أذربيجان... حيث النفط يشفي الروح والجسد

منتجع يحتمي بجبال القوقاز وغاباتها

TT

أذربيجان... حيث النفط يشفي الروح والجسد

أذربيجان؛ ليست مجرد اسم دولة تطل من وراء القوقاز على بحر قزوين، بل هي اسم لرقعة من الجغرافيا تتميز بإرث ثقافي - حضاري - تاريخي، تراكم منذ ما يقارب خمسة آلاف عام، ويجعل أذربيجان اليوم جديرة بصفة «تحفة سياحية نادرة». فيها تنتشر القصور والقلاع القديمة، وفيها أيضا ساحل جميل يطل على بحر قزوين بحنان. وفي أذربيجان فقط، يمكن أن يغوص المرء في النفط، بالمعنى الحرفي للكلمة. فهي الوحيدة التي توجد فيها منتجعات تستخدم «الذهب الأسود»، إلى جانب ينابيع المياه المعدنية، في العلاج والوقاية من الأمراض.
أذربيجان واحدة من الجمهوريات السوفياتية سابقاً. جغرافياً تقع في الأجزاء الشرقية من منطقة ما وراء القوقاز. وبينما يعتبرها البعض جزءا من الشرق الأوسط، يراها بعض علماء الجغرافيا جزءا من شرق أوروبا. برا، تجاورها كل من روسيا وتركيا وإيران وأرمينيا. بيد أن الأغلبية تتفق بأنه ليس مهما إن كانت تقع جغرافياً ضمن أوروبا أو آسيا، لأنها تبقى وبكل بساطة أذربيجان بشخصيتها المتميزة. فهي باكو القديمة، التي تروي الكثير من كنوز الأيام الغابرة، وباكو الحديثة التي لا تختلف في معالمها عن أجمل مدن وسط أوروبا.
- باكو قلب أذربيجان
نظراً لكثرة معالمها التاريخية، والتنوع الثقافي - الحضاري الذي تراكم على مدار قرون طويلة، فضلا عن نهضتها في السنوات الماضية، والتي جعلت مدنها تكتسي بـ«أجمل الحلي» العمرانية؛ أصبحت وجهة سياحية مثيرة، تُغري بالكشف عن كنوز الماضي وحكاياته وقصص الحاضر وطفرته. تعتبر العاصمة باكو قلبها النابض، وحالها حال الكثير من المدن القديمة، تتميز بالحي القديم، واسمه بالأذرية (إيتشيري شيهير). وهذا الحي هو في واقع الأمر مدينة باكو القديمة، التي يعود تاريخها إلى القرن السابع ميلادي، وهو ما يشهد عليه سور يحيط بها لحمايتها من الغزاة، تنتشر على طوله أبراج دفاعية. ومن أشهر معالم المدنية القديمة أيضا «برج مايدن»، الذي يوجد على جانب من سور القلعة يطل على بحر قزوين. في البداية، ساد اعتقاد أن البرج شُيد في القرن السادس الميلادي، إلا أن الدراسات كشفت أنه أقدم من ذلك بكثير، فتم ربطه مع سور المدينة في القرن السادس. الآن يشكل البرج رمز الدولة الأذربيجانية، وتم طبعه على العملة الوطنية.
ومن المعالم الأخرى في المدينة القديمة قصر «شيروان شاه»، أي قصر حاكم شيروان، وهي منطقة ضمن حدود أذربيجان الحديثة. عُرفت بهذا الاسم في العهد الإسلامي، وتقع على ساحل قزوين ما بين باكو جنوبا، ودربند في داغستان شمالا، وكانت تضم مجموعة من المدن الأذرية بينها العاصمة باكو. ولأن باكو تقف منذ القدم عند تقاطع الدروب التجارية، يوجد في الجزء القديم منها أكثر من بيت للمسافرين أو ما يُطلق عليه في بعض المدن العربية (خان)، وهو بمثابة محطة تتوقف فيها القوافل، للاستراحة وقضاء عدة أيام، يتمكن التجار خلالها من بيع بضائعهم أو شراء بضائع من التجار المحليين. وأكثر بيوت المسافرين شهرة فيها مجمع «كارفان ساراي» أو «كارو ساراي»، وهو عبارة عن مجمع أقرب إلى الفندق لكن بما يلبي احتياجات المسافر في ذلك العصر. كذلك لا تزال الحمامات التاريخية موجودة هنا إلى جانب محلات تجارية، ومبان سكنية تاريخية يستخدمها سكان المدينة حتى يومنا هذا.
بيد أن الثروة التاريخية في الحي القديم لا تقتصر على مرحلة القرن السابع الميلادي، فقد تم الكشف عن آثار تشير إلى أن الإنسان استقر فيها منذ العصر البرونزي (3000 إلى 1200 سنة قبل الميلاد). وأدرجت اليونيسكو حي (إيتشيري شهير) ومعالم تاريخية أخرى تابعة له على لائحتها للتراث العالمي، بينما منحت السلطات الأذرية تلك المنطقة صفة «محمية تاريخية».
وبعد الاستمتاع بجولة في المدنية القديمة، تقف باكو العصرية الحديثة بانتظار السياح، تدهشهم بجمال شوارعها، التي تستعرض فن العمارة في الحقبة السوفياتية، والتطور في هذا المجال خلال العقدين الماضيين. وتتوفر في المدينة مجموعة كبيرة من الفنادق والمطاعم هدفها تلبية جميع الأذواق ومن كل الفئات لجهة التكلفة. حتى إن بعض رجال الأعمال استفادوا من مبان تاريخية ضمن المحمية، وحولوها إلى فنادق أو مطاعم، ضمن تصميم داخلي يحافظ على روح التاريخ.
- لينكوران قرة عين أذربيجان
ربما من المفيد بعد أيام في حمامات النفط التوجه نحو عالم آخر. عالم يحتمي بين أحضان الجبال والبحر وغابات كثيفة. وفي الوقت ذاته، تُعطي معالمها الأثيرة فكرة واضحة عن سيرة الإنسان وتطور نمط حياته منذ ما قبل التاريخ وحتى يومنا هذا. تقع مدينة لينكوران، أقصى جنوب أذربيجان، وهي مأهولة منذ القرن العاشر قبل الميلاد، تراقب الحركة التجارية عبر العصور بين أوروبا وآسيا، وتشارك بنشاط فيها عبر موقعها البري بين القارات، وإطلالتها عبر ميناء تجاري على بحر قزوين. أكثر ما يُميزها طبيعتها الخلابة. فهي تمتد على سفح جبلي تغطية غابات كثيفة. ضمن هذه الطبيعة تتدفق من عمق الأرض ينابيع مياه معدنية يُستفاد منها في العلاج وتقوية مناعة الجسم. وتصبح زيارة لينكوران أكثر متعة بعد تذوق كوب شاي، قُطفت أوراقه من مزارعها الشهيرة.

- الحمامات النفطية
في أذربيجان مدن كثيرة غير باكو تمتلك مقومات سياحية فريدة، نذكر منها مدينة «نفتالان». تقع بالقرب من مدينة كنجه (غياندجا باللغة الأذرية)، التي تمثل حالة سياحية فريدة عالميا، وتقدم خدمات لا يمكن الحصول عليها في أي مكان آخر في العالم. ويتضح على الفور لدى قراءة اسم المدينة أن الأمر ربما مرتبط بالنفط، سيما وأن أذربيجان كما هو معروف دولة نفطية. أجل نفتالان هو نوع خاص من النفط، يُستخدم في منتجعات صحية في المنطقة، تحت شعار «نبع الذهب الأسود مفتاح الشفاء».
قبل الغوص في النفط، لا بد من وقفة سريعة مع منطقة نفتالان. فالمراجع التاريخية تشير إلى أن المنطقة مأهولة منذ القرن الثاني عشر الميلادي، واللافت أن ماركو بولو ذكرها في مؤلفاته وأشار بصورة خاصة إلى نوعية النفط فيها، وهي النوعية التي عرفتها أسواق الصين والهند، وكانت كذلك سلعة تجارية أذرية تُباع في أسواق الشرق الأوسط.
يوجد في نفتالان أكثر من منتجع صحي، أكبرها المنتجع الذي يحمل ذات الاسم، ويقع في منطقة رائعة الجمال على الأجزاء الشرقية من جبال القوقاز الصغرى، على ارتفاع 400 متر فوق سطح البحر. بالقرب منها يوجد نهر يحمل أيضا اسم «نهر نفتالان». وكانت المدنية وجهة سياحية منذ مطلع القرن الماضي، ونشطت فيها السياحة بشكل أكبر مع افتتاح المنتجعات النفطية. ويؤكد العاملون في هذا المجال أن النفط المستخدم يساعد في علاج أكثر من 70 حالة مرضية، بينها أمراض المفاصل والعضلات والجهاز العصبي، والأمراض الجلدية، وأمراض الشرايين، والأمراض النسائية. وبفضل ما يحمله من خواص، يساعد نفتالان في علاج حالات الالتهابات، ويسكن الآلام، وينشط الدورة الدموية. ويجري العلاج عبر الغطس في حوض مليء بالنفط بدرجة حرارة +37. ويدخل النفط بدايات عبر المسامات، ومن ثم يخرج عبرها مع العرق، حاملا معه الكثير من المواد المضرة والمسببة للأمراض. ولن يغلب السائح في البحث عن فندق مناسب أو مطاعم يتناول فيها وجبات طعامه خلال الإقامة هنا، لأن الفنادق والمنتجعات السياحية عصب رئيسي في المدينة، ويمكن العثور عليها دون عناء.


مقالات ذات صلة

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

الاقتصاد سياح صينيون يزورون مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء (رويترز)

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

أعلنت وزارة السياحة المغربية، الاثنين، أن عدد السياح الذين زاروا المغرب منذ بداية العام وحتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) بلغ 15.9 مليون سائح.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
سفر وسياحة من بين الأدوات التي استخدمها المجرمون في قتل ضحاياهم (متحف الجريمة)

«متحف الجريمة» في لندن... لأصحاب القلوب القوية

من براميل الأسيد التي استخدمها القاتل جون جورج هاي لتذويب ضحاياه والتي تعرف باسم Acid Bath «مغطس الأسيد» إلى الملابس الداخلية لـ«روز ويست».

عادل عبد الرحمن (لندن)
يوميات الشرق آلاف الحقائب التي خسرتها شركات الطيران في متجر الأمتعة بألاباما (سي إن إن)

المسافرون الأميركيون يفقدون ملايين الحقائب كل عام

داخل المساحة التي تبلغ 50 ألف قدم مربع، وإلى مدى لا ترى العين نهايته، تمتد صفوف من الملابس والأحذية والكتب والإلكترونيات، وغيرها من الأشياء المستخرجة من…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سفر وسياحة «ساحة تيفولي» في كوبنهاغن (الشرق الأوسط)

دليلك إلى أجمل أضواء وزينة أعياد الميلاد ورأس السنة حول العالم

زينة أعياد الميلاد ورأس السنة لها سحرها. يعشقها الصغار والكبار، ينتظرونها كل سنة بفارغ الصبر. البعض يسافر من بلد إلى آخر، فقط من أجل رؤية زينة العيد.

جوسلين إيليا (لندن)

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».