هل انتهى زمن «العمارة المعولمة»؟

«مساحات من دون حدود» في بينالي البندقية الـ 16

TT

هل انتهى زمن «العمارة المعولمة»؟

بينالي البندقية لفن العمارة في دورته الجديدة هو فضاء حر، فضاء عمومي، مساحات من دون حدود، وتصور للمشاركة الجماعية؛ إنه فضاء غير تجاري، بل قابل للمشاركة من الجميع، مجاني يتسم بطابع الضيافة. والمعاني الممكنة التي تضفى على محور كهذا هي معاني متعددة، حيث إن هذا المحور يجعل فن العمارة «فناً تغلب عليه سمة الانفتاح أكثر من غيره»، مثلما يقول المعماري الإيطالي باولو بارتا، رئيس البينالي.
وتوافق على هذا المنظور المهندستان المعماريتان إيفون فاريل وشيلي نمارى، الآيرلنديتان اللتان اقترحتا موضوع البينالي في دورته الجديدة، وهما تقولان إنهما تقودهما فكرة إبراز طموح المرأة المعمارية، سواء أكانت مشهورة في عالم المعمار أو غير معروفة، لكن لها طموح في تقديم خدمة، وأن تخلق ولو بمصنوع يدوي شيئاً ما لجماعة بشرية أو لأمة من الناس، وهو طموح غالباً ما يصطدم مع نيات سماسرة يغلب عليهم مفهوم الربح.
ويقول رئيس البينالي، باولو براتّا، وفي السياق نفسه: «إن أكبر التجار شيطنة يبني فضاء عمومياً، ولو مسلكاً أو مسرباً، ممراً أو مكاناً للاستراحة أو ساحة تدر عليه الأرباح».
على عكس ذلك، يقدم العارضون الواحد والسبعون، الذين يمثلون 63 دولة، من ضمنها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ولبنان، أفكارهم عن «مساحات من دون حدود»، ويتحركون بين بنايات تاريخية أعيدت إلى الحياة، بنايات منسية نفخت فيها الحياة من جديد، ضروب تحويلية للسكن، وبني تحتية ترجمت إلى مبانٍ عمومية ومدنية.
من هنا، تطفو على سطح هذه الفعالية مفاهيم الهبة التي تتلقاها الهندسة المعمارية من الطبيعة (الضوء، والأرض، والهواء، وقوة الجاذبية). وتقول الراعيتان للبينالي: «إن الهندسة المعمارية، بالنسبة إلينا، هي ترجمة الضرورة، بالمعنى الواسع للكلمة، إلى فضاء ذي معنى»، مشيرتين إلى معماريات الماضي اللواتي اهتممن بمثل هذا الموقف: من الكرسي الإسمنتي المغلف بالجليز الذي صممه الدنماركي جون أوتزون أمام منزل خاص في مايوركا، إلى المكان ذي المنظر الرائع الذي أبدعته لينا بو باردي تحت متحف الفن الحديث بسان باولو بالبرازيل.
ليس من اليسير أن تقاس هذه المجهودات على هذه الحالات النموذجية. لكن في هذا البينالي، حاول ذلك المعماري البرتغالي المتميز ألفارو سيزا، والإنجليزي ديفيد شيبارفيلد، وهما نجمان عالميان في هذا المجال، وإلى جانبهم نجد أيضاً المهندسة اليابانية كازويو سجيما، والبرتغالي إدواردو سوتو دي مورا، والإسباني رفائيل مونايو، والفرنسية أوديل داك، والياباني تويو إيتو، والبرازيلي باولو مانداس دي روكا، والمهندس الشيلي الياندرو ارافينا الذي كان قيّماً على البينالي السابق (منذ سنتين).
ويشد أزر هؤلاء جميعاً جوزابينا غراسّو كانتسو الإيطالية، التي تهتم بالمعماريات الصغيرة ذات الصرامة والقوة، وكذلك المعمارية لاورا بريتّي التي تقدم مشروعها المتعلق بإنقاذ بناية المساكن الشعبية (الكورفيالي بروما)، الممتدة إلى كيلومتر تقريباً، التي اعتبرت، خطأ، مولدة للانحراف. فأعادت بريتّي رسم وتخطيط المداخل إلى مشروعها الجميل، وأنجزت ساحة تمر من تحت البناية، وتكون وصلة بين هذا الجزء من المدينة والريف الروماني.
وتؤكد القيّمتان على المعرض الكبير على أن تكون المعروضات كلها في علاقة وطيدة مع مدينة البندقية، وبالذات مع الترسانة الكبيرة التي يقام بها المعرض، التي تُعتبر وعاء محايداً، بل كقطعة ذات معنى مثل سائر الأجزاء القليلة للمدينة ولقنواتها المائية وجندولاتها الساحرة.
بينالي البندقية الدولي في دورته السادسة عشرة لهذا العام ينتفض على الحلم الصناعي والتكنولوجي الذي ساد منذ بدايات القرن العشرين، والذي أنتج تيارات معمارية معولمة سادت عدة عقود، وتبنت طروحات خاطئة للإنسان والبيئة لا علاقة لها بالأرض، حملت معها مفاهيمها وطرزها المعمارية التي ترتكز على مفاهيم الكتل الإسمنتية والهياكل الفخمة المعدنية والزجاجية المتراصة لتتباهى بهياكلها الإنشائية الشامخة الارتفاع، لتجعل من سكن الإنسان أشبه بعش العصافير الصغيرة خلف زجاجها ومعادنها وإسمنتها. وفيما يخص العرض الإيطالي المتميز، فقد ركز على المناطق الداخلية، متتبعاً مجرى جهات جبال الابانيني، من الشمال الإيطالي في انحداره جنوباً، أي على منطقة أكبر من نصف البلاد. في هذه المناطق، يسكن إيطالي واحد من أربعة، وإن كان الكثير من الناس يغادرون هذه البقاع، فإن ثمة آخرين يقاومون بعناد دؤوب، وآخرون - وإن كانوا قلة - يقررون بشجاعة أن يشدو رحالهم إلى تلك المناطق للعيش فيها.
- العمارة... والخير والشر
يقول المعماري الشهير ماريو كوشينيلا، القّيم على الجناح الإيطالي، إن «تلك المناطق توفر عملاً كثيراً وكبيراً بالنسبة إلى المعماريين. ولو توفرت الإرادات الطيبة، فإن الهندسة المعمارية بإمكانها أن تعمل الخير الكثير، وبالعكس. فقد يكون عملها خطيراً جداً (على البيئة ببعديها الطبيعي والاجتماعي - الثقافي)».
أما العنوان الذي اختير للجناح الإيطالي، فهو «أرخبيل إيطاليا». ومثلما شرح المعماري كوشينِلا، فهو عنوان يحدد شبكة من الجزر المترابطة فيما بينها، التي تظهر فيه خريطة إيطاليا من دون المناطق المدنية الكبيرة مقّطعة الأوصال تقطيعاً، لا يخلو من جانب استيطيقي، لما فيه من نتوءات والتواءات، وكأنها قد فصلت وبرئت لتخرج على صورة الخطوط المنحرفة والمائلة وغير المتكاملة، متنوعة بالخاصيات البيئية وغنية بالموارد.
وهكذا، ففي الموقع الذي اختاره كوشينلا لمعرضه في الترسانة (الآرسنال)، يعرض فيه ما يمكن أن تقوم به الهندسة المعمارية من عمل في تلك المناطق كي تعود من جديدة آهلة بالسكان، مما يضفي عليها طابعاً يتسم بالجمال. وحسب هذه الاستراتيجية المعمارية، فإن العمل يقتضي التعاون بمشاريع متنوعة ومتكاملة من جنس المشاريع الفلاحية، وحماية البيئة، والأعمال الحرفية، والبنى التحتية، وحيث أمكن مشاريع صناعية.
وقد أكد، في هذا السياق، الإيطالي باولو براتّا، رئيس البينالي، في مؤتمره الصحافي في نقابة الصحافيين الأجانب في روما، أن كل ذلك يتمفصل في جناح إيطاليا مع المحور الإجمالي لهذا المعرض العالمي الكبير، الذي أرادته المهندستان وصاحبتا المشاريع إيفون فارّيل وشيلّي نماري، اللتان تقولان إن الفضاء الحر موجه لخلق «العمارة التي توفر فضاءات حرة، مجانية وعمومية لمن يستخدمها».
وقبل انطلاق البينالي، فإن كوشنيلا قد وجه نداء لأهل الاختصاص بإرسال مشاريعهم. وفعلاً، فقد تلقى 550 مشروعاً، انتقي منها 65، إلا أن الخيارات كما هو واضح للزائر تتحدد على النماذج البلاستيكية، التي لا تتوفر على أبعاد كبيرة، والتي أعادت رتق وإتمام الأعمال التي لم تكتمل، أو أن تختط ساحة أو حديقة، وهذا ما قاله كوشينِلا الذي له رصيد كبير في المعماريات، سواء في إيطاليا أو خارجها، لا سيما أنه كان القيّم على مشروع «ج 124» الذي شهدته ضواحي كثير من المدن، نفذّها المعماري الإيطالي الشهير رينسو بيانو.
- مشاركة السعودية
وتشارك المملكة العربية السعودية لأول مرة بمعرض بينالي البندقية في إيطاليا، ويركز جناحها على منجزات أعوام السبعينات والثمانينات الميلادية، التي قام بها معهد «مسك» للفنون. وقد ساهمت كل من جامعتي المعهد العالي للتصميم والعمارة في البندقية ومعهد «كافوسكاري» في إعداد البرنامج التدريبي للمرشحين والمرشحات من المملكة للمساهمة بهذه الفعالية، وضمن مفهوم «العمارة السلمانية» التي انتهجت المحافظة على الموروث الثقافي للمكان، مستجيبة في الوقت ذاته لأطوار التحديث في العمران.
ويُذكر أنّ لجنة المعرض اختارت موقعاً مميزاً للمشاركة السعودية، يعكس مكانة المملكة إقليمياً ودولياً، وذلك في «آرسنال البندقية»، وهو المبنى الأبرز داخل منطقة البينالي، الذي كان يُعتبر مجمعاً لأحواض بناء السفن القديمة في المدينة. ومن الملاحظ أنّ نماذج التصاميم المعمارية المختارة للجناح السعودي تسعى لإظهار الحلول المناسبة لمعالجة تلك المساحات التي أدت في فترة من فترات التطور الحضري إلى توسّع الضواحي السكنية المحيطة بالمدن، وما تبعه من تقدم في المراكز الحضرية السعودية، بهجرة الريف وظهور مناطق سكنية كبيرة في جوانب المدن الكبرى، مكونة بذلك أحياء معزولة وغير مترابطة.



«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
TT

«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)

وجدت دراسة جديدة، أجراها فريق من الباحثين في كلية الطب بجامعة نورث وسترن الأميركية، أن الأجزاء الأكثر تطوراً وتقدماً في الدماغ البشري الداعمة للتفاعلات الاجتماعية -تسمى بالشبكة المعرفية الاجتماعية- متصلة بجزء قديم من الدماغ يسمى اللوزة، وهي على اتصال باستمرار مع تلك الشبكة.

يشار إلى اللوزة تُعرف أيضاً باسم «دماغ السحلية»، ومن الأمثلة الكلاسيكية لنشاطها الاستجابة الفسيولوجية والعاطفية لشخص يرى أفعى؛ حيث يصاب بالذعر، ويشعر بتسارع ضربات القلب، وتعرّق راحة اليد.

لكن الباحثين قالوا إن اللوزة تفعل أشياء أخرى أكثر تأثيراً في حياتنا.

ومن ذلك ما نمر به أحياناً عند لقاء بعض الأصدقاء، فبعد لحظات من مغادرة لقاء مع الأصدقاء، يمتلئ دماغك فجأة بأفكار تتداخل معاً حول ما كان يُفكر فيه الآخرون عنك: «هل يعتقدون أنني تحدثت كثيراً؟»، «هل أزعجتهم نكاتي؟»، «هل كانوا يقضون وقتاً ممتعاً من غيري؟»، إنها مشاعر القلق والمخاوف نفسها، ولكن في إطار اجتماعي.

وهو ما علّق عليه رودريغو براغا، الأستاذ المساعد في علم الأعصاب بكلية فاينبرغ للطب، جامعة نورث وسترن، قائلاً: «نقضي كثيراً من الوقت في التساؤل، ما الذي يشعر به هذا الشخص، أو يفكر فيه؟ هل قلت شيئاً أزعجه؟».

وأوضح في بيان صحافي صادر الجمعة: «أن الأجزاء التي تسمح لنا بالقيام بذلك توجد في مناطق الدماغ البشري، التي توسعت مؤخراً عبر مسيرة تطورنا البشري. في الأساس، أنت تضع نفسك في عقل شخص آخر، وتستنتج ما يفكر فيه، في حين لا يمكنك معرفة ذلك حقّاً».

ووفق نتائج الدراسة الجديدة، التي نُشرت الجمعة في مجلة «ساينس أدفانسز»، فإن اللوزة الدماغية، بداخلها جزء محدد يُسمى النواة الوسطى، وهو مهم جدّاً للسلوكيات الاجتماعية.

كانت هذه الدراسة هي الأولى التي أظهرت أن النواة الوسطى للوزة الدماغية متصلة بمناطق الشبكة المعرفية الاجتماعية التي تشارك في التفكير في الآخرين.

لم يكن هذا ممكناً إلا بفضل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وهي تقنية تصوير دماغ غير جراحية، تقيس نشاط الدماغ من خلال اكتشاف التغيرات في مستويات الأكسجين في الدم.

وقد مكّنت هذه المسوحات عالية الدقة العلماء من رؤية تفاصيل الشبكة المعرفية الاجتماعية التي لم يتم اكتشافها مطلقاً في مسوحات الدماغ ذات الدقة المنخفضة.

ويساعد هذا الارتباط باللوزة الدماغية في تشكيل وظيفة الشبكة المعرفية الاجتماعية من خلال منحها إمكانية الوصول إلى دور اللوزة الدماغية في معالجة مشاعرنا ومخاوفنا عاطفياً.

قالت دونيسا إدموندز، مرشح الدكتوراه في علم الأعصاب بمختبر «براغا» في نورث وسترن: «من أكثر الأشياء إثارة هو أننا تمكنا من تحديد مناطق الشبكة التي لم نتمكن من رؤيتها من قبل».

وأضافت أن «القلق والاكتئاب ينطويان على فرط نشاط اللوزة الدماغية، الذي يمكن أن يسهم في الاستجابات العاطفية المفرطة وضعف التنظيم العاطفي».

وأوضحت: «من خلال معرفتنا بأن اللوزة الدماغية متصلة بمناطق أخرى من الدماغ، ربما بعضها أقرب إلى الجمجمة، ما يسهل معه استهدافها، يمكن لتقنيات التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة استهداف اللوزة الدماغية، ومن ثم الحد من هذا النشاط وإحداث تأثير إيجابي فيما يتعلق بالاستجابات المفرطة لمشاعر الخوف والقلق».