ولماذا النساء؟» وحجته: إذا كان من المفهوم أن ينقذ الأطفال أولا لأنهم عاجزون عن حماية أنفسهم ولم ينضجوا عقليا، فإنه من غير المفهوم مساواة النساء بهم. إذا كان ذلك شبه مقبول قبل أكثر من مائة سنة عندما غرقت التايتانيك، لماذا ظل الوضع كما هو عليه بعد مرور كل هذه العقود الطويلة التي أخذت فيها المرأة الكثير من حقوقها؟ النساء أصبحن يقدن الطائرات الحربية ويحكمن بلدانا ويرأسن شركات، ولا يتوقفن عن مطالبة الرجال بالمساواة التامة. ولكن عندما تنشب الحروب وتتطاير الدماء أو تغرق السفن، فسوف يكن أول من يركب الزوارق متشبثات بأطفالهن. لماذا أيضا يتم ربط المرأة مع الطفل حتى في العناوين الإخبارية التي تتردد حول العالم مثل «مقتل عشرات النساء والأطفال!» ولماذا لا يقال مثلا «مقتل عشرات الرجال والأطفال!».
حتى لا أواجه أي غضب من النساء أو من المدافعين عن حقوق المرأة يجب أن أضيف الآن أن هذا ليس رأيي، ولكن هذا ما كتبه الكاتب الصحافي تشارلز كروثامر في أحد مقالاته المنشورة في كتابه الصادر حديثا بعنوان «الأشياء التي تهم». ولكن حتى هو لا يستحق النقد لأنه يصل بعد ذلك إلى بعض التحليلات المنطقية لربط المرأة بالطفل بشكل أكثر من الرجل. هناك من يقول: إن الرغبة العميقة لدى البشر للحفاظ على المرأة أكثر من الرجل يعود ليس لجمالها ولكن لأنها أكثر أهمية منه على المستوى البيولوجي. بمعنى أن قدرة المرأة على الإنجاب تجعلها قادرة على تكوين عائلة كاملة، على العكس من الرجال الذين سيفنى الجنس البشري بسبب عدم قدرتهم على الحمل. ولكن الكاتب لا يقبل هذا التفسير النفساني التطوري بحجة أنه يشبه تفسير لغز البيضة والدجاجة. ولكن التفسير الأقرب للصحة هو أن المرأة أكثر قدرة على العناية بالطفل لهذا يتم في الغالب ربطهما ببعض. لهذا عندما تقع الكوارث وتندلع الحروب، يتم إنقاذ النساء من أجل الأطفال وليس لأنهن كالأطفال.
هذه نهاية مقبولة لهذا المقال الجميل المكتوب بحس كوميدي رائع وشرير في الوقت نفسه. ولكن من يتابع مقالات كروثامر في جريدة «واشنطن بوست» لن يعثر في الغالب على مقالات من هذا النوع الفريد الذي يفضله، كما يقول. أغلب مقالاته تركز على الشؤون السياسية التي يبرع أيضا في تناولها. هذه الأيام هو مشغول بتوجيه نقد شديد اللهجة للرئيس باراك أوباما الذي يختلف معه في كل شيء تقريبا. يؤكد كروثامر الذي كان ديمقراطيا في شبابه وأصبح جمهوريا فيما بعد (سأله مؤخرا المعلق جون ستيوارت عن هذا التحول فقال ساخرا: هذا التحول الطبيعي من المراهقة إلى النضج!) إنه يكتب في السياسة مضطرا. يقول في أحد مقالاته بأنه يفضل الكتابة عن الأشياء التي تحرك الروح وترقي العقل وتلهب الخيال مثل الفن أو الفلسفة أو الأدب، ولكن كل هذه الأشياء الجميلة تنهار دفعة واحدة إذا لم تضبط السياسة بالشكل الصائب. أكبر مثال على ذلك هو ألمانيا عام 1933، السياسة الصائبة هي الجدار الذي يحمي الناس من البربرية المستعدة للانقضاض في أي وقت. ولكن لأن ألمانيا لم تستطع وضع السياسة بالشكل الصائب لذا هدمت النازية بقيادة هتلر جدارها المتآكل وسحقت بعد ذلك كل الفنون والآداب والفلسفات والعلوم والحياة كلها. رائحة الحرية والسعادة التي كانت تملأ الهواء، حلت محلها رائحة البارود والجثث المحروقة.
في هذا السياق يذكر كروثامر إحدى مقولات جون آدمز، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية الذي كتب مرة: «يجب أن أتعلم السياسة والحرب لأمنح أبنائي الحرية ليتعلموا الرياضيات والفلسفة والتاريخ والهندسة والتجارة والزراعة ولكي يمنحوا بدورهم الحق لأبنائهم لكي يدرسوا الرسم والشعر والموسيقى». لهذا السبب تحديدا يعترض المؤلف على رأي البيولوجي والفيلسوف لويس توماس الذي أجاب عندما سئل عن أهم منجز يرشحه لكي يرسل للفضاء كدليل على العبقرية البشرية، فقال: «سأصوت لموسيقى باخ، كل صوتي لباخ، ترسل مؤلفاته للفضاء مرة بعد أخرى. بالطبع، سنبدو كالمتبجحين!» يتفق الكاتب على عبقرية باخ، ولكن بسبب اعتقاده أن الفنون الأخرى تنحني أمام قوة السياسة، فسوف يكون الخيار الثاني الذي سيبعث على الفضاء هو الدساتير التي تؤمن بالحرية والعدالة مثل وثيقة الماجنا كارتا الإنجليزية أو الدستور الأميركي.
لهذا السبب يعقد في أحد مقالاته مقارنة بين العالم الفيزيائي اينشتاين ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل. رغم عظمة اينشتاين في القرن العشرين فإن الشخص الذي كان من دونه سيتغير مسار التاريخ هو تشرشل بكل تأكيد. اينشتاين حقق اختراقا علميا إعجازيا، ولكن وجد علماء فيزياء اقتربوا من فكرته الرئيسية ولكنهم عجزوا عن فهمها بالكامل. كان من المتوقع أن الزمن سينجب لا محالة علماء آخرين سيصلون لما توصل له. ولكن تشرشل من الشخصيات النادرة في التاريخ التي من دونها سينهار كل شيء. الحضارة كلها كانت ستنحط وتنزلق في الظلام لو تمكن هتلر من السيطرة على أوروبا بالكامل.
كروثامر يحمل درجة الدكتوراه في علم النفس من جامعة هارفارد، ولكن يعترف أنه أدرك بعد سنوات من الدراسة أنه يفتقد للقدرات الحقيقية لكي يكون مميزا في هذا المجال. ولهذا لم يتجه للكتابة الصحافية إلا في الثلاثين من العمر، ولكنه استطاع بسرعة أن يكون لنفسه اسما لامعا وأن يكتب في كبريات الصحف والمجلات الأميركية. من الواضح أن معرفته الواسعة بعلم النفس ساهمت في إبراز موهبته الكتابية، ولكنه يرفض أن يقحمها في قضايا سياسية واقتصادية لا يربطها شيء بعلم النفس. لذا يرفض في مقال له بعنوان «الإنسان الجواني. من يهتم؟!» التفسيرات النفسية التي طبقها الكثير من كتاب السياسة على الرئيس نيكسون ووصفها بالسطحية. من يهتم بماذا يفكر نيكسون بينه وبين نفسه، أو ماذا يحب أو يكره. الحكم يجب، كما يقول الكاتب، على السياسات على أرض الواقع وليس أي شيء آخر. ولكن لا يستطيع كروثامر - ككل المتخصصين في علم النفس فيما يبدو - كبح غضبه وحتى احتقاره لموجة ما يسمى ب «تطوير الذات». في أحد مقالاته يكتب كروثامر أن المخرج وودي آلن اعترف أثناء قضية الوصاية على الأولاد بينه وبين طليقته الفنانة ميا فارو أنه لم يحمم أطفاله أبدا أو يأخذهم إلى الحلاق، ولا يعرف من هو طبيب أسنانهم، ولم يحضر أبدا الاجتماعات المدرسية، ولا يستطيع أن يسمي أي أحد من أصدقاء أطفاله. كيف يمكن لهذا الشخص الغارق في نفسه والمفتقد للشعور الطبيعي للأبوة أن يتم إخضاعه لدروس تطوير الذات التي تحولت إلى «بزنس» يعتمد على مكننة المشاعر والتصرفات من دون نتائج حقيقية. المسألة إذن أعمق من ذلك. يضيف الكاتب: «نجح هذا البزنس لأن الأميركيين آمنوا أنهم بحاجة لخبير في شيء. خبير يعلمهم كيف يمشون أو يتكلمون أو كيف يثنون ركبهم». مع موضة تطوير الذات، أصبح كل سلوك وشعور إنساني بضاعة للتصنيع والتجارة. لم يعد يعرف الإنسان كيف يشرب ويأكل ويتزوج ويحب وينام ويعمل ويصادق إلا إذا دربه خبير على ذلك.
يشن كروثامر في الكتاب غضبه ونقده المتواصل على الأفكار الليبرالية فيما يتعلق بالسياسة والاقتصاد. هو محافظ اقتصاديا وسياسيا وليس اجتماعيا أو دينيا. في أحد مقالاته يشير ساخرا إلى أن الفرق الأساسي بين فريق المحافظين والليبراليين هو أن المحافظين يعتقدون أن الليبراليين أغبياء وسذج، والليبراليون بدورهم يعتقدون أن الجمهوريين مجرد حفنة من الأشرار قساة القلب. يذهب بعد ذلك للدفاع بأسلوبه العميق واللاذع عن رؤيته التي يصفها بالواقعية التي تؤمن بالتجربة والنتائج الملموسة وليس الأمنيات (من هذا النتائج إيمانه الكامل بفشل الحكومة الأميركية بمشاريع كثيرة مثل محاربة الفقر لذا يجب أن تبقى الحكومة صغيرة ومحدودة وتترك المجتمع بأفراده ومؤسساته وقيمه لكي يقوم بتصحيح نفسه).
تعرض كروثامر أثناء دراسته الجامعية لحادث سيارة أدى إلى شلل النصف السفلي من جسده، ولكن لم يفقد أبدا حسه الساخر. في أحد مقالاته يحلل الكاتب بأسلوب طريف اعتقاد الأميركيين غير المفهوم بأن تحمل المعاناة والصبر على المشاق، هما ما يمنحان الأشياء قيمتها. هذا ما يفسر هوسهم بسباقات الماراثون الذي لا يتحصلون منها إلا على بطانية تلف عليهم وزجاجة ماء. هذه السباقات مهمة لأنها تشعرهم بقيمتهم الذاتية التي لا تبدو بأحسن حالاتها إلا من خلال الصبر والمعاناة. هذا أيضا يفسر الحركة الغريزية التي يقوم بها الناس عندما يركلون عجلات السيارة المستعملة قبل شرائها. إذا تحملت الركل فستكون صالحة للشراء! وفي مقال آخر يكتب بحزن عن رحيل كلبه «شتسر» الذي مات فجأة. يعترض الكاتب على من يعتقد بأن الحزن على رحيل الكلب مسألة زائدة في عالم مليء بالمعاناة الإنسانية. يقول من الطبيعي جدا أن يحزن الإنسان على رحيل مخلوق في غاية الجمال والطيبة والنقاء كـ«شتسر». ينقل عن أحد أصدقائه الذي حزن على موت كلبه قوله: «إنه ألطف مخلوق عرفته في حياتي. الكلب الوحيد الذي شاهدته يقبل قطة!».



أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
TT

أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية

تحوي مملكة البحرين سلسلة من المقابر الأثرية، تُعرف باسم «تلال مدافن دلمون»، سُجلت ضمن قائمة التراث العالمي التابعة لـ«منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (اليونيسكو) في صيف 2019. تضم هذه السلسلة في الواقع مجموعات عدة من المدافن، منها مجموعة تقع في أقصى جنوب مدينة حمد، وتجاور قرية دار كليب التي تبعد عن المنامة نحو 25 كيلومتراً. بدأ استكشاف «مدافن دار كليب» في عام 1965، حيث عمد باحثان يعملان لحساب «شركة نفط البحرين» (بابكو) إلى إجراء أول أعمال المسح فيه. وصل هذا الخبر إلى البعثة الدنماركية التي كانت تعمل في هذه الناحية من الخليج خلال تلك الفترة، فباشرت دراسة الموقع بشكل معمّق. توالت مواسم التنقيب خلال العقود التالية، وأدت إلى الكشف عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الأواني الفخارية تعود إلى حقب متلاحقة من الزمن.

تحمل «تلال مدافن دلمون» اسم إقليم برز شرق الجزيرة العربية خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، كما تشهد المصادر السومرية، وكانت جزيرة البحرين حاضرة من حواضر هذا الإقليم الوسيط الذي شكل حلقة وصل بين بلدان الشرق القديم، الأوسط والأدنى. خرج من هذه المدافن عدد كبير من القطع الفخارية تعكس هذه التعددية، منها مجموعة من القطع مصدرها حقل «مدافن دار كليب» الذي يمثّل كما يبدو الطور الأخير من تلك الحقبة الغنية. تبرز في هذا الميدان بضع أوانٍ تتميز بحلل زخرفية تبدو غير مألوفة في محيطها، منها آنية على شكل زهريّة من الحجم الصغير، كشفت عنها بعثة محليّة في منتصف تسعينات القرن الماضي، وهي اليوم من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة. يبلغ طول هذه الزهرية المخروطية 12 سنتيمتراً، وعرضها 9 سنتيمترات، وهي من نتاج القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل الميلاد، كما يؤكّد أهل الاختصاص، وتكوينها بسيط، ويغلب عليه اللون العسلي المائل إلى الأخضر الزيتي.

تُزين القسم الأعلى من هذه الزهرية شبكة من الخطوط الأفقية الدائرية، تحوي في وسطها خطاً متعرّجاً. خُطت هذه الشبكة باللون الأسود، وتقابلها شبكة مشابهة مختزلة تزيّن القسم الأسفل منها. بين هاتين الشبكتين، تحضر شبكة عريضة تحتلّ القسم الأوسط، وقوامها زخرفة نباتية متناسقة تعتمد طرازاً مكرّساً، يُعرف في قاموس الفنون باسم «بيبال»، أي شجرة التين الهندسية المقدسة. خطّت هذه الزخرفة النباتية كذلك باللون الأسود، وتتشكّل من أربعة أغصان أفقية تحمل أطرافها سلسلة من الأوراق اللوزية المرصوصة بشكل تعادلي في بناء محكم، وفقاً لنسق فني اعتُمد بشكل واسع في المناطق الشمالية الغربية من جنوب آسيا، وبات من خصائص حضارة وادي السند التي توهّجت على مدى قرون من الزمن، وبلغت نواحي عديدة من الشرق الأدنى وجنوب آسيا.

تبدو زهرية دار كليب على الأرجح من نتاج وادي السند، وتشهد للروابط الثقافية المتواصلة التي جمعت بين هذا الوادي وإقليم دلمون. لا نجد ما يماثل هذه الآنية في هذا الميراث، غير أننا نقع على قطعة تشابهها بشكل كبير، مصدرها المناطق الشرقية من المملكة العربية السعودية، وهي قطعة شبه مجهولة، قدّمت عالمة الآثار غرايس بوركهولدر تعريفاً بها ضمن كتاب لها صدر عام 1984، تناول مجموعة من اللقى الأثرية تمّ اكتشافها في هذه المناطق الشرقية.

خرجت من مدافن دار كليب كذلك مجموعة من القطع الفخارية تعود إلى الحقبة التي أطلق فيها المستكشفون الإغريقيون على جزيرة البحرين اسم تايلوس، وهي الحقبة التي تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى فترة دخول الإسلام. تُشكّل هذه القطع مجموعة من مجموعات مشابهة خرجت من المدافن المجاورة، وتحوي قطعاً تتفرّد في بعض الأحيان في تكوينها، منها قطعة من الفخار المزجّج، عُثر عليها خلال حملة محليّة تمّت بين عام 1993 وعام 1994، وهي من محفوظات المتحف الوطني بالمنامة.

صُنعت هذه الآنية بين القرن الأول والقرن الثاني للميلاد على الأرجح، وفقاً لتقنية نشأت قديماً في جنوب بلاد ما بين النهرين، وهي على شكل جرة لها عنق طويل، طولها 32.5 سنتيمتراً، وعرضها 22 سنتيمتراً. تشابه هذه الجرة في تكوينها العام جرة معاصرة لها خرجت من الموقع نفسه، وتتميّز بعروة على شكل مجسّم حيواني، تحل مكان العروة التقليدية المجرّدة من أي شكل تصويري. يصعب تحديد نوعية هذه البهيمة، والأرجح أنها تمثل كبشاً ذا قرنين مستديرين، وتشكّل امتداداً لتقليد قديم، تبدو شواهده محدودة في هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر هذا الكبش في قالب جامد تغيب عنه أي حركة ظاهرة، وتبدو قوائمه الأربع ثابتة في وضعية واحدة ثابتة، يغلب عليها طابع التحوير والتجريد. يتبع تكوين رأس هذه البهيمة هذا النسق، ويتميّز بقرنين عريضين صيغا على شكل هلالين متوازيين.


آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
TT

آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم

مصعد المستشفى لا يكفّ عن الرنين، بينما المرضى وزوارهم يخرجون ويدخلون إليه. الممرات أشبه بنفق معتم. أطباء يعاينون صورة شعاعية، قبل أن تظهر لنا الكاميرا سعد الله ونوس على سرير المرض شاحباً، متعباً، هزيلاً، وقد فقد شعره، يتناول الدواء من يد شخص إلى جانبه، وتثبّت الممرضة إبرة المصل في ذراعه.

هكذا يبدأ «الوثائقي» المعنون: «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء»، الذي صوره المخرج عمر أميرالاي، مع صديقه الكاتب المسرحي سعد الله ونوس، قبل فترة قصيرة من وفاته يوم 15 مايو (أيار) 1997، وعرض يوم 28/11، في سينما متروبوليس ببيروت.الكلمة الأخيرةالفيلم بمثابة وصية، أو لنقل الكلمة الأخيرة التي تركها لنا هذا الكاتب الكبير بنصوصه كما بانخراطه الكامل في القضايا التي أحاطت به. منذ البدء يصارح أميرالاي سعد الله ونوس، الواقف «على حافة تخوم رجراجة بين الحياة والموت»، أنه جاءه ليستنطقه كشاهد على مرحلة «لتكون لسان حال جيلنا في هذا الصراع».

الفيلم سجل بعد اتفاق أوسلو، ونوس متوجس مما سيأتي، مزاجه جنائزي، ليس فقط بسبب المرض، بل بسبب الحالة العامة أيضاً. ثمة شرطان للسلام لم يتحققا بالنسبة لسعد الله ونوس. أن يحصل تغيير جوهري وجذري في البنى الاجتماعية والسياسية في إسرائيل. وأن يحصل الشيء نفسه في البلاد العربية من جهة أخرى. عندها التاريخ قد يجبرنا وتحت وطأة اليأس على التغيير والتجدد. نكبة 1948 «أقولها حرفياً إن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري، وأفسدت على إنسان عاش خمسين عاماً، مثلاً، الكثير من الفرح، والكثير من الإمكانات»، يقول ونوس في مطلع الفيلم الذي عرض في سينما «متروبوليس» في بيروت قبل أيام، إلى جانب فيلم آخر «إلِيبسِس» للمخرجة ساندرا إيشيه تتحاور فيه مع عمر أميرالاي ضمن فعالية «حواران على أهبة الموت» لـ«سينماتك بيروت».

مات «رائد المسرح السياسي»، سعد الله ونوس بعد صراع طويل مع سرطان في البلعوم كان يفترض ألا يمهله أكثر من ستة أشهر بحسب الأطباء، لكنه بقوة الكتابة تمكن من المقاومة خمس سنوات. ومن حسن حظنا أنها كانت من أغزر فترات حياته إبداعاً، كتب خلالها أروع مسرحياته، وشارك في هذا «الوثائقي» البديع الذي تحدث خلاله عن العلاقة العضوية التي ربطته بالقضية الفلسطينية، وأحداث المنطقة كيف عاشها بروحه وضميره ووجدانه، حتى لتشعر وهو يتحدث أن المآسي التي مرّت نهشت جسده، حتى أودت به، وهذا ما يعتقده هو نفسه.

عمر أميرالاي

أميرالاي الساخر حد البكاء بقدر ما يبدو سعد الله ونوس حزيناً ومكفهراً، نرى صديقه عمر أميرالاي حين تحاوره المخرجة الفرنسية، في الفيلم الثاني، ساخراً هزلياً بمرارة، حتى تختلط الدموع بالقهقهات. ويجيب على الأسئلة باعتباره يعيش في عام 2030 خاصة وأن كل التوقعات في الخمسين سنة الماضية، حصلت، ولم يعد من مكان للخيال. لقد أصبح كل شيء واقعاً، وما سيحدث غداً نعرفه اليوم. فهو كسوري - كما يقول - يعيش خارج الزمان والمكان. والسوريون واللبنانيون يتقاسمون الشيء نفسه. فهما توأمان سياميان لا يوجد جرّاح يمكنه أن يفصل مصير أحدهما عن الآخر، المقرون بـ«اليأس».

«أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء» (1997) يكتسب أهميته من حيث أنه اختصار لوجع جيل كامل في ساعة سينمائية مكثفة. تبدأ من نكبة 48 حيث فتح ونوس عينيه على قصة شابين من قريته «حسين البحر» تطوعاً في جيش الإنقاذ، ليحررا فلسطين من الذين جاءوا ليحتلوها. كان ترقّب مغمّس بالرهبة والخوف على مصيرهما. لكن الشعور تطور بمرور السنوات: «كنا نكبر وتكبر القضية معنا».

يسير الفيلم على وقع نقاط المصل وصوتها وهي تتدحرج ببطء إلى عروق ونوس. «كنا بلاداً فقيرة» لكن مع كل الهموم اليومية الكثيرة «كنا نحمل هموم القضية وتحولاتها على كواهلنا النحيلة، المتعبة».هزيمة 1967 لحظة حاسمة بعد أن استقر في الأذهان عبر سنوات الكذب والتدجيل أن نكبة 1948 كانت نتيجة الخيانة والأسلحة الفاسدة، وأنها لم تكن أبداً بسبب ضعف القدرة القتالية عند الجندي العربي. «زرعوا في أذهاننا أن مسألة هزيمة إسرائيل هي مسألة ممكنة، في أي لحظة».لذلك جاءت هزيمة 67 مدويّة. «لم أتصور أن القوات العربية في مصر بالذات، وكذلك في سوريا هي من الضعف والتفكك إلى الحد الذي بدت فيه خلال الأيام الستة». وعدت الأنظمة العربية بأنها ستحمي الوطن وأنها المؤهلة للقتال، ولم تفعل شيئاً إلا مراكمة الهزائم.

البكاء مع بلوغ النهاية مشاهد استسلام الجنود كانت مؤلمة. «الصدمة حادة وعنيفة، إذ أحس الجميع أنهم مطعونون بكبريائهم، أنهم مهانون حتى العظم». مشاهد تتخلل المقابلة، منها الأطفال المشردون في الخيام، يأكلون الخبز اليابس مع الشاي، عبد الناصر يعترف بمسؤوليته بعد الهزيمة ويتنحى، جنود إسرائيليون يقصفون بالطائرات، جنود عرب يستسلمون. تتالى المشاهد التي تدعو كلها لمزيد من الانكسار.يكاشفنا ونوس وكأنما يستعيد اللحظة حية. عندما تأكدت الهزيمة «شعرت أنني سأموت في تلك اللحظة، شعرت أنني أختنق.» بكى وبكى، وشعر أنها النهاية. وأن عمراً قد انتهى، وأن التاريخ قد توقف، وأن وجوده قد انطوى.

أهمية حرب 73 أنها كشفت بعد هزيمة ساحقة، أن إسرائيل ليست حصناً منيعاً لا يمكن مسّه، وليست تلك الدولة غير القابلة لأن تجرح وتخسر معارك. «لذلك صفقنا كثيراً. عندما قامت حرب 1973. مجرد شعورنا بأن جنودنا يستطيعون أن يقاتلوا، أعاد لنا شيئاً من الثقة المضعضعة والمعدومة بالذات».

لكن هذه الحرب، من ناحية أخرى، في رأي ونوس، أجهضت الفوران المبشّر بعد 67، وربما أنها كانت في ذهن بعض من شاركوا فيها مقدمة لما أتى بعدها.لم يبقَ سوى الانتحارحين زار أنور السادات إسرائيل أصاب ونوس الذهول. جلس وكتب «أنا الجنازة والمشيعون معاً». كان ذلك آخر نص، ومن بعده التزم سعد الله ونوس الصمت. كان متوتراً ولا يستطيع السيطرة على نفسه بعد أن أنهى كتابة ذلك النص. «تناولت حبة النوم، وحاولت أن أخرج من حالتي. بعد ساعتين أو أقل استيقظت أشد توتراً وضيقاً وكانت الظلمة شاملة أمامي. في تلك الليلة أقدمت على محاولة الانتحار الجدية».

في فترة الصمت الطويلة المغمسة بالاكتئاب، أمضى معظم وقته في القراءة والتأمّل، وفي مواجهة أسئلة التاريخ الموجعة، إلى أن أنعشت مشاعره انتفاضة 1989 وحفزته على كسر الصمت. في تلك السنة بدأ يخطط لكتابة مسرحيته «الاغتصاب». لم يكن غريباً أن يكسر صمته بمسرحية تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، وتحاول تحليل بنية النخبة الحاكمة في إسرائيل.

عندما راودته فكرة المصالحةنهاية المسرحية، أثارت الجدل، لأنها تضمنت حواراً بينه وبين طبيب نفسي إسرائيلي، يردد طوال المسرحية مقتطفات من سفر إرمية مستنزلاً اللعنات على السياسة العدوانية للنخبة الحاكمة في إسرائيل، والتي لا تؤدي فقط إلى الإجهاز على الفلسطيني، وإنما على تدمير الإنسان اليهودي أيضاً.

يعترف أنه في تلك اللحظة، كان يفتح باباً على الصلح، وأن إسرائيل في مسرحيته لم تعد حُرُم. «مجرد أن أقدم في المسرحية شخصية يهودية إيجابية تحتج على ما يحدث، وعلى ممارسات (الشين بيت) إزاء الفلسطينيين وعمليات التعذيب التي يقومون بها، مجرد أن أقدم شخصية من هذا النوع إنما يحمل في طياته تعاطفاً مع الإسرائيليين».

المشكلة في البلاد العربية أيضاً، بهذه البنى المتخلفة التي لم تحدّث و«تجعل من شعوبها كماً بشرياً مهملاً» حيث لا يجد المواطن أمامه سوى أن «يطأطئ رأسه».

العلاقة بين القصف والسرطانيعتقد سعد الله ونوس أن ثمة علاقة مباشرة بين حرب الخليج التي أجهزت على بقية الآمال الموجودة لدى العرب، وبدء شعوره بالإصابة بالورم أثناء الحرب، وخلال القصف الجوي الوحشي الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة الأميركية ضد العراق. ثم جاءت مفاوضات مدريد بعد هزيمة العراق التي يصفها بـ«الاستسلام» لأنها «لا يمكن أن تكون بداية لسلام حقيقي». الاتفاقات التي تمخضت عنها «ما هي إلا فصل من فصول هذه الحرب الدائرة التي يمكن أن تطول بيننا وبين إسرائيل».

إسرائيل غدت حقيقة تاريخية، غير أنه بقراءة متأنية يستنتج أنها لا تملك مقومات الاستمرار، هي مشروع خاسر. «لا حياة لها إلا إذا اندمجت كجزء في الكل، لا كمخفر مهمته أن يدمّر المنطقة، ويجعلها ممرغة باستمرار في الهزيمة والتخلف والتفتت».يسأله أميرالاي: «هل سنموت، وفينا العلة التي اسمها إسرائيل؟»يجيب: «على الأقل بالنسبة لي شخصياً، من المؤكد أن هذا سيحدث».

أميرالاي رحل هو الآخر عام 2011. ولم يشكّ ونوس بأن جيله كله سيمضي و«في رأسه تلوح هذه الخفقة السوداء الشبيهة بعلامة، هي علامة الخيبة التي تذوق مرارتها على مدّ عمره. لأن إسرائيل ستكون باقية حين يذهب جيلنا إلى نهاية حياته».


علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.