«ضباب» يخيم على الإعلام التونسي... وأهله غاضبون

نقيب الصحافيين لـ «الشرق الأوسط»: المشهد السياسي لم يهضم بعد مبدأ حرية التعبير

من اللقطات المتداولة بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي لمظاهرات حرية الصحافة في تونس
من اللقطات المتداولة بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي لمظاهرات حرية الصحافة في تونس
TT

«ضباب» يخيم على الإعلام التونسي... وأهله غاضبون

من اللقطات المتداولة بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي لمظاهرات حرية الصحافة في تونس
من اللقطات المتداولة بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي لمظاهرات حرية الصحافة في تونس

عندما تسأل التونسيين عن أبرز ما تحقق من مكاسب إثر ثورة 2011، يجمع معظمهم على أن حرية التعبير تمثل المكسب الأساسي الذي خرج به التونسيون من احتجاجات أطاحت بنظام حكم تواصل لمدة فاقت 23 عاماً. غير أن الكثير منهم سيشيرون بالتوازي إلى مآخذ حرية التعبير والصحافة في تونس، من خلال تدخل عدة أطراف، سواء عن طريق المال أو النفوذ السياسي، في المجال الإعلامي. كما أن الممارسين لمهنة الإعلام في تونس يعددون بدورهم العوائق الكثيرة التي تعترض ممارسة هذه المهنة الشاقة، التي تعتبر سلطة رابعة بعد السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعليها أن تلعب دوراً أفضل في تعديل ميزان القوى بين مختلف السلطات.
لا يخفي كثير من المتابعين الانزلاقات الكثيرة التي وقع فيها قطاع الصحافة، ومن بينها الإثارة والبحث المضني عن «السبق الصحافي» بطرق قد تخالف ميثاق شرف المهنة، وتتعارض مع مبدأ احترام الكرامة البشرية.
ويربط المتابعون للمشهد السياسي التونسي بين التدرج في تنفيذ المسار الديمقراطي وتنفيذ مبدأ حرية الإعلام والصحافة، ومن غير المنطقي - على حد تعبيرهم - الحديث عن مناخ ديمقراطي في ظل صحافة الرأي الواحد، والرأي الذي يخدم من ساقه في الركاب.
وتصرح القيادات السياسية المشاركة في الائتلاف الحاكم، وتتعهد في أكثر من مناسبة بـ«دعم قطاع الإعلام ومرافقته»، وتعتبر أنّ «حرية القطاع تعد مكسباً لا يمكن التراجع عنه».
وفي مقابل هذه التعهدات، انتقدت نقابة الصحافيين التونسيين أداء الحكومة تجاه قطاع الصحافة، وأكدت أن الحكومة «قدمت كثير الالتزامات للقطاع، لكنها بقيت حبراً على ورق»، وخالفت تعهداتها في مسألة إنقاذ الصحافة المكتوبة، التي تعاني من أزمة عميقة نتيجة تغير المشهد الإعلامي، وتكاثر وسائل الإعلام المنافسة.
ولم تفِ الحكومة التونسية بتعهد سابق يقضي بإحداث «صندوق لدعم الصحافة المكتوبة»، باعتمادات مالية لا تزيد على 5 ملايين دينار تونسي (نحو مليوني دولار أميركي)، واتهمت نقابة الصحافيين التونسيين الحكومة بعدم الاستجابة لمقترح اقتطاع نسبة من الإشهار العمومي لدعم موارد هذا الصندوق، ومن ثم توفير الدعم المالي للصحافة المكتوبة التي تعاني من مشكلات مالية وهيكلية عويصة.
وفي هذا الشأن، يؤكد ناجي البغوري، نقيب الصحافيين التونسيين، لـ«الشرق الأوسط» وجود مخاوف حقيقية من الردة التي تهدد قطاع الصحافة، ويرى أن مكونات المشهد السياسي التونسي، من أحزاب سياسية مشاركة في الحكم أو في المعارضة، لم تهضم بعد «مبدأ حرية الصحافة»، ولا تطري عليها إلا عندما تخدم مصالحها، وتشيد بإنجازاتها ومواقفها. أما إذا تعرضت الصحافة لأي طرف بالتقييم الموضوعي، على قاعدة «الخبر مقدس والتعليق حر»، فإن مختلف المساوئ ستصب على من تجرأ وأعلن رأيه بكل صراحة.
وفي تقييمه لوضع الصحافة التونسية، أفاد البغوري بأنها ما زالت في حاجة ملحة لعدد من القوانين والتشريعات المنظمة للمهنة، لحمايتها من مختلف التهديدات التي تتربص بها، وأكد أن نقابة الصحافيين تدعم على مدى وجودها جودة المنتج الإعلامي، وتعدد القراءات والمواقف والآراء، فهي الكفيلة بضمان مشهد إعلامي متطور بالفعل.
كانت تونس قد احتلت المرتبة 97 من أصل 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة لعام 2018، الذي أعدته منظمة «اليونيسكو»، وهي المرتبة ذاتها التي احتلتها خلال السنة الماضية.
ويعاني قطاع الصحافة في تونس من هشاشة الوضعيات المهنية. وخلال الفترة الزمنية الممتدة بين 3 مايو 2017، والتاريخ نفسه من السنة الحالية، سجلت نقابة الصحافيين التونسيين نحو 200 حالة طرد تعسفي للصحافيين من مواقع عملهم، كما أن أجور أكثر العاملين في قطاع الصحافة ما زالت ضعيفة، مقارنة بالأجور التي يتقاضها العاملون في بقية السلطات الثلاث. وللتأكيد على صعوبة وضع الصحافة التونسية خلال هذه الفترة، عقدت النقابة خلال السنة الماضية ما لا يقل عن 120 جلسة تفاوض في مؤسسات إعلامية عمومية وخاصة، تتعلق في معظمها بوضعيات مهنية، وعدم توفر ضمانات قانونية كافية للعاملين في قطاع الصحافة.
ويصطدم قطاع الصحافة بمشكل النفاذ إلى المعلومة، فهي مصدر الخبر والمشكلة لأهم مكوناته. وفي ظروف كالتي تعيشها تونس، من عدم استقرار سياسي كامل وتوفر الأمن، في ظل هجمات إرهابية تطل برأسها من فترة إلى أخرى، فإن الاصطدام بالمؤسستين الأمنية والعسكرية يمثل أهم عوائق العمل الصحافي. وفي هذا الشأن، قال محمود الذوادي، رئيس مركز حرية الصحافة (مركز مستقل)، إن المؤسسات الأمنية والعسكرية هي الأقل تجاوباً عند طلب الحصول على المعلومات، على الرغم من التحسن الكبير المسجل على مدى السنوات الماضية.
وقدم الذوادي نتائج دراسة أجراها المركز حول «محاذير وجود التعاطي مع المعلومة الحساسة والسرية في الإعلام التونسي»، فأكد على أن المؤسسة الأمنية تعد الأقل تجاوباً بنسبة 36 في المائة، تليها المؤسسة العسكرية بنسبة 32 في المائة.
وفي هذا الشأن، قال الذوادي لـ«الشرق الأوسط»: «لقد اتضح أننا في حاجة لفتح نقاش عام حول مصطلحي (المعلومة الحساسة) و(المعلومة السرية) التي لا تتعلق بالأمن والدفاع فحسب، بل يمكن أن تشمل العلاقات الخارجية للدولة والمجالات الاقتصادية المتنوعة».
وأشار الذوادي إلى وجود ضبابية وفراغ قانوني واضح بكل ما يعلق بـ«محاذير حماية الأمن القومي»، وعبر عن خشيته من تأثير هذا الوضع على حرية التعبير وانسياب المعلومات، وتواصل التهديدات والتحديات التي لم تنقطع على حد تعبيره، وظلت تتغذى من التقلبات السياسية والأمنية التي تعرفها تونس.
وللحد من «شراهة» القطاع الصحافي في تعامله مع المعلومات، سنت السلطات التونسية عدة مناشير داخلية، تحظر نشر المعطيات الإدارية أو تسريبها إلى الإعلام، من قبل أعوان القطاع العام في الوزارات والدواوين الحكومية، وهو ما سيضيق الخناق على القطاع الإعلامي، الذي قد يجد الأبواب موصدة في وجهه.
ومثلما يطالب الأمنيون والعسكريون بقانون لزجر الاعتداءات ضدهم، فإن العاملين في قطاع الإعلام يدعون إلى مدونة سلوك تنظم العلاقات بين الصحافيين والقوات الحاملة للسلاح، التي غالباً ما تنقل الأحداث من المواقع نفسها، سواء خلال الاحتجاجات الاجتماعية أو خلال تغطية الأحداث المرتبطة بالإرهاب. وتتخوف الهياكل النقابية المهتمة بواقع الصحافة التونسية من إمكانية حد مشروع قانون زجر الاعتداءات ضد الأمنيين والعسكريين من حرية تحرك الصحافيين وتغطية الأحداث، تحت ذريعة مقاومة الإرهاب، والمحافظة على أسرار الدولة، وحفظ النظام العام.
ونجحت الهياكل المهنية في ربح المعركة الأولى من أجل سن قانون يسمح بالنفاذ إلى المعلومات، ويستجيب للمعايير الدولية، واضطرت الحكومة إلى حذف مجموعة من الاستثناءات، لتتم المصادقة على هذا القانون في شهر مارس 2016. وكانت هذه المحطة مسبوقة بجدل حاد حول مشروع قانون مكافحة الإرهاب وغسل الأموال، الذي أدخلت عليه عدة تعديلات تضمن حق الصحافيين في حماية مصادر معلوماتهم عند تناول الملفات المتعلقة بالإرهاب.
وكانت آخر المحطات مشروع القانون الذي تقدمت به نقابة قوات الأمن الداخلي سنة 2015، وهو يتضمن زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح، وتضمن هذا القانون في بابه الثاني عقوبة تصل إلى السجن لمدة 10 سنوات لمن يكشف عن سر من أسرار الأمن الوطني. وتشمل هذه الأسرار جميع الوثائق والمعلومات والمعطيات المتعلقة بالأمن التونسي، مهما كانت الوسائل المعتمدة لاستعمالها وتداولها. ونجحت النقابات الأمنية في سحب هذا البند القانوني، بعد أن اعتبرته الأخطر في علاقته بالتضييق على حرية التعبير وحرية النفاذ إلى المعلومات.
وحسب المتابعين للمشهد الصحافي بتونس، فإن مختلف هذه الجولات والمحطات يؤكد على الصعوبات التي يعاني منها قطاع الصحافة المكتوبة في تونس، فهو في حاجة أكيدة إلى إعادة هيكلة داخلية، تعيد له النجاعة والمردودية الاقتصادية، ولكن كذلك تعيد الكثير من وسائل الإعلام الخاصة إلى ميثاق شرف المهنة، وضرورة التقيد بالقوانين المنظمة للقطاع. ولا يبدو أن رفع شعار حرية التعبير كاف لضمان تلك الحرية، بل إن الأمر يتطلب سجالاً يومياً مع عدة أطراف مهنية مالية وسياسية وأمنية لضمان هامش الحرية الذي تحقق بعد ثورة 2011.


مقالات ذات صلة

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي شخص يلوّح بعلم تبنته المعارضة السورية وسط الألعاب النارية للاحتفال بإطاحة الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق (رويترز)

فور سقوطه... الإعلام السوري ينزع عباءة الأسد ويرتدي ثوب «الثورة»

مع تغيّر السلطة الحاكمة في دمشق، وجد الإعلام السوري نفسه مربكاً في التعاطي مع الأحداث المتلاحقة، لكنه سرعان ما نزع عباءة النظام الذي قمعه لعقود.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

جهود خليجية لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي لمواجهة «الأخبار المزيّفة»

الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)
الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)
TT

جهود خليجية لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي لمواجهة «الأخبار المزيّفة»

الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)
الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)

بين التحديات الكبرى التي يواجهها الباحثون في تطوير الذكاء الاصطناعي ضمان الموضوعية مع التدفّق المعلوماتي المتسارع والمتزايد عبر شبكة الإنترنت، واستخدام وسائل عديدة لضخ مختلف المعطيات والمعلومات، بات من الصعب على المتلقي التمييز بين الحقيقة والدعاية من جهة وبين الإعلام الموضوعي والتأطير المتحيّز من جهة ثانية.

وهكذا، تتأكد أكثر فأكثر أهمية وجود تقنيات التحليل والكشف وتصفية (أو «فلترة») هذا الكم الهائل من المعطيات، توصلاً إلى وقف سيل المعلومات المضللة وإبعاد الإشاعات و«الأخبار المزيّفة»، وجعل شبكة الإنترنت مكاناً آمناً لنقل المعلومات والأخبار الصحيحة وتداولها. والواقع أنه مع التحول الرقمي المتسارع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، غدت «الأخبار المزيّفة» واحدة من أبرز التحديات التي تهدد المجتمعات حول العالم؛ إذ يجري تداول ملايين الأخبار والمعلومات يومياً، ما يجعل من الصعب على الأفراد - بل وحتى المؤسسات الإعلامية - التمييز بين ما هو صحيح وما هو مزيّف أو مضلِّل، وفي هذا السياق برزت تقنيات الذكاء الاصطناعي كأداة مبتكرة وفعّالة للكشف عن «الأخبار المزيفة» وتحليلها.

تُعرَّف «الأخبار المزيّفة» بأنها محتوى إعلامي يُنشأ ويُنشر بهدف التضليل أو التلاعب بالرأي العام، وغالباً ما يصار إلى استخدامه لتحقيق غايات سياسية واقتصادية أو اجتماعية. وتتنوّع تقنيات إنشاء «الأخبار المزيّفة» بين التلاعب البسيط بالمعلومات... واستخدام تقنيات متقدمة مثل التزييف العميق، الأمر الذي يزيد من تعقيد اكتشافها.

جهود مبتكرة

من هذا المنطلق والمبدأ، في العاصمة الإماراتية أبوظبي، يقود الدكتور بريسلاف ناكوف، أستاذ ورئيس قسم معالجة اللغة الطبيعية في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، جهوداً مبتكرة لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً تحليل الطرق المستخدمة في الإعلام للتأثير على الرأي العام. ويبرز ضمن أبرز إسهامات ناكوف تطوير تطبيق «فرابيه - FRAPPE»، وهو أداة تفاعلية مصممة لتحليل الأخبار عالمياً، حيث يقدم التطبيق رؤية شاملة حول أساليب الإقناع والخطاب المستخدمة في المقالات الإخبارية، ما يمكّن المستخدمين من فهم أعمق للسياقات الإعلامية المختلفة. ويشير ناكوف إلى أن «فرابيه» يساعد المستخدمين على تحديد كيفية صياغة الأخبار وتأطيرها في بلدان مختلفة، ما يتيح رؤية واضحة لتباينات السرد الإعلامي.

تحليل أساليب الإقناع

مع أن دراسة أساليب الإقناع لها جذور قديمة تعود إلى الفيلسوف الإغريقي القديم أرسطو، الذي أسس لمفاهيم الأخلاق والعاطفة والمنطق كأساس للإقناع، فإن فريق ناكوف أضاف تطويرات جديدة لهذا المجال.

وعبر تحليل 23 تقنية مختلفة للإقناع، مثل الإحالة إلى السلطة، واللعب على العواطف، وتبسيط الأمور بشكل مفرط، يُسهم «فرابيه» في كشف أساليب الدعاية وتأثيرها على القراء. وتُظهر هذه الأساليب كيف يمكن للإعلام أن يختار كلمات أو صوراً معينة لتوجيه فهم الجمهور. وكمثال، يمكن تأطير قضية تغيّر المناخ كمشكلة اقتصادية أو أمنية أو سياسية، حسب الإطار الذي تختاره الوسيلة الإعلامية.

التشديد على أهمية تقنيات التحليل والكشف و"فلترة" المعلومات لجعل شبكة الانترنت مكاناً آمناً. (رويترز)

تقنية التأطير الإعلامي

أيضاً من الخواص التي يستخدمها تطبيق «فرابيه» تحليل أساليب التأطير الإعلامي، وهنا يوضح ناكوف أن التطبيق يمكّن المستخدمين من مقارنة كيفية تناول وسائل الإعلام للقضايا المختلفة؛ إذ يستطيع التطبيق أن يُظهر كيف تركّز وسيلة إعلامية في بلد معيّن على الجوانب الاقتصادية لتغير المناخ، بينما قد تركز وسيلة إعلامية في بلد آخر على الجوانب السياسية أو الاجتماعية.

وفي هذا السياق، يعتمد التطبيق على بيانات متقدّمة مثل قاعدة بيانات «SemEval-2023 Task 3»، التي تحتوي على مقالات بأكثر من 6 لغات، ما يجعل «فرابيه» قادراً على تحليل محتوى إعلامي عالمي متنوع. ويستخدم التطبيق الذكاء الاصطناعي لتحديد الإطارات السائدة في الأخبار، كالهوية الثقافية أو العدالة أو المساواة ما يساهم في تقديم صورة أوضح للسياق الإعلامي.

الذكاء الاصطناعي أداة أساسية

الذكاء الاصطناعي أداة أساسية في تطبيق «فرابيه»؛ إذ إنه يتيح للتطبيق تحليل الأنماط اللغوية التي تؤثر على آراء القراء. وهنا يقول ناكوف، خلال حواره مع «الشرق الأوسط» عن قدرات التطبيق: «يُعد الذكاء الاصطناعي في (فرابيه) عنصراً أساسياً في تحليل وتصنيف واكتشاف الأنماط اللغوية المعقّدة التي تؤثر على آراء القراء وعواطفهم». ويضيف أن هذا التطبيق «يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد أساليب الإقناع والدعاية، مثل الشتائم ولغة الترهيب، والتنمّر والمبالغة والتكرار. ولقد جرى تدريب النظام على التعرّف على 23 تقنية مختلفة غالباً ما تكون دقيقة ومعقّدة في محتوى الوسائط في العالم الحقيقي».

ويتابع ناكوف شرحه: «... ويستخدم التطبيق أيضاً الذكاء الاصطناعي لإجراء تحليل التأطير، أي لتوصيف وجهات النظر الرئيسة التي تُناقش قضية ما من خلالها مثل الأخلاق والعدالة والمساواة والهوية السياسية والثقافية وما إلى ذلك. ويسمح هذا للتطبيق بتمييز الإطارات الأساسية التي تؤثّر على كيفية سرد القصص وإدراكها، وتسليط الضوء على الإطارات المهيمنة في المقالة ومقارنتها عبر مصادر الوسائط والبلدان واللغات».

التحيزات الإعلامية

من جهة ثانية، بين التحديات الكبرى التي يواجهها الباحثون في تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ضمان الموضوعية والتقليل من التحيّز. وفي هذا الجانب، يوضح ناكوف أن «فرابيه» يركّز على تحليل اللغة المستخدمة في المقالات وليس على تقييم صحتها أو موقفها السياسي، وكذلك يعتمد التطبيق على تصنيفات موضوعية وضعها صحافيون محترفون لتحديد أساليب الإقناع والدعاية، ما يقلل من مخاطر التحيّز.

وبالفعل، تمكن «فرابيه»، حتى الآن، من تحليل أكثر من مليوني مقالة تتعلق بمواضيع مثل الحرب الروسية الأوكرانية وتغير المناخ. ويدعم التطبيق راهناً تحليل المحتوى بـ100 لغة، ويخطط الفريق لتوسيع نطاقه ليشمل لغات إضافية وتحسين دقة التحليل، ما سيعزّز قدرة التطبيق على فهم الأنماط الإعلامية عالمياً.

وفي حين يأمل الباحثون أن يصبح هذا التطبيق أداة أساسية للصحافيين والأكاديميين لفهم أساليب الإقناع والدعاية، يشير ناكوف إلى أهمية تطوير مثل هذه التقنيات لمساعدة الناس على التمييز بين الحقائق والدعاية، خاصة في عصر تزايد استخدام المحتوى «المؤتمت» والمعلومات المضللة. وبالتوازي، يسهم «فرابيه» بدور حيوي في تمكين الجمهور من تحليل الأخبار بطريقة أكثر وعياً وموضوعية، ووفق ناكوف: «في عصرنا الحالي، يمكن أن تُستخدم أساليب الإقناع لتضليل الناس؛ ولهذا السبب نحتاج إلى أدوات تساعد في فهم اللغة التي تشكّل أفكارنا». وبالتالي، من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يصبح «فرابيه» نموذجاً لتطبيقات مستقبلية تسعى لتعزيز الشفافية في الإعلام وتقليل تأثير التضليل الإعلامي.

مكافحة «الأخبار المزيّفة»

في سياق متصل، تمثل خوارزميات الذكاء الاصطناعي نقلة نوعية في مكافحة «الأخبار المزيّفة»؛ حيث تعتمد على تقنيات متقدمة لتحليل النصوص والصور ومقاطع الفيديو.

ومن بين أبرز التقنيات المستخدمة في هذا المجال يمكن أيضاً تحليل النصوص؛ إذ تعتمد خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية على تحليل لغة المقالات والتحقق من الأسلوب، واكتشاف المؤشرات اللغوية التي قد تشير إلى التضليل.

كذلك تعمل أدوات الذكاء الاصطناعي على التحقّق من المصادر، وبالأخص من موثوقية المصادر الإعلامية من خلال تحليل تاريخ النشر والتكرار والمصداقية، والتعرف على التزييف البصري عن طريق استخدام تقنيات التعلم العميق للكشف عن الصور أو الفيديوهات المزيفة باستخدام خوارزميات يمكنها تحديد التلاعبات البصرية الدقيقة.

التحديات المستقبلية

ولكن، على الرغم من النجاح الكبير للذكاء الاصطناعي في هذا المجال، لا بد من القول إن التحديات لا تزال قائمة. من هذه التحديات تزايد تعقيد تقنيات التزييف، بما في ذلك عبر تطوّر تقنيات مثل «التزييف العميق» الذي يزيد مهمة كشف «الأخبار المزيّفة» صعوبة. وأيضاً ثمة مشكلة «تحيّز البيانات (أو المعطيات)» حيث يمكن أن تتأثر خوارزميات الذكاء الاصطناعي ببيانات التدريب، ما قد يؤدي إلى نتائج قليلة الدقة أو متحيزة. وبالطبع، لا ننسى أيضاً إشكالية التنظيم القانوني مع طرح استخدام الذكاء الاصطناعي في هذا السياق تساؤلات حول الخصوصية والموثوقية والمسؤولية القانونية.