أواسط القرن الخامس الميلادي وصلت جحافل البرابرة إلى إيطاليا بعد أن كانت قد دمّرت وأحرقت ما في طريقها من آسيا، وضربت الحصار على روما التي سرعان ما انهارت أسوارها ودخلها الفاتحون الذين لم يتركوا من عاصمة الإمبراطورية سوى الآثار التي يتوافد السيّاح اليوم لزيارتها. «البرابرة الجدد هم اليوم في روما يستعدون للإمساك بزمام الحكم في القوة الاقتصادية الثالثة في الاتحاد الأوروبي الذي شهد النور في العاصمة الإيطالية منذ 61 عاماً»... هذا ما قاله أحد المسؤولين في المفوضية الأوروبية منذ أيام، ونقلته «الفاينانشيال تايمز» البريطانية الرصينة، ليثير عاصفة احتجاج في إيطاليا التي تحاول منذ مطلع مارس (آذار) الماضي تشكيل الحكومة رقم 67 في أقل من 75 عاماً.
لكن إن لم تحصل مفاجآت قبل نهاية هذا الأسبوع سيعلن رئيس الجمهورية سرجيو ماتّاريلّا يوم الاثنين تشكيلة الحكومة الجديدة التي اتفقت عليها «حركة النجوم الخمس» و«رابطة الشمال»، واسم الرئيس الجديد الذي ما زال يشكّل العقبة الأخيرة والكبرى لإنجاز العقد الحكومي بين الحركة الشعبوية التي نالت 33 في المائة من الأصوات في الانتخابات الأخيرة والرابطة اليمينية المتطرفة التي نالت 17 في المائة. القلق على أشده في بروكسل من هذا الكابوس الذي ينذر بمسلسل من الأزمات التي تقضّ مضجع المفوضية العاكفة منذ سنوات على ترميم ما تصدّع بعد الأزمة المالية عام 2008 والانسحاب البريطاني من الاتحاد وصعود الأحزاب والقوى السياسية المناهضة للمشروع الأوروبي. وقد بلغ القلق حدّ إطلاق صفّارات الإنذار في الساعات الأخيرة بعد الإعلان عن مضمون الاتفاق الذي توصل إليه الطرفان، والذي يضرب عرض الحائط بكل النصائح والتمنيات والتحذيرات التي صدرت عن المسؤولين الأوروبيين في الأيام الخيرة. ويستفاد من وثيقة الاتفاق التي سُرِّبت عناوينها أن كفّة «رابطة الشمال» هي التي رجحت مقابل التخلّي لـ«حركة النجوم الخمس» عن اختيار الرئيس رغم رفضها القاطع أن يكون قائد الحركة لويجي دي مايو (31 عاماً) الخصم اللدود لسيلفيو برلوسكوني. ويبدو من شبه المحسوم أن زعيم الرابطة ماتّيو سالفيني المعروف بمواقفه المتطرفة من موضوع الهجرة التي كانت حصان معركته الانتخابية والسبب الرئيس في صعود شعبيته، هو الذي سيتولّى وزارة الداخلية على أن يتولّى دي ماّيو حقيبة العمل.
وينصّ الاتفاق على اعتماد ضريبة مقطوعة بنسبة 15 في المائة، والطرد الفوري لكل المهاجرين غير الشرعيين (بعضهم يعيش في إيطاليا منذ أكثر من عشر سنوات)، وإقفال المعسكرات التي يعيش فيها عشرات الآلاف من الغجر الوافدين من رومانيا في معظمهم، وخفض الضرائب على المحروقات، وحصر الدعم التربوي المقدّم للأسر بالإيطاليين فقط، ومنح كل مواطن إيطالي عاطل عن العمل راتباً شهرياً مقداره 780 يورو، والعودة بالاتحاد الأوروبي إلى معاهدة ماستريخت.
ومما يرفع من منسوب الخشية في الأوساط الأوروبية تحالفات سالفيني على الصعيد الأوروبي، حيث تربطه علاقة تحالف آيديولوجي مع زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية ماري لوبان التي شاركت في حملته الانتخابية، وإعجابه المعلن بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبالرئيس الأميركي دونالد ترمب، فضلاً عن مطالباته المتكررة بإجراء استفتاء حول الخروج من منطقة اليورو. الأوساط المالية من جهتها بدأت ترسل الإشارة تلو الأخرى إزاء البرنامج الاقتصادي للحكومة الجديدة. فقد واصلت بورصة ميلانو تراجعها المضطرد منذ أيام في حين انهارت أسهم مصرف باسكي دي سيينا (أقدم مصرف في العالم) في أعقاب تصريحات أحد مستشاري سالفيني حول «إعادة النظر في وضعه». وكانت المفوضية الأوروبية قد حذّرت من أن الاقتصاد الإيطالي الذي يعاني من الركود منذ عشرين عاماً، ليس قادراً على تحمّل التكلفة الباهظة التي ستنشأ عن بعض الاقتراحات التي وردت ضمن الوعود الانتخابية للطرفين، والتي استقرّ معظمها في الاتفاق الذي ستقوم على أساسه الحكومة الجديدة.
أما أوساط رئاسة الجمهورية الإيطالية المعروفة عادة بتكتمها، فقد خرجت عن مألوفها وبدأت تسرّب معلومات عن استياء الرئيس ماتـّاريلّا من الأسلوب الذي يتبّعه الطرفان لتشكيل الحكومة ومن التقلبّات المتكررة في المواقف، وخشيته من أن هذه العلاقة المبنية على الريبة والتشكيك والاستياء المتبادل والوصفات المرتجلة لمشكلات متوطّنة، هي أشبه بقنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة أمام أول امتحان لتغرق البلاد في أزمة خطيرة. الأمل الوحيد المتبقّي عند ماتّاريلّا هو أن يفشل الطرفان في الاتفاق على تسمية رئيس للحكومة، ليبادر هو فوراً إلى الإعلان عن تشكيلة الحكومة الحيادية الجاهزة على مكتبه.
حكومة ائتلافية إيطالية قاب قوسين
بروكسل قلقة من «الكابوس» اليميني الشعبوي
حكومة ائتلافية إيطالية قاب قوسين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة